الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          وأما النكرة المنفية كقوله : لا رجل في الدار ، أو في سياق النفي كقوله : ما في الدار من رجل فإن القائل لذلك يعد كاذبا بتقدير رؤيته لرجل ما ، وأنه يحسن الاستثناء بقوله إلا زيد ، وأنه يصح تكذيبه بأنك رأيت رجلا كما ورد قوله تعالى : ( قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ) تكذيبا لمن قال : ( ما أنزل الله على بشر من شيء ) وكل ذلك يدل على كونها للعموم ، ولأنها لو لم تكن للعموم لما كان قولنا : لا إله إلا الله توحيدا ، لعدم دلالته على نفي كل إله سوى الله تعالى .

          وأما الإضافة كقوله : أعتقت عبيدي وإمائي فإنه يدل على العموم بدليل لزوم العتق في الكل ، وأنه يجوز لمن سمعه أن يزوج من أي العبيد شاء وأن يتزوج من الإماء من شاء دون رضى الورثة ، وكذلك لو قال : العبيد الذين هم في يدي لفلان صح الإقرار بالنسبة إلى الجميع ، ولولا أن ذلك للعموم لما كان كذلك .

          وأما الجنس إذا دخله الألف واللام ولا عهد فإنه للعموم لأربعة أوجه : الأول : أنه إذا قال القائل : رأيت إنسانا أفاد رؤية واحد معين فإذا دخلت عليه الألف واللام ، فلو لم تكن الألف واللام مفيدة للاستغراق لكانت معطلة ، لتعذر حملها على تعريف الجنس لكونه معلوما دونها وهو ممتنع .

          [ ص: 206 ] الثاني : أنه يصح نعته بالجمع المعرف وقد ثبت أن الجمع المعرف للعموم ، فكذلك المنعوت به وذلك في قولهم : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض ، وأنه يصح الاستثناء منه كما في قوله تعالى : ( إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا ) وهو دليل العموم .

          الثالث : أن القائل قائلان : قائل يقول : إن الألف واللام الداخلة على الاسم المفرد والجمع تفيد العموم ، وقائل بالنفي مطلقا .

          وقد ثبت أنها مفيدة للعموم في الجمع ، فالتفرقة تكون قولا بتفصيل لم يقل به قائل [1] .

          الرابع : أنه إذا كانت الألف واللام لتعريف المعهود عائدة إلى جميعه لعدم أولوية عودها إلى البعض منه دون البعض فكذلك إذا كانت لتعريف الجنس .

          وأما الجمع المنكر فيدل على أنه للعموم ثلاثة أوجه :

          الأول : أن قول القائل رجال يطلق على كل جمع على الحقيقة ، حتى الجمع المستغرق فإذا حمل على الاستغراق كان حملا له على جميع حقائقه فكان أولى .

          الثاني : أنه لو أراد المتكلم بلفظ الجمع المنكر البعض لعينه ، وإلا كان مراده مبهما فحيث لم يعينه دل على أنه للاستغراق .

          الثالث : أنه يصح دخول الاستثناء عليه بكل واحد من آحاد الجنس فكان للعموم .

          ومن شبههم أن العرب فرقت بين تأكيد العموم والخصوص في أصل الوضع ، فقالوا في الخصوص : رأيت زيدا عينه نفسه ، ولا يقولون كلهم : رأيت زيدا أجمعين ، وقالوا في العموم : رأيت الرجال كلهم أجمعين ، ولا يقولون : رأيت الرجال عينه نفسه ، واختلاف التأكيد يدل على اختلاف المؤكد لأن التأكيد مطابق للمؤكد .

          ومنها أنهم قالوا : وقع الإجماع على أن الباري تعالى قد كلفنا أحكاما تعم جميع المكلفين ، فلو لم يكن للعموم صيغة تفيده لما وقع التكليف به لعدم ما يدل عليه ، أو كان التكليف به تكليفا بما لا يطاق وهو محال .

          [ ص: 207 ] وأما شبه أرباب الخصوص ، فأولها : أن تناول اللفظ للخصوص متيقن ، وتناوله للعموم محتمل ، فجعله حقيقة في المتيقن أولى .

          وثانيهما : أن أكثر استعمال هذه الصيغ في الخصوص دون العموم ، ومنه يقال : جمع السلطان التجار والصناع وكل صاحب حرفة ، وأنفقت دراهمي ، وصرمت نخيلي ونحوه . فكان جعلها حقيقة فيما استعمالها فيه أغلب ، أولى .

          وثالثها : أنه إذا قال السيد لعبده : أكرم الرجال ، ومن دخل داري فأعطه درهما ، ومتى جاءك فقير فتصدق عليه ، ومتى جاء زيد فأكرمه " وأين كان ، وحيث حل ، فإنه لا يحسن الاستفسار عن إرادة البعض ويحسن الاستفسار عما وراء ذلك ، فكان جعل هذه الصيغ حقيقة فيما لا يحسن الاستفسار عنه دون ما يحسن .

          ورابعها : أنه لو كان قول القائل " رأيت الرجال " للعموم لكان إذا أريد به الخصوص كان المخبر كاذبا ، كما لو قال : " رأيت عشرين ولم ير غير عشرة بخلاف ما إذا كانت للخصوص ، وأريد به العموم .

          وخامسها : لو كانت للعموم ، لكان تأكيدها غير مفيد لغير ما أفادته ، فكان عبثا ، وكان الاستثناء منها نقضا .

          وسادسها : ( ويخص من ) من أنها لو كانت للعموم لما أجمعت لأن الجمع لا بد وأن يفيد ما لا يفيده المجموع ، وليس بعد العموم والاستغراق كثرة ، فلا يجمع ، وقد جمعت في باب حكاية النكرات عند الاستفهام . فإنه إذا قال القائل : جاءني رجال . قلت : منون ؟ في حالة الوقف دون الوصل ، ومنه قول الشاعر :


          أتوا ناري ، فقلت : منون أنتم ؟ فقالوا : الجن . قلت عموا ظلاما

          [2] فقد قال سيبويه : إنه شاذ غير معمول به .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية