الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          وأما من جهة المعقول فحجج :

          الحجة الأولى : أن الاستثناء من الجملة إذا تعقبه استثناء كان الاستثناء الثاني عائدا إلى الجملة الاستثنائية لا إلى الجملة الأولى ، فدل على اختصاص الاستثناء بالجملة المقارنة دون المتقدمة ، وإلا كان عدم عوده على خلاف الأصل ، وذلك كما لو قال : له علي عشرة إلا أربعة إلا اثنين ، فإن الاستثناء الثاني يختص بالأربعة دون العشرة .

          ولقائل أن يقول : الاستثناء الثاني ، إما أن يكون بحرف عطف أو لا بحرف عطف .

          فإن كان الأول ، فهو راجع إلى الجملة المستثنى منها كقوله : له علي عشرة إلا ثلاثة وإلا اثنين فيكون المقر به خمسة .

          وإن كان الثاني كقوله : له علي عشرة إلا أربعة إلا اثنين ، فإنما امتنع عوده إلى الجملة المستثنى منها ؛ لدليل لا لعدم اقتضائه لذلك لغة ، وذلك أن الاستثناء الثاني لو عاد إلى الجملة المستثنى منها ، فإما أن يعود إليها لا غير ، أو إليها وإلى الاستثناء : الأول ممتنع ؛ لأن الإجماع منعقد على دخول الاستثناء الأول تحت الاستثناء الثاني ، فقطعه عنه ورده إلى الجملة المستثنى منها لا غير يكون على خلاف الإجماع ، وإن كان عائدا إلى الاستثناء والمستثنى منه فالمستثنى منه إثبات ، فالاستثناء منه يكون نفيا ؛ لأن الاستثناء من الإثبات نفي ، والاستثناء من الاستثناء يكون إثباتا ؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات [ ص: 305 ] على ما يأتي تقريره عن قريب ، وذلك ممتنع لوجهين : الأول : أنه يلزم منه أن يكون قد أثبت لعوده [1] إلى أحدهما مثل ما نفاه عن الآخر ، ويكون جابرا للنفي بالإثبات ويبقى ما كان متحققا قبل الاستثناء الثاني بحاله ، وفيه إلغاء الاستثناء الثاني ، وخروجه عن التأثير ، وهو خلاف الإجماع .

          الوجه الثاني : أنه يلزم منه أن يكون بعوده إلى الجملة الأولى قد نفى عنها مثل ما أثبته لها بعوده إلى الاستثناء الثاني ، فيكون الاستثناء الواحد مقتضيا لنفي شيء وإثباته بالنسبة إلى شيء واحد ، وهو محال .

          الحجة الثانية : أن الجملة الأخيرة حائلة بين الاستثناء والجملة الأولى ، فكان ذلك مانعا من العود إليها كالسكوت .

          ولقائل أن يقول : إنما يصح ذلك أن لو لم يكن الكلام كله بمنزلة جملة واحدة ، وأما إذا كان كالجملة الواحدة ، فلا .

          الحجة الثالثة : أنه استثناء تعقب جملتين فلا يكون بظاهره عائدا إليهما ، كما لو قال : أنت طالق ثلاثا وثلاثا إلا أربعة ، فإنه لا يعود إلى الجميع ، وإلا لوقع به طلقتان لا ثلاث طلقات .

          قلنا : لا نسلم امتناع عوده إلى الجميع ، بل هو عائد إلى الجميع ، والواقع طلقتان على رأي لنا .

          وإن سلمنا امتناع عوده إلى الجميع ؛ فلأن المعتبر من قوله : ثلاثا وثلاثا إنما هو الجملة الأولى دون الثانية .

          فلو عاد الاستثناء إليها لكان مستغرقا ، وهو باطل .

          الحجة الرابعة : أن دخول الجملة الأولى تحت لفظه معلوم ، ودخولها تحت الاستثناء مشكوك فيه ، والشك لا يرفع اليقين .

          قلنا : لا نسلم تيقن دخوله مع اتصال الاستثناء بالكلام ، ثم وإن كان ذلك مما يمنع من عود الاستثناء إلى الجمل المتقدمة فهو مانع من اختصاصه بالجملة الأخيرة لجواز عوده بالدليل إلى الجملة المتقدمة دون المتأخرة ، ثم يلزم منه أن لا يعود الشرط والصفة على باقي الجمل لما ذكروه ، وهو عائد عند أكثر القائلين باختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة .

          [ ص: 306 ] الحجة الخامسة : أنه لما كان الاستثناء مما تدعو الحاجة إليه ، ولا يستقل بنفسه دعت الحاجة إلى عوده إلى غيره ، وهذه الحاجة والضرورة مندفعة بعوده إلى ما يليه فلا حاجة إلى عوده إلى غيره ، إذ هو خارج عن محل الحاجة ، وإنما وجب اختصاصه بما يليه دون غيره لوجهين :

          الأول : أنه إذا ثبت اختصاصه بجملة واحدة وجب عوده إلى ما يليه لامتناع عوده إلى غيره بالإجماع .

          الثاني : أنه قريب منه والقرب مرجح ، ولهذا وجب عود الضمير في قولهم : جاء زيد وعمرو أبوه منطلق إلى عمرو لكونه أقرب مذكور [2] ، فكان ما يلي الفعل من الاسمين اللذين لا يظهر فيهما الإعراب بالفاعلية أولى كقولهم : ضربت سلمى سعدى .

          وهذه الحجة أيضا مدخولة ؛ إذ لقائل أن يقول : ما ذكرتموه إنما يصح أن لو لم تكن الحاجة ماسة إلى عود الاستثناء إلى كل ما تقدم ، وذلك غير مسلم ، وإذا كانت الحاجة ماسة إلى عوده إلى كل ما تقدم فلا تكون الحاجة مندفعة بعوده إلى ما يليه فقط .

          ثم ما ذكرتموه منتقض بالشرط والصفة ، وإن سلمنا أنه لا ضرورة ، ولكن لم قلتم بامتناع عوده إلى ما تقدم وإن لم تكن ثم ضرورة ؟ ولهذا فإنه لو قام دليل على إرادة عوده إلى الجميع ، فإنه يكون عائدا إليه إجماعا ، وإنما الخلاف في كونه حقيقة في الكلام أم لا ؟

          الحجة السادسة : ذكرها القلانسي وهي إن قال : نصب ما بعد الاستثناء في الإثبات إنما كان بالفعل المتقدم بإعانة ( إلا ) على ما هو مذهب أكابر البصريين ، فلو قيل : إن الاستثناء يرجع إلى جميع الجمل لكان ما بعد ( إلا ) منتصبا بالأفعال المقدرة في كل جملة ، ويلزم منه اجتماع عاملين على معمول واحد ، وذلك لا يجوز ؛ لأنه بتقدير مضادة أحد العاملين في عمله للعامل الآخر يلزم منه أن يكون المعمول الواحد مرفوعا منصوبا معا ، وذلك كما لو قلت : ما زيد بذاهب ولا قام عمرو ، وهو [ ص: 307 ] محال ، ولأنه إما أن يكون كل واحد مستقلا بالأعمال ، أو لا كل واحد منهما مستقل أو المستقل البعض دون البعض .

          فإن كان الأول ، لزم من ذلك عدم استقلال كل واحد ، ضرورة أنه لا معنى لكون كل واحد مستقلا إلا أن الحكم ثبت به دون غيره .

          وإن كان الثاني فهو خلاف الفرض ، وإن كان الثالث فليس البعض أولى من البعض .

          ولقائل أن يقول : لا نسلم أنه إذا قال : قام القوم إلا زيدا أن زيدا منصوب بقام ، وإن سلمنا أنه منصوب بقام ، لكن بالفعل المحقق أو المقدر في كل جملة .

          الأول مسلم ، والثاني ممنوع .

          والفعل المحقق غير زائد على واحد .

          وأما حجج القائلين بالاشتراك فثلاثة :

          الحجة الأولى : أنه يحسن الاستفهام من المتكلم عن إرادة عود الاستثناء إلى ما يليه أو إلى الكل ، ولو كان حقيقة في أحد هذه المحامل دون غيره لما حسن ذلك ، وذلك يدل على الاشتراك ، وهذه الحجة مدخولة لجواز أن يكون الاستفهام لعدم المعرفة بالمدلول الحقيقي والمجازي أصلا كما تقوله الواقفية ، أو لأنه حقيقة في البعض ، مجاز في البعض ، والاستفهام للحصول على اليقين ودفع البعيد كما بيناه فيما تقدم .

          الحجة الثانية : أنه يصح إطلاق الاستثناء وإرادة عوده إلى ما يليه ، وإلى الجمل كلها وإلى بعض الجمل المتقدمة دون البعض ، بإجماع أهل اللغة ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، والمعاني مختلفة فكان مشتركا .

          ولقائل أن يقول : متى يكون الأصل في الإطلاق الحقيقة ، إذا أفضى إلى الاشتراك المخل بمقصود أهل الوضع من وضعهم أو إذا لم يفض إلى ذلك ؟ الأول ممنوع ، والثاني مسلم .

          ثم وإن كان ذلك هو الأصل مطلقا ، غير أنه أمر ظني ، ولم قلتم بإمكان التمسك به فيما نحن فيه ، على ما هو معلوم من قاعدة الواقفية ؟

          الحجة الثالثة : أن الاستثناء فضلة لا تستقل بنفسها ، فكان احتمال عوده إلى ما يليه وإلى جميع الجمل مساويا ، كالحال وظرف الزمان والمكان في قوله : ضربت زيدا وعمرا قائما في الدار يوم الجمعة .

          ولقائل أن يقول : لا نسلم صحة ما ذكره في الحال والظرف ، بل هو عائد إلى الكل أو ما يليه على اختلاف المذهبين ، وإن سلم ذلك غير أنه آيل إلى القياس في اللغة ، وهو باطل كما سبق .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية