الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          شبه القائلين بالوجوب

          وقد ذكر أبو الحسين البصري في ذلك ما يناهز ثلاثين شبهة دائرة بين غث وثمين . وها نحن نلخص حاصلها ، ونأتي على المعتمد من جملتها ، مع حذف الزيادات العرية عن الفائدة ، ونشير إلى جهة الانفصال عنها ، ثم نذكر بعد ذلك شبه القائلين بالندب ، وطرق تخريجها إن شاء الله تعالى .

          فأما شبه القائلين بالوجوب فشرعية ، ولغوية ، وعقلية .

          أما الشرعية : فمنها ما يرجع إلى الكتاب ، ومنها ما يرجع إلى السنة ، ومنها ما يرجع إلى الإجماع .

          أما الكتاب : فقوله تعالى : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) ثم هدد عليه بقوله : ( فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم ) والتهديد على المخالفة دليل الوجوب .

          وأيضا قوله تعالى : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) ووجه الاستدلال به ما سبق في الآية التي قبلها .

          وأيضا قوله تعالى لإبليس : ( ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ) أورد ذلك في معرض الذم بالمخالفة ، لا في معرض الاستفهام اتفاقا ، وهو دليل الوجوب .

          [ ص: 147 ] وأيضا قوله تعالى : ( وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ) ذمهم على المخالفة ، وهو دليل الوجوب ، وأيضا قوله تعالى : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) والمراد من قوله : ( قضى ) أي ألزم ومن قوله : ( أمرا ) أي مأمورا وما لا خيرة فيه من المأمورات لا يكون إلا واجبا .

          وأيضا قوله تعالى : ( أفعصيت أمري ) وقوله : ( لا يعصون الله ما أمرهم ) وقوله : ( ولا أعصي لك أمرا ) وصف مخالفة الأمر بالعصيان ، وهو اسم ذم ، وذلك لا يكون في غير الوجوب .

          وأيضا قوله تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ) أي أمرت ولولا أن الأمر للوجوب لما كان كذلك .

          وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم لبريرة وقد عتقت تحت عبد وكرهته ( لو راجعتيه - فقالت بأمرك يا رسول الله - فقال : لا إنما أنا شافع - فقالت : لا حاجة لي فيه ) فقد عقلت أنه لو كان أمرا لكان واجبا ، والنبي صلى الله عليه وسلم قررها عليه .

          وأيضا قوله صلى الله عليه وسلم : ( لولا أن أشق على أمتي ، لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ) وهو دليل الوجوب ، وإلا فلو كان الأمر للندب ، فالسواك مندوب .

          وأيضا قوله لأبي سعيد الخدري حيث لم يجب دعاءه وهو في الصلاة ( أما سمعت الله تعالى يقول : ( استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) وبخه على مخالفة أمره ، وهو دليل الوجوب .

          وأيضا فإنه لما سأله الأقرع بن حابس ( أحجنا هذا لعامنا أم للأبد ) قال صلى الله عليه وسلم : بل للأبد ولو قلت : نعم لوجبت [1] .

          وذلك دليل على أن أوامره للوجوب .

          [ ص: 148 ] وأما الإجماع فهو أن الأمة في كل عصر لم تزل راجعة في إيجاب العبادات إلى الأوامر من قوله تعالى : ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) إلى غير ذلك من غير توقف ، وما كانوا يعدلون إلى غير الوجوب إلا لمعارض .

          وأيضا فإن أبا بكر رضي الله عنه ، استدل على وجوب الزكاة على أهل الردة بقوله : ( وآتوا الزكاة ) ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ، فكان ذلك إجماعا .

          وأما من جهة اللغة فمن وجوه .

          الأول : وصف أهل اللغة من خالف الأمر بكونه عاصيا ، ومنه قولهم ( أمرتك ، فعصيتني ) وقوله تعالى : ( أفعصيت أمري ) وقول الشاعر :

          أمرتك أمرا حازما فعصيتني

          [2] والعصيان اسم ذم ، وذلك في غير الوجوب ممتنع ، وأيضا فإن السيد إذا أمر عبده بأمر ، فخالفه ، حسن الحكم من أهل اللغة بذمه واستحقاقه للعذاب ، ولولا أن الأمر للوجوب لما كان كذلك .

          وأما من جهة العقل فمن وجوه .

          الأول : أن الإيجاب من المهمات في مخاطبة أهل اللغة ، فلو لم يكن الأمر للوجوب لخلا الوجوب عن لفظ يدل عليه ، وهو ممتنع مع دعوى الحاجة إليه .

          وأيضا فإنه قد ثبت أن الطلب لا يخرج عن الوجوب والندب ، ويمتنع أن يكون حقيقة في الندب ، لا بجهة الاشتراك ولا التعيين ولا بطريق التخيير [ ص: 149 ] لأن حمل الطلب على الندب معناه ، افعل إن شئت ، وهذا الشرط غير مذكور في الطلب فيمتنع حمل الطلب عليه بوجه من هذه الوجوه ، ويلزم من ذلك أن يكون حقيقة في الوجوب .

          وأيضا فإن الأمر مقابل للنهي ، والنهي يقتضي ترك الفعل والامتناع من الفعل جزما ، فالأمر يجب أن يكون مقتضيا للفعل ومانعا من الترك جزما .

          وأيضا فإن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده ، والنهي عن أضداده مما يمنع من فعلها ، وذلك غير متصور دون فعل المأمور به ، فكان واجبا .

          وأيضا فإن حمل الأمر على الوجوب أحوط للمكلف ; لأنه إن كان للوجوب فقد حصل المقصود الراجح وأمن من ضرر تركه ، وإن كان للندب فحمله على الوجوب يكون أيضا نافعا غير مضر ، ولو حملناه على الندب ، لم نأمن من الضرر بتقدير كونه واجبا لفوات المقصود الراجح .

          وأيضا فإن المندوب داخل في الواجب من غير عكس ، فحمل الأمر على الوجوب لا يفوت معه المقصود من الندب ، بخلاف الحمل على الندب ، فكان حمله على الوجوب أولى .

          وأيضا فإن الأمر موضوع لإفادة معنى ، وهو إيجاد الفعل ، فكان مانعا من نقيضه كالخبر ، وأيضا فإن الأمر بالفعل يفيد رجحان وجود الفعل على عدمه ، وإلا كان مرجوحا أو مساويا ، ولو كان مرجوحا لما أمر به لما فيه من الإخلال بالمصلحة الزائدة في الترك والتزام المفسدة الراجحة في الفعل ، وهو قبيح ، ولو كان مساويا لم يكن الأمر به أولى من النهي عنه ، وذلك أيضا قبيح .

          وإذا كان راجحا ، فلو جاز تركه ، لزم منه الإخلال بأرجح المقصودين ، وهو قبيح ، فلا يرد به الشرع فتعين الامتناع من الترك ، وهو معنى الوجوب .

          والجواب من جهة الإجمال ، والتفصيل ، أما الإجمال فهو أن جميع ما ذكروه لا خروج له عن الظن ، وإنما يكون مفيدا فيما يطلب فيه الظن فقط وهو غير مسلم فيما نحن فيه [3] .

          وقوله صلى الله عليه وسلم : ; نحن نحكم بالظاهر " [4] فظني في صحة الاحتجاج به فيما نحن فيه ، فعلى ما تقدم .

          [ ص: 150 ] وأما من جهة التفصيل ، فإنا نخص كل شبهة بجواب .

          أما قوله تعالى : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) فهو أمر والخلاف في اقتضائه للوجوب بحاله ، وقوله : ( فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم ) فإما أن لا يكون للتهديد بل للإخبار بأن الرسول عليه ما حمل من التبليغ ، وعليكم ما حملتم من القبول ، وليس في ذلك ما يدل على كون الأمر للوجوب ، وإن كان للتهديد فهو دليل على الوجوب فيما هدد على تركه ومخالفته من الأوامر ، وليس فيه ما يدل على أن كل أمر مهدد بمخالفته ، بدليل أمر الندب ، فإن المندوب مأمور به ، على ما سيأتي وليس مهددا على مخالفته .

          وإذا انقسم الأمر إلى مهدد عليه ، وغير مهدد ، وجب اعتقاد الوجوب فيما هدد عليه ، دون غيره ، وبه يخرج الجواب عن كل صيغة أمر هدد على مخالفتها ، وحذر منها ، ووصف مخالفها بكونه عاصيا ، وبه دفع أكثر ما ذكروه من الآيات .

          ويخص قوله تعالى : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره ) بأنه غير عام في كل أمر بصيغته [5] .

          وإن قيل بالتعميم بالنظر إلى معقوله من جهة أنه مناسب رتب التحذير على مخالفته ، فإنما يصح أن لو لم يتخلف الحكم عنه في أمر الندب ، وقد تخلف فلا يكون حجة [6] وأيضا ، فإن غايته أنه حذر من مخالفة أمره ، .

          ومخالفة أمره أن لا يعتقد موجبه ، وأن لا يفعل على ما هو عليه من إيجاب أو ندب ، ونحن نقول به ، وليس فيه ما يدل على أن كل أمر للوجوب .

          ويخص قوله لإبليس : ( ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ) بأنه غير عام في كل أمر .

          [ ص: 151 ] ويخص قوله تعالى : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة ) الآية بأن المراد من قوله أن تكون لهم الخيرة من أمرهم ، أي في اعتقاد وجوب المأمور به أو ندبه وفعله على ما هو عليه ، إن كان واجبا فواجب ، وإن كان ندبا فندب .

          ويخص قوله تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك ) الآية ، بأنه لا حجة فيها .

          وقوله : ( ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ) أي حكمت به من الوجوب والندب والإباحة والتحريم ونحوه ، وليس فيه ما يدل على أن كل ما يقضي به يكون واجبا .

          وأما حديث بريرة فلا حجة فيه ، فإنها إنما سألت عن الأمر طلبا للثواب بطاعته ، والثواب والطاعة [7] قد يكون بفعل المندوب ، وليس في ذلك ما يدل على أنها فهمت من الأمر الوجوب ، فحيث لم يكن أمرا لمصلحة أخروية لا بجهة الوجوب ولا بجهة الندب ، قالت : لا حاجة لي فيه .

          فإن قيل : فإجابة شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم مندوب إليها ، فإذا لم يكن مأمورا بها ، تعين أن يكون الأمر للوجوب .

          قلنا : إذا سلم أن الشفاعة في صورة بريرة غير مأمور بإجابتها ، فلا نسلم أنها كانت في تلك الصورة مندوبة ، ضرورة أن المندوب عندنا لا بد وأن يكون مأمورا به [8] .

          وأما السواك ففيه ما يدل على أنه أراد بالأمر أمر الوجوب ، بدليل أنه قرن به المشقة ، والمشقة لا تكون إلا في فعل الواجب ، لكونه متحتما بخلاف المندوب لكونه في محل الخيرة بين الفعل والترك ، ولا يمتنع صرف الأمر إلى الوجوب بقرينة ، ودخول حرف ( لولا ) على مطلق الأمر لا يمنع من هذا التأويل .

          [ ص: 152 ] وأما خبر أبي سعيد الخدري [9] فلا حجة فيه أيضا ، فإن قوله تعالى : ( استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) إنما كان محمولا على وجوب إجابة النداء ، تعظيما لله تعالى ، ولرسوله في إجابة دعائه ، ونفيا للإهانة عنه والتحقير له ، بالإعراض عن إجابة دعائه لما فيه من هضمه في النفوس ، وإفضاء ذلك إلى الإخلال بمقصود البعثة ، ولا يمتنع صرف الأمر إلى الوجوب بقرينة .

          وأما خبر الحج ، فلا دلالة فيه ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ولو قلت نعم لوجب " ليس أمرا ليكون للوجوب ، بل لأنه يكون بيانا لقوله تعالى : ( ولله على الناس حج البيت ) فإنه مقتض للوجوب ، غير أنه متردد بين التكرار والمرة الواحدة فقوله : " لو قلت نعم لوجب " ( أي ) تكرره لأنه يكون بيانا لما أوجبه الله تعالى ، لا أنه يكون موجبا .

          وأما ما ذكروه من الإجماع ، فإن أريد به أن الأمة كانت ترجع في الوجوب إلى مطلق الأوامر فهو غير مسلم ، وليس هو أولى من قول القائل إنهم كانوا يرجعون في الندب إلى مطلق الأوامر ، مع أن أكثر الأوامر للمندوبات ، وإن أريد به أنهم كانوا يرجعون في الوجوب إلى الأوامر المقترنة بالقرائن ، فلا حجة فيه .

          وأما قصة أبي بكر فلا حجة في احتجاجه بقوله تعالى : ( وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة ) على أن الأمر بمطلقه للوجوب ، وذلك لأنهم لم يكونوا منكرين لأصل الوجوب ، حتى يستدل على الوجوب بالآية ، بل إنما أنكروا التكرار ، والاستدلال على تكرار ما وجب لا يكون استدلالا على نفس اقتضاء الأمر بمطلقه للوجوب [10] .

          وأما قولهم : إن أهل اللغة يصفون من خالف الأمر المطلق بالعصيان ، ويحكمون عليه باستحقاق الذم والتوبيخ ، ليس كذلك فإنه ليس القول بملازمة هذه الأمور للأمر المطلق ، وملازمة انتفائها للأمر المقيد بالقرينة في المندوبات أولى من العكس .

          [ ص: 153 ] فإن قيل : بل تقييد المندوب بالقرينة ، أولى من تقييد الواجب بها ، فإنها بتقدير خفائها تحمل على الوجوب وهو نافع غير مضر .

          وبتقدير تقييد الواجب بها يلزم الإضرار بترك الواجب بتقدير خفائها ، لفوات المقصود الأعظم منه ، فهو معارض بأن الأوامر الواردة في المندوبات ، أكثر منها في الواجبات ، فإنه ما من واجب إلا ويتبعه مندوبات ، والواجب غير لازم للمندوب ، ولا يخفى أن المحذور في تقييد الأعم بالقرينة لاحتمال خفائها ، أعظم من محذور ذلك في الأخص .

          وأما الشبه العقلية قولهم : إن الوجوب من المهمات .

          قلنا : والندب من المهمات ، وليس إخلاء أحد الأمرين من لفظ يدل عليه ، أولى من الآخر .

          وإن قيل : بأن المندوب له لفظ يدل عليه ، وهو قول القائل : ( ندبت ورغبت ) فللوجوب أيضا لفظ يدل عليه ، وهو قوله ( أوجبت وألزمت وحتمت ) .

          قولهم : إنه يمتنع أن يكون الأمر حقيقة في الندب ; لما ذكروه ، فهو مقابل بمثله فإن حمل الطلب على الوجوب معناه ، افعل وأنت ممنوع من الترك ، وهو غير مذكور في الطلب ، فلا يكون حمله على أحدهما أولى من الآخر .

          قولهم إن النهي يقتضي المنع من الفعل ، فيجب أن يكون الأمر مقتضيا للمنع من الترك .

          قلنا : لا نسلم أن مطلق النهي يقتضي المنع من الفعل إلا أن يدل عليه دليل ، كما ذكرناه في الأمر .

          وإن صح ذلك في النهي فحاصل ما ذكروه راجع إلى القياس في اللغة ، وهو باطل بما سبق .

          قولهم إن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده غير مسلم كما يأتي ، وإن سلم ، ولكن إنما يمكن القول بأن النهي عن أضداد المأمور به مما يمنع من فعلها ، إن لو كان الأمر للوجوب ، وإلا فبتقدير أن يكون للندب فالنهي عن أضداده يكون نهي تنزيه ، فلا يمنع من فعلها ، وعند ذلك فيلزم منه توقف الوجوب على كون النهي عن أضداده مانعا ، وذلك متوقف على كون الأمر للوجوب ، وهو دور ممتنع .

          قولهم : إن حمل الطلب على الوجوب أحوط للمكلف على ما ذكروه ، فهو معارض بما يلزم من حمله على الوجوب من الإضرار اللازم من الفعل الشاق بتقدير [ ص: 154 ] فعله ، والعقاب بتقدير تركه ، ولما فيه من مخالفة النفي الأصلي بما اختص به الوجوب من زيادة الذم والوصف بالعصيان ، بخلاف المندوب ، كيف وإن المكلف إذا نظر وظهر له أن الأمر للندب ، فقد أمن الضرر ، وحصل مقصود الأمر .

          قولهم : إن المندوب داخل في الواجب ، ليس كذلك على ما سبق تقريره .

          قولهم : إن الأمر موضوع لمعنى ، فكان مانعا من نقيضه دعوى محل النزاع ، والقياس على الخبر من باب القياس في اللغات ، وهو باطل بما سبق [11] .

          ثم إنه منقوض بالأمر بالمندوب ، فإنه مأمور به على ما سبق [12] .

          فإن قيل لا يلزم من مخالفة الدليل في المندوب المخالفة مطلقا .

          قلنا : يجب أن نعتقد أن ما ذكروه ليس بدليل حتى لا يلزم منه المخالفة في المندوب .

          وما ذكروه من الأخيرة فهي منتقضة بالمندوب ، وأما شبه القائلين بالندب ، فمنها نقلية وعقلية .

          أما النقلية فقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وإذ نهيتكم عن شيء فانتهوا " فوض الأمر إلى استطاعتنا ومشيئتنا وهو دليل الندبية .

          وأما العقلية فهو أن المندوب ما فعله خير من تركه ، وهو داخل في الواجب ، فكل واجب مندوب ، وليس كل مندوب واجبا ؛ لأن الواجب ما يلام على تركه ، والمندوب ليس كذلك ، فوجب جعل الأمر حقيقة فيه لكونه متيقنا .

          وجوابهما من جهة الإجمال ، فما سبق في جواب شبه القائلين بالوجوب .

          ومن جهة التفصيل : عن الأولى أنه لا يلزم من قوله " ما استطعتم " تفويض الأمر إلى مشيئتنا ، فإنه لم يقل فافعلوا ما شئتم ، بل قال : " ما استطعتم " وليس ذلك خاصية للندب ، فإن كل واجب كذلك .

          وعن الثانية ما سبق من امتناع وجود المندوب في الواجب ، ثم لو كان تنزيل لفظ الأمر على المتيقن لازما ، لكان جعله حقيقة في رفع الحرج عن الفعل أولى لكونه متيقنا بخلاف المندوب ، فإنه متميز بكون الفعل مترجحا على الترك ، وهو غير متيقن [13] .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية