الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          [ ص: 289 ] المسألة الأولى

          شرط صحة الاستثناء عند أصحابنا وعند الأكثرين أن يكون متصلا بالمستثنى منه حقيقة ، من غير تخلل فاصل بينهما أو في حكم المتصل ، وهو ما لا يعد المتكلم به آتيا به بعد فراغه من كلامه الأول عرفا ، وإن تخلل بينهما فاصل بانقطاع النفس أو سعال مانع من الاتصال حقيقة .

          ونقل عن ابن عباس أنه كان يقول بصحة الاستثناء المنفصل ، وإن طال الزمان شهرا .

          وذهب بعض أصحاب مالك إلى جواز تأخير الاستثناء لفظا ، لكن مع إضمار الاستثناء متصلا بالمستثنى منه ، ويكون المتكلم به مدينا فيما بينه وبين الله - تعالى - .

          ولعله مذهب ابن عباس .

          وذهب بعض الفقهاء إلى صحة الاستثناء المنفصل في كتاب الله - تعالى - دون غيره .

          حجة القائلين بالاتصال من ثلاثة أوجه : الأول : ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه ، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " وروي : " فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير " . [1]

          ولو كان الاستثناء المنفصل صحيحا لأرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه لكونه طريقا مخلصا للحالف عند تأمل الخير في البر وعدم الحنث ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما يقصد التيسير والتسهيل ولا يخفى أن الاستثناء أيسر وأسهل من التكفير ، فحيث لم يرشد إليه دل على عدم صحته .

          الثاني : أن أهل اللغة لا يعدون ذلك كلاما منتظما ولا معدودا من كلام العرب ، ولهذا فإنه لو قال : لفلان علي عشرة دراهم ، ثم قال بعد شهر أو سنة : إلا درهما ، وقال : رأيت بني تميم ، ثم قال بعد شهر : إلا زيدا ، فإنه لا يعد استثناء ولا كلاما صحيحا كما لو قال : رأيت زيدا ، ثم قال بعد شهر : قائما ، فإنهم لا يعدونه بذلك مخبرا عن زيد بشيء ، وكذلك لو قال السيد لعبده : أكرم زيدا ، ثم قال بعد شهر : إن دخل داري ، فإنهم لا يعدون ذلك شرطا .

          [ ص: 290 ] الثالث : أنه لو قيل بصحة الاستثناء المنفصل لما علم صدق صادق ، ولا كذب كاذب ، ولا حصل وثوق بيمين ، ولا وعد ولا وعيد ، ولا حصل الجزم بصحة عقد نكاح وبيع وإجارة ، ولا لزوم معاملة أصلا ؛ لإمكان الاستثناء المنفصل ولو بعد حين ، ولا يخفى ما في ذلك من التلاعب وإبطال التصرفات الشرعية ، وهو محال .

          احتج الخصوم بأربعة أمور : الأول : ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " والله لأغزون قريشا " ثم سكت وقال بعده : " إن شاء الله " ، ولولا صحة الاستثناء بعد السكوت لما فعله لكونه مقتدى به .

          وأيضا ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه سألته اليهود عن عدة أهل الكهف وعن مدة لبثهم فيه ، فقال : غدا أجيبكم ، ولم يقل : إن شاء الله فتأخر عنه الوحي مدة بضعة عشر يوما ، ثم نزل عليه : ( ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ) إلى قوله : ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت ) .

          فقال : إن شاء الله بطريق الإلحاق بخبره الأول [2] .

          ولو لم يكن ذلك صحيحا لما فعله .

          الثاني : أن ابن عباس ترجمان القرآن ، ومن أفصح فصحاء العرب ، وقد قال بصحة الاستثناء المنفصل ، وذلك يدل على صحته .

          الثالث : أن الاستثناء بيان وتخصيص للكلام الأول ، فجاز تأخيره كالنسخ والأدلة المنفصلة المخصصة للعموم .

          الرابع : أن الاستثناء رافع لحكم اليمين فجاز تأخيره كالكفارة .

          [ ص: 291 ] والجواب عن الخبر الأول : أن سكوته قبل الاستثناء يحتمل أنه من السكوت الذي لا يخل بالاتصال الحكمي كما أسلفناه ، ويجب الحمل عليه موافقة لما ذكرناه من الأدلة .

          وعن الخبر الثاني : أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إن شاء الله " ليس عائدا إلى خبر الأول ، بل إلى ذكر ربه إذا نسي ، تقديره : أذكر ربي إذا نسيت إن شاء الله .

          وذلك كما إذا قال القائل لغيره : افعل كذا فقال : إن شاء الله ، أي أفعل إن شاء الله .

          وعن المنقول عن ابن عباس : إن صح ذلك [3] فلعله كان يعتقد صحة إضمار الاستثناء ، ويدين المكلف بذلك فيما بينه وبين الله - تعالى - وإن تأخر الاستثناء لفظا وهو غير ما نحن فيه ، وإن لم يكن كذلك فهو أيضا مخصوم بما ذكرناه من الأدلة واتفاق أهل اللغة على إبطاله ممن سواه .

          وعن الوجه الثالث : أنه قياس في اللغة فلا يصح لما سبق .

          ثم هو منقوض بالخبر والشرط كما سبق .

          كيف والفرق بين التخصيص والاستثناء واقع من جهة الجملة ، من حيث إن التخصيص قد يكون بدليل العقل والحس ؟ ولا كذلك الاستثناء ، وبينه وبين النسخ ، أن النسخ مما يمتنع اتصاله بالمنسوخ بخلاف الاستثناء .

          وعن الوجه الرابع بالفرق : وهو أن الكفارة رافعة لإثم الحنث لا لنفس الحنث ، والاستثناء مانع من الحنث ، فما التقيا في الحكم حتى يصح قياس أحدهما على الآخر .

          كيف ، وإن الخلاف إنما وقع في صحة الاستثناء المنفصل من جهة اللغة لا من جهة الشرع ، ولا قياس في اللغة على ما سبق ؟

          التالي السابق


          الخدمات العلمية