[ ص: 112 ] المسألة الخامسة
، كخبر خبر الواحد إذا ورد موجبا للعمل فيما تعم به البلوى ابن مسعود [1] في نقض الوضوء بمس الذكر ، وخبر في غسل اليدين عند القيام من نوم الليل ، وخبره في رفع اليدين في الركوع ، والأكل في الصوم ناسيا ونحوه ، مقبول عند الأكثرين ، خلافا أبي هريرة للكرخي [2] وبعض أصحاب أبي حنيفة .
ودليل ذلك النص ، والإجماع ، والمعقول ، والإلزام ، أما النص فقوله تعالى : ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) أوجب الإنذار على كل طائفة خرجت للتفقه في الدين ، وإن كانت آحادا ، وهو مطلق فيما تعم به البلوى ، وما لا تعم ، ولولا أنه واجب القبول لما كان لوجوبه فائدة ، وتقريره كما سبق ، وأما الإجماع ، فهو أن الصحابة اتفقت على العمل بخبر الواحد فيما تعم به البلوى .
فمن ذلك ما روي عن ، أنه قال : ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فانتهينا رافع بن خديج . كنا نخابر أربعين سنة لا نرى بذلك بأسا ، حتى روى لنا
ومن ذلك رجوع الصحابة بعد اختلافهم في وجوب الغسل بالتقاء الختانين من غير إنزال إلى خبر عائشة ، وهو قولها . إذا التقى الختانان وجب الغسل ، أنزل أو لم ينزل ، فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واغتسلنا
ومن ذلك : رجوع أبي بكر وعمر في سدس الجدة لما قال لها " لا أجد لك في كتاب الله شيئا " إلى خبر المغيرة ، وهو قوله : وصار ذلك إجماعا . إن النبي صلى الله عليه وسلم أطعمها السدس
وأما المعقول فمن وجهين : [ ص: 113 ] الأول : أن الراوي عدل ثقة ، وهو جازم بالرواية فيما يمكن فيه صدقه ، وذلك يغلب على الظن صدقه ، فوجب تصديقه كخبره فيما لا تعم به البلوى .
الثاني : أنه يغلب على الظن ، فكان واجب الاتباع ، كالقياس ، والمسألة ظنية ، فكان الظن فيها حجة .
وأما الإلزام فهو أن الوتر وحكم الفصد والحجامة والقهقهة في الصلاة ، ووجوب الغسل من غسل الميت ، وإفراد الإقامة وتثنيتها ، فمن قبيل ما تعم به البلوى ، ومع ذلك فقد أثبتها الخصوم بأخبار الآحاد ، فإن قيل لا نسلم إجماع الصحابة على العمل بخبر الواحد فيما تعم به البلوى ، فإن أبا بكر رد خبر المغيرة في الجدة .
وما ذكرتموه من المعقول فمبني على أن خبر الواحد فيما تعم به البلوى مظنون ، وليس كذلك ، وبيانه من وجهين .
الأول : أن ما تعم به البلوى ، كخروج الخارج من السبيلين ، ومس الذكر مما يتكرر في كل وقت ، فلو كانت الطهارة مما تنتقض به لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم إشاعته وأن لا يقتصر على مخاطبة الآحاد به ، بل يلقيه على عدد التواتر مبالغة في إشاعته ، حتى لا يفضي ذلك إلى إبطال صلاة أكثر الخلق ، وهم لا يشعرون فحيث لم ينقله سوى الواحد دل على كذبه .
الثاني : أن ذلك مما يكثر السؤال عنه ، والجواب والدواعي متوفرة على نقله .
فحيث انفرد به الواحد دل على كذبه ، كانفراد الواحد بنقل قتل أمير البلد في السوق ، بمشهد من الخلق وطروء حادثة منعت الناس من صلاة الجمعة ، وإن الخطيب سب الله ورسوله على رأس المنبر ذلك من الوقائع ، ولهذا فإنه لما كان القرآن مما تعم به البلوى ، بمعرفته امتنع إثباته بخبر الواحد .
وأما ما ذكرتموه من الإلزامات فغير مساوية في عموم البلوى لمس الذكر ، فلا تكون في معناه .
والجواب عن رد أبي بكر بخبر المغيرة في الجدة ، أنه لم يكن مطلقا ; ولهذا عمل به لما تابعه على ذلك محمد بن مسلمة ، وخبرهما غير خارج عن الآحاد .
[ ص: 114 ] وما ذكروه في الوجه الأول من التكذيب فإنما يصح أن لو كان النبي صلى الله عليه وسلم مكلفا بالإشاعة على لسان أهل التواتر ، وهو غير مسلم .
قولهم إنه يلزم من عدم ذلك إبطال صلاة أكثر الخلق ، لا نسلم ، فإن من لم يبلغه ذلك ، فالنقض غير ثابت في حقه .
ولا تكليف بمعرفة ما لم يقم عليه دليل .
وما ذكروه في الوجه الثاني فإنما يلزم توفر الدواعي على نقله إن لو كان لا طريق إلى إثباته سوى النقل المتواتر ، وأما إذا كان طريق معرفة ذلك إنما هو الظن ، فخبر الواحد كاف فيه ، ولهذا جاز إثباته بالقياس إجماعا ، وما استشهدوا به من الوقائع فغير مناظرة لما نحن فيه ، إذ الطباع مما تتوفر على نقلها وإشاعتها عادة ، فانفراد الواحد يدل على كذبه [3] .
ثم ما ذكروه من الوجهين منتقض عليهم حيث عملوا بأخبار الآحاد فيما ذكرناه من صور الإلزام ومس الذكر ، وإن كان أعم في الوقوع من تلك الصور ، فذلك لا يخرج تلك الصورة عن كونها واقعة في عموم البلوى .
وأما القرآن فإنما امتنع إثباته بخبر الواحد ، لا لأنه مما تعم به البلوى ، بل لأنه المعجز في إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، وطريق معرفته متوقف على القطع ، ولذلك وجب على النبي إشاعته وإلقاؤه على عدد التواتر [4] .
ولا كذلك ما نحن فيه ، فإن الظن كاف فيه ، ولذلك يجوز إثباته بالقياس ، وما عدا القرآن مما أشيع إشاعة اشترك فيها الخاص والعام ، كالعبادات الخمس ، وأصول المعاملات كالبيع والنكاح والطلاق والعتاق ، وغير ذلك من الأحكام مما كان يجوز أن لا يشيع ، فذلك إما بحكم الاتفاق ، وإما لأنه صلى الله عليه وسلم كان متعبدا بإشاعته ، والله أعلم [5] .