اتفقوا على امتناع كقوله : له علي عشرة إلا عشرة الاستثناء المستغرق [1] ، وإنما اختلفوا في استثناء النصف والأكثر ، فذهب أصحابنا وأكثر الفقهاء والمتكلمين إلى صحة استثناء الأكثر حتى إنه لو قال : له علي عشرة إلا تسعة لم يلزمه سوى درهم واحد .
وذهب القاضي أبو بكر في آخر أقواله ، والحنابلة وابن درستويه النحوي إلى المنع من ذلك ، وزاد القاضي أبو بكر ، والحنابلة القول بالمنع من استثناء المساوي .
وقد نقل عن بعض أهل اللغة استقباح استثناء عقد صحيح ، فلا يقول : له علي مائة إلا عشرة ، بل خمسة إلى غير ذلك .
احتج من قال بصحة . استثناء الأكثر والمساوي بالمنقول والمعقول والحكم
أما المنقول فمن جهة القرآن والشعر .
أما القرآن فقوله - تعالى - : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ) ، وقال ( لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ) ، فإن استووا فقد استثنى المساوي ، وإن تفاوتوا فأيهما كان أكثر فقد استثناه .
كيف وإن الغاوين أكثر بدليل قوله - تعالى - : ( وقليل من عبادي الشكور ) ، وقوله - تعالى - : ( ولا تجد أكثرهم شاكرين ) ، وقوله - تعالى - : ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) ، و ( لكن أكثرهم لا يعقلون ) ، و ( لا يؤمنون ) .
وأما الشعر فقوله :
أدوا التي نقصت تسعين من مائة ثم ابعثوا حكما بالحق قوالا
[ ص: 298 ] وأما المعقول فهو : أن الاستثناء لفظ يخرج من الجملة ما لولاه لدخل فيها ، فجاز إخراج الأكثر به كالتخصيص بالدليل المنفصل ، كاستثناء الأقل .
هذا ما يخص الأكثر .
وأما المساوي فدليله قوله - تعالى - : ( يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه ) استثنى النصف ، وليس بأقل [2] .
وأما الحكم فعام للأكثر والمساوي ، وهو أنه لو قال : له علي عشرة واستثنى منها خمسة أو تسعة ، فإنه يلزمه في الأول خمسة وفي الثاني درهم باتفاق الفقهاء .
ولولا صحة الاستثناء لما كان كذلك .
وفي هذه الحجج ضعف إذ لقائل أن يقول : أما الآية فالغاوون فيها ، وإن كانوا أكثر من العباد المخلصين بدليل النصوص المذكورة فلا نسلم أن ( إلا ) في قوله : ( إلا من اتبعك من الغاوين ) للاستثناء ، بل هي بمعنى ( لكن ) .
وإن سلمنا أنها للاستثناء ، ولكن نحن إنما نمنع من استثناء الأكثر إذا كان عدد المستثنى والمستثنى منه مصرحا به كما إذا قال : له علي مائة إلا تسعة وتسعين درهما ، وأما إذا لم يكن العدد مصرحا به ، كما إذا قال له : خذ ما في الكيس من الدراهم سوى الزيوف منها ، فإنه يصح ، وإن كانت الزيوف في نفس الأمر أكثر في العدد ، وكما إذا قال : جاءني بنو تميم سوى الأوباش منهم ، فإنه يصح من غير استقباح ، وإن كان عدد الأوباش منهم أكثر .
وأما الشعر : فلا استثناء فيه ، بل معناه أدوا المائة التي سقط منها تسعون ، ولا يلزم أن يكون سقوطها بطريق الاستثناء .
وما ذكروه من المعقول فحاصله يرجع إلى القياس في اللغة ، وهو فاسد كما سبق .
كيف والفرق بين الأصل والفرع واقع من جهة الإجمال ؟
[ ص: 299 ] وأما التخصيص فمن جهة أنه قد يكون بدليل منفصل وبغير دليل لفظي كما يأتي .
وأما استثناء الأقل فلكونه غير مستقبح ، كما إذا قال : له علي عشرة إلا درهما ولا كذلك قوله : له علي مائة إلا تسعة وتسعين .
وأما قوله - تعالى - : ( يا أيها المزمل ) ، فلا دلالة فيه على جواز استثناء النصف إذ النصف غير مستثنى ، وإنما هو ظرف للقيام فيه وتقديره : قم الليل نصفه إلا قليلا .
وأما الحكم ، فدعوى الاتفاق عليه خطأ ، فإن من لا يرى صحة استثناء الأكثر والمساوي فهو عنده بمنزلة الاستثناء المستغرق .
ولو قال : له علي عشرة إلا عشرة لزمه العشرة ، وإنما ذهب إلى ذلك الفقهاء القائلون بصحة استثناء الأكثر والمساوي .
وأما من قال بامتناع صحة استثناء الأكثر والمساوي ، فقد احتج بأن الاستثناء على خلاف الأصل ؛ لكونه إنكارا بعد إقرار ، وجحدا بعد اعتراف ، غير أنا خالفناه في استثناء الأقل لمعنى لم يوجد في المساوي والأكثر ، فوجب أن لا يقال بصحته فيه .
وبيان ذلك من وجهين : الأول : أن المقر ربما أقر بمال ، وقد وفى بعضه غير أنه نسيه لقلته ، وعند إقراره ربما تذكره فاستثناه .
فلو لم يصح استثناؤه لتضرر ، ولا كذلك في الأكثر والنصف ؛ لأنه قلما يتفق الذهول عنه .
والثاني : أنه إذا قال : له علي مائة إلا درهما لم يكن مستقبحا ، وإذا قال : له علي مائة إلا تسعة وتسعين كان مستقبحا والمستقبح في لغة العرب لا يكون من لغتهم .
وهذه الحجة ضعيفة أيضا إذ لقائل أن يقول : لا نسلم أن الاستثناء على خلاف الأصل ، والقول بأنه إنكار بعد إقرار إنما يصح ذلك أن لو لم يكن المستثنى والمستثنى منه جملة واحدة وإلا فلا .
وإن سلمنا عدم الاتحاد ، ولكن لا نسلم مخالفة ذلك الأصل ، بل الأصل قبوله لإمكان صدق المتكلم به ودفعا للضرر عنه ، ويجب اعتقاد ذلك حتى لا يكون قبول ذلك في استثناء الأقل على خلاف الأصل .
والقول بأن ذلك مستقبح ركيك في لغة العرب ، ليس فيه ما يمنع مع ذلك من استعماله .
ولهذا ، فإنه لو قال : له علي عشرة إلا درهما كان مستحسنا ، ولو قال : له علي عشرة إلا دانقا ودانقا . . . ، إلى تمام عشرين مرة كان في غاية الاستقباح ، وما منع ذلك من صحته واستعماله لغة .