وأما من جهة المعقول فحجج :
الحجة الأولى : أن كان الاستثناء الثاني عائدا إلى الجملة الاستثنائية لا إلى الجملة الأولى ، فدل على اختصاص الاستثناء بالجملة المقارنة دون المتقدمة ، وإلا كان عدم عوده على خلاف الأصل ، وذلك كما لو قال : له علي عشرة إلا أربعة إلا اثنين ، فإن الاستثناء الثاني يختص بالأربعة دون العشرة . الاستثناء من الجملة إذا تعقبه استثناء
ولقائل أن يقول : الاستثناء الثاني ، إما أن يكون بحرف عطف أو لا بحرف عطف .
فإن كان الأول ، فهو راجع إلى الجملة المستثنى منها كقوله : له علي عشرة إلا ثلاثة وإلا اثنين فيكون المقر به خمسة .
وإن كان الثاني كقوله : له علي عشرة إلا أربعة إلا اثنين ، فإنما امتنع عوده إلى الجملة المستثنى منها ؛ لدليل لا لعدم اقتضائه لذلك لغة ، وذلك أن ، فإما أن يعود إليها لا غير ، أو إليها وإلى الاستثناء : الأول ممتنع ؛ لأن الإجماع منعقد على دخول الاستثناء الأول تحت الاستثناء الثاني ، فقطعه عنه ورده إلى الجملة المستثنى منها لا غير يكون على خلاف الإجماع ، وإن كان عائدا إلى الاستثناء والمستثنى منه فالمستثنى منه إثبات ، فالاستثناء منه يكون نفيا ؛ لأن الاستثناء من الإثبات نفي ، والاستثناء من الاستثناء يكون إثباتا ؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات [ ص: 305 ] على ما يأتي تقريره عن قريب ، وذلك ممتنع لوجهين : الأول : أنه يلزم منه أن يكون قد أثبت لعوده الاستثناء الثاني لو عاد إلى الجملة المستثنى منها [1] إلى أحدهما مثل ما نفاه عن الآخر ، ويكون جابرا للنفي بالإثبات ويبقى ما كان متحققا قبل الاستثناء الثاني بحاله ، وفيه إلغاء الاستثناء الثاني ، وخروجه عن التأثير ، وهو خلاف الإجماع .
الوجه الثاني : أنه يلزم منه أن يكون بعوده إلى الجملة الأولى قد نفى عنها مثل ما أثبته لها بعوده إلى الاستثناء الثاني ، فيكون الاستثناء الواحد مقتضيا لنفي شيء وإثباته بالنسبة إلى شيء واحد ، وهو محال .
الحجة الثانية : أن الجملة الأخيرة حائلة بين الاستثناء والجملة الأولى ، فكان ذلك مانعا من العود إليها كالسكوت .
ولقائل أن يقول : إنما يصح ذلك أن لو لم يكن الكلام كله بمنزلة جملة واحدة ، وأما إذا كان كالجملة الواحدة ، فلا .
الحجة الثالثة : أنه فلا يكون بظاهره عائدا إليهما ، كما لو قال : أنت طالق ثلاثا وثلاثا إلا أربعة ، فإنه لا يعود إلى الجميع ، وإلا لوقع به طلقتان لا ثلاث طلقات . استثناء تعقب جملتين
قلنا : لا نسلم امتناع عوده إلى الجميع ، بل هو عائد إلى الجميع ، والواقع طلقتان على رأي لنا .
وإن سلمنا امتناع عوده إلى الجميع ؛ فلأن المعتبر من قوله : ثلاثا وثلاثا إنما هو الجملة الأولى دون الثانية .
فلو عاد الاستثناء إليها لكان مستغرقا ، وهو باطل .
الحجة الرابعة : أن دخول الجملة الأولى تحت لفظه معلوم ، ودخولها تحت الاستثناء مشكوك فيه ، والشك لا يرفع اليقين .
قلنا : لا نسلم تيقن دخوله مع اتصال الاستثناء بالكلام ، ثم وإن كان ذلك مما يمنع من عود الاستثناء إلى الجمل المتقدمة فهو مانع من اختصاصه بالجملة الأخيرة لجواز عوده بالدليل إلى الجملة المتقدمة دون المتأخرة ، ثم يلزم منه أن لا يعود الشرط والصفة على باقي الجمل لما ذكروه ، وهو عائد عند أكثر القائلين باختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة .
[ ص: 306 ] الحجة الخامسة : أنه لما كان الاستثناء مما تدعو الحاجة إليه ، ولا يستقل بنفسه دعت الحاجة إلى عوده إلى غيره ، وهذه الحاجة والضرورة مندفعة بعوده إلى ما يليه فلا حاجة إلى عوده إلى غيره ، إذ هو خارج عن محل الحاجة ، وإنما وجب اختصاصه بما يليه دون غيره لوجهين :
الأول : أنه إذا ثبت اختصاصه بجملة واحدة وجب عوده إلى ما يليه لامتناع عوده إلى غيره بالإجماع .
الثاني : أنه قريب منه والقرب مرجح ، ولهذا وجب عود الضمير في قولهم : جاء زيد وعمرو أبوه منطلق إلى عمرو لكونه أقرب مذكور [2] ، فكان ما يلي الفعل من الاسمين اللذين لا يظهر فيهما الإعراب بالفاعلية أولى كقولهم : ضربت سلمى سعدى .
وهذه الحجة أيضا مدخولة ؛ إذ لقائل أن يقول : ما ذكرتموه إنما يصح أن لو لم تكن الحاجة ماسة إلى عود الاستثناء إلى كل ما تقدم ، وذلك غير مسلم ، وإذا كانت الحاجة ماسة إلى عوده إلى كل ما تقدم فلا تكون الحاجة مندفعة بعوده إلى ما يليه فقط .
ثم ما ذكرتموه منتقض بالشرط والصفة ، وإن سلمنا أنه لا ضرورة ، ولكن لم قلتم بامتناع عوده إلى ما تقدم وإن لم تكن ثم ضرورة ؟ ولهذا فإنه لو قام دليل على إرادة عوده إلى الجميع ، فإنه يكون عائدا إليه إجماعا ، وإنما الخلاف في كونه حقيقة في الكلام أم لا ؟
الحجة السادسة : ذكرها القلانسي وهي إن قال : نصب ما بعد الاستثناء في الإثبات إنما كان بالفعل المتقدم بإعانة ( إلا ) على ما هو مذهب أكابر البصريين ، فلو قيل : إن الاستثناء يرجع إلى جميع الجمل لكان ما بعد ( إلا ) منتصبا بالأفعال المقدرة في كل جملة ، ويلزم منه اجتماع عاملين على معمول واحد ، وذلك لا يجوز ؛ لأنه بتقدير مضادة أحد العاملين في عمله للعامل الآخر يلزم منه أن يكون المعمول الواحد مرفوعا منصوبا معا ، وذلك كما لو قلت : ما زيد بذاهب ولا قام عمرو ، وهو [ ص: 307 ] محال ، ولأنه إما أن يكون كل واحد مستقلا بالأعمال ، أو لا كل واحد منهما مستقل أو المستقل البعض دون البعض .
فإن كان الأول ، لزم من ذلك عدم استقلال كل واحد ، ضرورة أنه لا معنى لكون كل واحد مستقلا إلا أن الحكم ثبت به دون غيره .
وإن كان الثاني فهو خلاف الفرض ، وإن كان الثالث فليس البعض أولى من البعض .
ولقائل أن يقول : لا نسلم أنه إذا قال : قام القوم إلا زيدا أن زيدا منصوب بقام ، وإن سلمنا أنه منصوب بقام ، لكن بالفعل المحقق أو المقدر في كل جملة .
الأول مسلم ، والثاني ممنوع .
والفعل المحقق غير زائد على واحد .
وأما حجج القائلين بالاشتراك فثلاثة :
الحجة الأولى : أنه يحسن الاستفهام من المتكلم عن إرادة عود الاستثناء إلى ما يليه أو إلى الكل ، ولو كان حقيقة في أحد هذه المحامل دون غيره لما حسن ذلك ، وذلك يدل على الاشتراك ، وهذه الحجة مدخولة لجواز أن يكون الاستفهام لعدم المعرفة بالمدلول الحقيقي والمجازي أصلا كما تقوله الواقفية ، أو لأنه حقيقة في البعض ، مجاز في البعض ، والاستفهام للحصول على اليقين ودفع البعيد كما بيناه فيما تقدم .
الحجة الثانية : أنه يصح إطلاق الاستثناء وإرادة عوده إلى ما يليه ، وإلى الجمل كلها وإلى بعض الجمل المتقدمة دون البعض ، بإجماع أهل اللغة ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، والمعاني مختلفة فكان مشتركا .
ولقائل أن يقول : متى يكون الأصل في الإطلاق الحقيقة ، إذا أفضى إلى الاشتراك المخل بمقصود أهل الوضع من وضعهم أو إذا لم يفض إلى ذلك ؟ الأول ممنوع ، والثاني مسلم .
ثم وإن كان ذلك هو الأصل مطلقا ، غير أنه أمر ظني ، ولم قلتم بإمكان التمسك به فيما نحن فيه ، على ما هو معلوم من قاعدة الواقفية ؟
الحجة الثالثة : أن الاستثناء فضلة لا تستقل بنفسها ، فكان احتمال عوده إلى ما يليه وإلى جميع الجمل مساويا ، كالحال وظرف الزمان والمكان في قوله : ضربت زيدا وعمرا قائما في الدار يوم الجمعة .
ولقائل أن يقول : لا نسلم صحة ما ذكره في الحال والظرف ، بل هو عائد إلى الكل أو ما يليه على اختلاف المذهبين ، وإن سلم ذلك غير أنه آيل إلى القياس في اللغة ، وهو باطل كما سبق .