الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          [ ص: 112 ] المسألة الخامسة

          خبر الواحد إذا ورد موجبا للعمل فيما تعم به البلوى ، كخبر ابن مسعود [1] في نقض الوضوء بمس الذكر ، وخبر أبي هريرة في غسل اليدين عند القيام من نوم الليل ، وخبره في رفع اليدين في الركوع ، والأكل في الصوم ناسيا ونحوه ، مقبول عند الأكثرين ، خلافا للكرخي [2] وبعض أصحاب أبي حنيفة .

          ودليل ذلك النص ، والإجماع ، والمعقول ، والإلزام ، أما النص فقوله تعالى : ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) أوجب الإنذار على كل طائفة خرجت للتفقه في الدين ، وإن كانت آحادا ، وهو مطلق فيما تعم به البلوى ، وما لا تعم ، ولولا أنه واجب القبول لما كان لوجوبه فائدة ، وتقريره كما سبق ، وأما الإجماع ، فهو أن الصحابة اتفقت على العمل بخبر الواحد فيما تعم به البلوى .

          فمن ذلك ما روي عن ابن عمر ، أنه قال : كنا نخابر أربعين سنة لا نرى بذلك بأسا ، حتى روى لنا رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فانتهينا .

          ومن ذلك رجوع الصحابة بعد اختلافهم في وجوب الغسل بالتقاء الختانين من غير إنزال إلى خبر عائشة ، وهو قولها إذا التقى الختانان وجب الغسل ، أنزل أو لم ينزل ، فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واغتسلنا .

          ومن ذلك : رجوع أبي بكر وعمر في سدس الجدة لما قال لها " لا أجد لك في كتاب الله شيئا " إلى خبر المغيرة ، وهو قوله : إن النبي صلى الله عليه وسلم أطعمها السدس وصار ذلك إجماعا .

          وأما المعقول فمن وجهين : [ ص: 113 ] الأول : أن الراوي عدل ثقة ، وهو جازم بالرواية فيما يمكن فيه صدقه ، وذلك يغلب على الظن صدقه ، فوجب تصديقه كخبره فيما لا تعم به البلوى .

          الثاني : أنه يغلب على الظن ، فكان واجب الاتباع ، كالقياس ، والمسألة ظنية ، فكان الظن فيها حجة .

          وأما الإلزام فهو أن الوتر وحكم الفصد والحجامة والقهقهة في الصلاة ، ووجوب الغسل من غسل الميت ، وإفراد الإقامة وتثنيتها ، فمن قبيل ما تعم به البلوى ، ومع ذلك فقد أثبتها الخصوم بأخبار الآحاد ، فإن قيل لا نسلم إجماع الصحابة على العمل بخبر الواحد فيما تعم به البلوى ، فإن أبا بكر رد خبر المغيرة في الجدة .

          وما ذكرتموه من المعقول فمبني على أن خبر الواحد فيما تعم به البلوى مظنون ، وليس كذلك ، وبيانه من وجهين .

          الأول : أن ما تعم به البلوى ، كخروج الخارج من السبيلين ، ومس الذكر مما يتكرر في كل وقت ، فلو كانت الطهارة مما تنتقض به لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم إشاعته وأن لا يقتصر على مخاطبة الآحاد به ، بل يلقيه على عدد التواتر مبالغة في إشاعته ، حتى لا يفضي ذلك إلى إبطال صلاة أكثر الخلق ، وهم لا يشعرون فحيث لم ينقله سوى الواحد دل على كذبه .

          الثاني : أن ذلك مما يكثر السؤال عنه ، والجواب والدواعي متوفرة على نقله .

          فحيث انفرد به الواحد دل على كذبه ، كانفراد الواحد بنقل قتل أمير البلد في السوق ، بمشهد من الخلق وطروء حادثة منعت الناس من صلاة الجمعة ، وإن الخطيب سب الله ورسوله على رأس المنبر ذلك من الوقائع ، ولهذا فإنه لما كان القرآن مما تعم به البلوى ، بمعرفته امتنع إثباته بخبر الواحد .

          وأما ما ذكرتموه من الإلزامات فغير مساوية في عموم البلوى لمس الذكر ، فلا تكون في معناه .

          والجواب عن رد أبي بكر بخبر المغيرة في الجدة ، أنه لم يكن مطلقا ; ولهذا عمل به لما تابعه على ذلك محمد بن مسلمة ، وخبرهما غير خارج عن الآحاد .

          [ ص: 114 ] وما ذكروه في الوجه الأول من التكذيب فإنما يصح أن لو كان النبي صلى الله عليه وسلم مكلفا بالإشاعة على لسان أهل التواتر ، وهو غير مسلم .

          قولهم إنه يلزم من عدم ذلك إبطال صلاة أكثر الخلق ، لا نسلم ، فإن من لم يبلغه ذلك ، فالنقض غير ثابت في حقه .

          ولا تكليف بمعرفة ما لم يقم عليه دليل .

          وما ذكروه في الوجه الثاني فإنما يلزم توفر الدواعي على نقله إن لو كان لا طريق إلى إثباته سوى النقل المتواتر ، وأما إذا كان طريق معرفة ذلك إنما هو الظن ، فخبر الواحد كاف فيه ، ولهذا جاز إثباته بالقياس إجماعا ، وما استشهدوا به من الوقائع فغير مناظرة لما نحن فيه ، إذ الطباع مما تتوفر على نقلها وإشاعتها عادة ، فانفراد الواحد يدل على كذبه [3] .

          ثم ما ذكروه من الوجهين منتقض عليهم حيث عملوا بأخبار الآحاد فيما ذكرناه من صور الإلزام ومس الذكر ، وإن كان أعم في الوقوع من تلك الصور ، فذلك لا يخرج تلك الصورة عن كونها واقعة في عموم البلوى .

          وأما القرآن فإنما امتنع إثباته بخبر الواحد ، لا لأنه مما تعم به البلوى ، بل لأنه المعجز في إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، وطريق معرفته متوقف على القطع ، ولذلك وجب على النبي إشاعته وإلقاؤه على عدد التواتر [4] .

          ولا كذلك ما نحن فيه ، فإن الظن كاف فيه ، ولذلك يجوز إثباته بالقياس ، وما عدا القرآن مما أشيع إشاعة اشترك فيها الخاص والعام ، كالعبادات الخمس ، وأصول المعاملات كالبيع والنكاح والطلاق والعتاق ، وغير ذلك من الأحكام مما كان يجوز أن لا يشيع ، فذلك إما بحكم الاتفاق ، وإما لأنه صلى الله عليه وسلم كان متعبدا بإشاعته ، والله أعلم [5] .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية