الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          المسألة الثالثة

          اتفقوا على امتناع الاستثناء المستغرق كقوله : له علي عشرة إلا عشرة [1] ، وإنما اختلفوا في استثناء النصف والأكثر ، فذهب أصحابنا وأكثر الفقهاء والمتكلمين إلى صحة استثناء الأكثر حتى إنه لو قال : له علي عشرة إلا تسعة لم يلزمه سوى درهم واحد .

          وذهب القاضي أبو بكر في آخر أقواله ، والحنابلة وابن درستويه النحوي إلى المنع من ذلك ، وزاد القاضي أبو بكر ، والحنابلة القول بالمنع من استثناء المساوي .

          وقد نقل عن بعض أهل اللغة استقباح استثناء عقد صحيح ، فلا يقول : له علي مائة إلا عشرة ، بل خمسة إلى غير ذلك .

          احتج من قال بصحة استثناء الأكثر والمساوي بالمنقول والمعقول والحكم .

          أما المنقول فمن جهة القرآن والشعر .

          أما القرآن فقوله - تعالى - : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ) ، وقال ( لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ) ، فإن استووا فقد استثنى المساوي ، وإن تفاوتوا فأيهما كان أكثر فقد استثناه .

          كيف وإن الغاوين أكثر بدليل قوله - تعالى - : ( وقليل من عبادي الشكور ) ، وقوله - تعالى - : ( ولا تجد أكثرهم شاكرين ) ، وقوله - تعالى - : ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) ، و ( لكن أكثرهم لا يعقلون ) ، و ( لا يؤمنون ) .

          وأما الشعر فقوله :

          أدوا التي نقصت تسعين من مائة ثم ابعثوا حكما بالحق قوالا



          [ ص: 298 ] وأما المعقول فهو : أن الاستثناء لفظ يخرج من الجملة ما لولاه لدخل فيها ، فجاز إخراج الأكثر به كالتخصيص بالدليل المنفصل ، كاستثناء الأقل .

          هذا ما يخص الأكثر .

          وأما المساوي فدليله قوله - تعالى - : ( يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه ) استثنى النصف ، وليس بأقل [2] .

          وأما الحكم فعام للأكثر والمساوي ، وهو أنه لو قال : له علي عشرة واستثنى منها خمسة أو تسعة ، فإنه يلزمه في الأول خمسة وفي الثاني درهم باتفاق الفقهاء .

          ولولا صحة الاستثناء لما كان كذلك .

          وفي هذه الحجج ضعف إذ لقائل أن يقول : أما الآية فالغاوون فيها ، وإن كانوا أكثر من العباد المخلصين بدليل النصوص المذكورة فلا نسلم أن ( إلا ) في قوله : ( إلا من اتبعك من الغاوين ) للاستثناء ، بل هي بمعنى ( لكن ) .

          وإن سلمنا أنها للاستثناء ، ولكن نحن إنما نمنع من استثناء الأكثر إذا كان عدد المستثنى والمستثنى منه مصرحا به كما إذا قال : له علي مائة إلا تسعة وتسعين درهما ، وأما إذا لم يكن العدد مصرحا به ، كما إذا قال له : خذ ما في الكيس من الدراهم سوى الزيوف منها ، فإنه يصح ، وإن كانت الزيوف في نفس الأمر أكثر في العدد ، وكما إذا قال : جاءني بنو تميم سوى الأوباش منهم ، فإنه يصح من غير استقباح ، وإن كان عدد الأوباش منهم أكثر .

          وأما الشعر : فلا استثناء فيه ، بل معناه أدوا المائة التي سقط منها تسعون ، ولا يلزم أن يكون سقوطها بطريق الاستثناء .

          وما ذكروه من المعقول فحاصله يرجع إلى القياس في اللغة ، وهو فاسد كما سبق .

          كيف والفرق بين الأصل والفرع واقع من جهة الإجمال ؟

          [ ص: 299 ] وأما التخصيص فمن جهة أنه قد يكون بدليل منفصل وبغير دليل لفظي كما يأتي .

          وأما استثناء الأقل فلكونه غير مستقبح ، كما إذا قال : له علي عشرة إلا درهما ولا كذلك قوله : له علي مائة إلا تسعة وتسعين .

          وأما قوله - تعالى - : ( يا أيها المزمل ) ، فلا دلالة فيه على جواز استثناء النصف إذ النصف غير مستثنى ، وإنما هو ظرف للقيام فيه وتقديره : قم الليل نصفه إلا قليلا .

          وأما الحكم ، فدعوى الاتفاق عليه خطأ ، فإن من لا يرى صحة استثناء الأكثر والمساوي فهو عنده بمنزلة الاستثناء المستغرق .

          ولو قال : له علي عشرة إلا عشرة لزمه العشرة ، وإنما ذهب إلى ذلك الفقهاء القائلون بصحة استثناء الأكثر والمساوي .

          وأما من قال بامتناع صحة استثناء الأكثر والمساوي ، فقد احتج بأن الاستثناء على خلاف الأصل ؛ لكونه إنكارا بعد إقرار ، وجحدا بعد اعتراف ، غير أنا خالفناه في استثناء الأقل لمعنى لم يوجد في المساوي والأكثر ، فوجب أن لا يقال بصحته فيه .

          وبيان ذلك من وجهين : الأول : أن المقر ربما أقر بمال ، وقد وفى بعضه غير أنه نسيه لقلته ، وعند إقراره ربما تذكره فاستثناه .

          فلو لم يصح استثناؤه لتضرر ، ولا كذلك في الأكثر والنصف ؛ لأنه قلما يتفق الذهول عنه .

          والثاني : أنه إذا قال : له علي مائة إلا درهما لم يكن مستقبحا ، وإذا قال : له علي مائة إلا تسعة وتسعين كان مستقبحا والمستقبح في لغة العرب لا يكون من لغتهم .

          وهذه الحجة ضعيفة أيضا إذ لقائل أن يقول : لا نسلم أن الاستثناء على خلاف الأصل ، والقول بأنه إنكار بعد إقرار إنما يصح ذلك أن لو لم يكن المستثنى والمستثنى منه جملة واحدة وإلا فلا .

          وإن سلمنا عدم الاتحاد ، ولكن لا نسلم مخالفة ذلك الأصل ، بل الأصل قبوله لإمكان صدق المتكلم به ودفعا للضرر عنه ، ويجب اعتقاد ذلك حتى لا يكون قبول ذلك في استثناء الأقل على خلاف الأصل .

          والقول بأن ذلك مستقبح ركيك في لغة العرب ، ليس فيه ما يمنع مع ذلك من استعماله .

          ولهذا ، فإنه لو قال : له علي عشرة إلا درهما كان مستحسنا ، ولو قال : له علي عشرة إلا دانقا ودانقا . . . ، إلى تمام عشرين مرة كان في غاية الاستقباح ، وما منع ذلك من صحته واستعماله لغة .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية