الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          المسألة الحادية عشرة

          الفعل وإن انقسم إلى أقسام وجهات فالواقع منه لا يقع إلا على وجه واحد منها ، فلا يكون عاما لجميعها بحيث يحمل وقوعه على جميع جهاته ، وذلك كما روي عنه - عليه السلام - أنه صلى داخل الكعبة ، فصلاته الواقعة يحتمل أنها كانت فرضا ويحتمل أنها كانت نفلا ، ولا يتصور وقوعها فرضا نفلا ، فيمتنع الاستدلال بذلك على جواز الفرض والنفل في داخل الكعبة جميعا ، إذ لا عموم للفعل الواقع بالنسبة إليهما ، ولا يمكن تعيين أحد القسمين إلا بدليل .

          وأما ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى بعد غيبوبة الشفق ، فالشفق اسم مشترك بين الحمرة والبياض ، فصلاته يحتمل أنها وقعت بعد الحمرة ، ويحتمل أنها وقعت بعد البياض ، فلا يمكن حمل ذلك على وقوع فعل الصلاة بعدهما على رأي من لا يرى حمل اللفظ المشترك على جميع محامله ، وإنما يمكن ذلك على رأي من يرى ذلك كما سبق تحقيقه .

          فإن قول الراوي : صلى بعد غيبوبة الشفق ينزل منزلة قوله : صلى بعد الشفقين .

          [ ص: 253 ] وفي هذا المعنى أيضا قول الراوي : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الصلاتين في السفر ، فإنه يحتمل وقوع ذلك في وقت الأولى ، ويحتمل وقوعه في وقت الثانية ، وليس في نفس وقوع الفعل ما يدل على وقوعه فيهما ، بل في أحدهما .

          والتعين متوقف على الدليل .

          وأما وقوع ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - متكررا على وجه يعم سفر النسك وغيره ، فليس أيضا في نفس وقوع الفعل ما يدل عليه ، بل إن كان ولا بد فاستفادة ذلك إنما هي من قول الراوي : كان يجمع بين الصلاتين .

          ولهذا فإنه إذا قيل : كان فلان يكرم الضيف يفهم منه التكرار دون القصور على المرة الواحدة .

          وعلى هذا أيضا يجب أن يعلم أن ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - واجبا كان عليه أو جائزا له لا عموم له بالإضافة إلى غيره ، بل هو خاص في حقه إلا أن يدل دليل من خارج على المساواة بينه وبين غيره في ذلك الفعل ، كما لو صلى وقال : صلوا كما رأيتموني أصلي ، أو غير ذلك [1] .

          فإن قيل : فقد أجمعت الأمة على تعميم سجود السهو في كل سهو ، بما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه سها في الصلاة فسجد ، وكذلك اتفقوا على تعميم ما نقل عن عائشة أنها قالت : " كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو في الصلاة " في حق كل أحد ، حتى إن الشافعي استدل بذلك على طهارة مني الآدمي ، واستدل به أبو حنيفة على جواز الاقتصار على الفرك في حق غير النبي مع حكمه بنجاسته .

          [ ص: 254 ] وكذلك إجماعهم على وجوب الغسل من التقاء الختانين بقول عائشة : فعلته أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واغتسلنا ، وأيضا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سئل عن حكم أجاب بما يخصه ، وأحال معرفة ذلك على فعل نفسه .

          فمن ذلك لما سألته أم سلمة عن الاغتسال قال : " أما أنا فأفيض الماء على رأسي " ومن ذلك أنه لما سئل عن قبلة الصائم قال : " أنا أفعل ذلك " ، ولولا أن للفعل عموما لما كان كذلك .

          قلنا : أما تعميم سجود السهو ، فإنه إنما كان لعموم العلة ، وهي السهو من حيث إنه رتب السجود على السهو بفاء التعقيب ، وهو دليل العلية كما يأتي ذكره لا لعموم الفعل .

          وكذلك الحكم في قوله : " زنى ماعز فرجم " وفي قوله : " رضخ يهودي رأس جارية فرضخ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه " .

          وأما العمل بخبر عائشة في فرك المني ووجوب الغسل من التقاء الختانين ، وإفاضة الماء على الرأس وقبلة الصائم ، فكل ذلك مستند إلى القياس لا إلى عموم الفعل لتعذره كما [2] سبق ، [3] والله أعلم .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية