الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          [ ص: 237 ] المسألة السادسة

          إذا ورد خطاب جوابا لسؤال سائل داع إلى الجواب فالجواب إما أن يكون غير مستقل بنفسه دون السؤال أو هو مستقل ، فإن كان الأول فهو تابع للسؤال في عمومه وخصوصه : أما في عمومه خلاف ، وذلك كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال : " أينقص الرطب إذا يبس قالوا : نعم ، قال فلا إذا " .

          وأما في خصوصه فكما لو سأله سائل وقال : توضأت بماء البحر ، فقال له : يجزئك ، فهذا وأمثاله ، وإن ترك فيه الاستفصال مع تعارض الأحوال لا يدل على التعميم في حق الغير كما قاله الشافعي - رضي الله عنه - إذ اللفظ لا عموم له .

          ولعل الحكم على ذلك الشخص كان لمعنى يختص به [1] كتخصيص أبي بردة في الأضحية بجدعة من المعز ، وقوله له : تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك ، وتخصيصه خزيمة بقبول شهادته وحده ، وبتقدير تعميم المعنى الجالب للحكم ، فالحكم في حق غيره إن ثبت فبالعلة المتعدية لا بالنص .

          وأما إن كان الجواب مستقلا بنفسه دون السؤال فإما أن يكون مساويا للسؤال أو أعم منه أو أخص .

          [ ص: 238 ] فإن كان مساويا له فالحكم في عمومه وخصوصه عند كون السؤال عاما أو خاصا ، فكما لو لم يكن مستقلا .

          ومثاله عند كون السؤال خاصا سؤال الأعرابي عن وطئه في نهار رمضان ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " اعتق رقبة " [2] ، ومثاله عند كون السؤال عاما ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل فقيل له : " إنا نركب البحر على أرماث لنا ، [3] وليس معنا من الماء العذب ما يكفينا ، أفنتوضأ بماء البحر فقال - صلى الله عليه وسلم - : " البحر هو الطهور " .

          وأما إن كان الجواب أخص من السؤال فالجواب يكون خاصا ، ولا يجوز تعديه الحكم من محل التنصيص إلى غيره إلا بدليل خارج عن اللفظ ، إذ اللفظ لا عموم له كما سبق تقريره ، بل وفي هذه الصورة الحكم بالخصوص أولى من القول به فيما إذا كان السؤال خاصا ، والجواب مساويا له حيث إنه هاهنا عدل عن مطابقة سؤال السائل بالجواب مع دعوى الحاجة إليه ، بخلاف تلك الصورة ، فإنه طابق بجوابه سؤال السائل .

          وأما إن كان الجواب أعم من السؤال فإما أن يكون أعم من السؤال في ذلك الحكم ، كسؤاله - صلى الله عليه وسلم - عن ماء بئر بضاعة فقال : " خلق الماء طهورا لا ينجسه إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه " أو أنه [4] أعم من السؤال في غير ذلك الحكم كسؤاله - صلى الله عليه وسلم - عن التوضؤ بماء البحر فقال : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " [5] .

          [ ص: 239 ] فإن كان من القسم الثاني فلا خلاف في عمومه في حل ميتته لأنه عام مبتدأ به لا في معرض الجواب ، إذ هو غير مسئول عنه ، وكل عام ورد مبتدأ بطريق الاستقلال فلا خلاف في عمومه عند القائلين بالعموم .

          وأما إن كان من القسم الأول فمذهب أبي حنيفة والجم الغفير أنه عام ، وإنه لا يسقط عمومه بالسبب الذي ورد عليه ، والمنقول عن الشافعي - رضي الله عنه - ومالك والمزني وأبي ثور خلافه .

          وعلى هذا يكون الحكم فيما إذا ورد العام على سبب خاص لا تعلق له بالسؤال ، كما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه مر بشاة ميمونة وهي ميتة ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " أيما إهاب دبغ فقد طهر " [6] .

          والمختار إنما هو القول بالتعميم إلى أن يدل الدليل على التخصيص .

          ودليله أنه لو عري اللفظ الوارد عن السبب كان عاما ، وليس ذلك إلا لاقتضائه للعموم بلفظه لا لعدم السبب ، فإن عدم السبب لا مدخل له في الدلالات اللفظية ، ودلالة العموم لفظية ، وإذا كانت دلالته على العموم مستفادة من لفظه فاللفظ وارد مع وجوب السبب حسب وروده مع عدم السبب ، فكان مقتضيا للعموم ، ووجود السبب لو كان لكان مانعا من اقتضائه للعموم ، وهو ممتنع لثلاثة أوجه : الأول : أن الأصل عدم المانعية ، فمدعيها يحتاج إلى البيان .

          الثاني : أنه لو كان مانعا من الاقتضاء للعموم لكان تصريح الشارع بوجوب العمل بعمومه مع وجود السبب إما إثبات حكم العموم مع انتفاء العموم ، أو إبطال الدليل المخصص ، وهو خلاف الأصل .

          الثالث : أن أكثر العمومات وردت على أسباب خاصة ، فآية السرقة نزلت في سرقة المجن أو رداء صفوان ، وآية الظهار نزلت في حق سلمة بن صخر ، وآية اللعان نزلت في حق هلال بن أمية إلى غير ذلك .

          والصحابة عمموا أحكام هذه [ ص: 240 ] الآيات من غير نكير فدل على أن السبب غير مسقط للعموم ، ولو كان مسقطا للعموم لكان إجماع الأمة على التعميم خلاف الدليل ، ولم يقل أحد بذلك .

          فإن قيل : ما ذكرتموه معارض بما يدل على اختصاص العموم بالسبب ، وبيانه من ستة أوجه : الأول : أنه لو لم يكن المراد بيان حكم السبب لا غير ، بل بيان القاعدة العامة لما أخر البيان إلى حالة وقوع تلك الواقعة ، واللازم ممتنع .

          وإذا كان المقصود إنما هو بيان حكم السبب الخاص وجب الاقتصار عليه .

          الثاني : أنه لو كان الخطاب عاما لكان جوابا وابتداء ، وقصد الجواب والابتداء متنافيان .

          الثالث : أنه لو كان الخطاب مع السبب عاما لجاز إخراج السبب عن العموم بالاجتهاد كما في غيره من الصور الداخلة تحت العموم ، ضرورة تساوي نسبة العموم إلى الكل ، وهو خلاف الإجماع .

          الرابع : أنه لو لم يكن للسبب مدخل في التأثير لما نقله الراوي لعدم فائدته .

          الخامس : أنه لو قال القائل لغيره : تغدى عندي ، فقال : لا والله لا تغديت ، فإنه وإن كان جوابا عاما فمقصور على سببه حتى إنه لا يحنث بغدائه عند غيره ، ولولا أن السبب يقتضي التخصيص لما كان كذلك .

          السادس : أنه إذا كان السؤال خاصا فلو كان الجواب عاما لم يكن مطابقا للسؤال ، والأصل المطابقة لكون الزيادة عديمة التأثير فيما تعلق به غرض السائل .

          والجواب عن المعارضة الأولى أنها مبنية على وجوب رعاية الغرض والحكمة في أفعال الله وهو غير مسلم [7] ، وإن كان ذلك مسلما ، لكن لا مانع من اختصاص إظهار الحكم عند وجود السبب لحكمة استأثر الرب تعالى بالعلم بها دون غيره ، [ ص: 241 ] ثم يلزم مما ذكروه أن تكون العمومات الواردة على الأسباب الخاصة مما ذكرناه مختصة بأسبابها ، وهو خلاف الإجماع .

          وعن الثانية أنه إن أريد بالتنافي بين الجواب والابتداء امتناع ذكره لحكم السبب مع غيره فهو محل النزاع ، وإن أرادوا غير ذلك فلا بد من تصويره .

          وعن الثالثة أنه لا خلاف في كون الخطاب ورد بيانا لحكم السبب فكان مقطوعا به فيه ، فلذلك امتنع تخصيصه بالاجتهاد بخلاف غيره ، فإن تناوله له ظني ، وهو ظاهر فيه فلذلك جاز إخراجه عن عموم اللفظ بالاجتهاد ، وما نقل عن أبي حنيفة من أنه كان يجوز إخراج السبب عن عموم اللفظ بالاجتهاد ، حتى إنه أخرج الأمة المستفرشة عن عموم قوله عليه السلام : " الولد للفراش " [8] ولم يلحق ولدها بمولاها مع وروده في وليد زمعة .

          وقد قال عبد الله بن زمعة : هو أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه .

          فلعله فعل ذلك لعدم اطلاعه على ورود الخبر على ذلك السبب .

          وعن الرابعة أن فائدة نقل السبب امتناع إخراجه عن العموم بطريق الاجتهاد ومعرفة أسباب التنزيل .

          وعن الخامسة أن الموجب للتخصيص بالسبب في الصورة المستشهد بها عادة أهل العرف بعضهم مع بعض ، ولا كذلك في الأسباب الخاصة بالنسبة إلى خطاب الشارع بالأحكام الشرعية .

          وعن السادسة إن أرادوا بمطابقة الجواب للسؤال الكشف عنه وبيان حكمه فقد وجد ، وإن أرادوا بذلك أن لا يكون بيانا لغير ما سئل عنه ، فلا نسلم أنه الأصل .

          ويدل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن التوضؤ بماء البحر فقال : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " تعرض لحل الميتة ولم يكن مسئولا عنها .

          ولو كان الاقتصار على نفس المسئول عنه هو الأصل لكان بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لحل الميتة على خلاف الأصل ، وهو بعيد .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية