[ ص: 329 ] المسألة الثامنة
في - . تخصيص العموم بفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم
وقد اختلف القائلون بكون فعل الرسول حجة على غيره ، هل يجوز تخصيصه للعموم أم لا ؟ فأثبته الأكثرون كالشافعية والحنفية والحنابلة ونفاه الأقلون كالكرخي .
وتحقيق الحق من ذلك يتوقف على التفصيل ، وهو أن نقول : العام الوارد إما أن يكون عاما للأمة والرسول كما لو قال - صلى الله عليه وسلم - : الوصال أو استقبال القبلة في قضاء الحاجة أو كشف الفخذ حرام على كل مسلم .
وإما أن يكون عاما للأمة دون الرسول كما لو قال - صلى الله عليه وسلم - : نهيتكم عن الوصال أو استقبال القبلة في قضاء الحاجة أو كشف الفخذ ، فإن كان الأول فإذا رأيناه قد واصل أو استقبل القبلة في قضاء الحاجة أو كشف فخذه فلا خلاف في أن فعله يدل على إباحة ذلك الفعل في حقه ، ويكون مخرجا له عن العموم ومخصصا .
وأما بالنسبة إلى غيره فإما أن نقول بأن اتباعه في فعله والتأسي به واجب على كل من سواه ، أو لا نقول ذلك .
فإن قيل بالأول ، فيلزم منه رفع حكم العموم مطلقا في حقه بفعله وفي حق غيره بوجوب التأسي به ، فلا يكون ذلك تخصيصا ، بل نسخا لحكم العموم مطلقا بالنسبة إليه وإلى غيره .
وإن قيل بالثاني ، كان ذلك تخصيصا له عن العموم دون أمته .
وأما إن كان عاما للأمة دون الرسول ، ففعله لا يكون مخصصا لنفسه عن العموم لعدم دخوله فيه .
وأما بالنسبة إلى الأمة ، فإن قيل أيضا بوجوب اتباع الأمة له في فعله ، كان ذلك أيضا نسخا عنهم لا تخصيصا كما سبق .
وإن لم يكن ذلك واجبا عليهم فلا يكون فعله مخصصا للعموم أصلا ، لا بالنسبة إليه لعدم دخوله في العموم ، ولا بالنسبة إلى الأمة .
وعلى هذا التفصيل فلا أرى للخلاف على هذا التخصيص [1] بفعل النبي وجها .
[ ص: 330 ] أما إذا كان هو المخصص عن العموم وحده فلعدم الخلاف فيه ، وأما في باقي الأقسام فلعدم تحقق التخصيص .
بل إن وقع الخلاف في باقي الأقسام ، هل فعله يكون ناسخا لحكم العموم فيها ؟ فخارج عن الخوض في باب التخصيص ، والأظهر في ذلك إنما هو الوقف من جهة أن دليل وجوب التأسي ، واتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو بدليل عام للأمة ، وهو مساو للعموم الآخر في عمومه ، وليس العمل بأحدهما وإبطال الآخر أولى من العكس . [2]
فإن قيل : بل العمل بالفعل أولى ؛ لأنه خاص ، والخاص مقدم على العام قلنا : الفعل لم يكن دليلا على لزوم الحكم في حق باقي الأمة بنفسه ، بل لأدلة عامة موجبة على الأمة لزوم الاتباع .
[ ص: 331 ] فإن قيل : إلا أن الفعل الخاص مع العمومات الموجبة للتأسي أخص من اللفظ العام مطلقا ، ولأنه متأخر عن العام ، والمتأخر أولى بالعمل .
قلنا : أما الفعل فلا نسلم أن له دلالة على وجوب تأسي الأمة بالنبي بوجه من الوجوه ، بل الموجب شيء آخر ، وهو مساو للعام الآخر في عمومه ، وسواء كان الفعل خاصا أو عاما .
وذلك الموجب للتأسي غير متأخر عن العام ، بل محتمل للتقدم والتأخر من غير ترجيح ، حتى إنه لو علم التاريخ وجب العمل بالمتأخر منهما . [3]
كيف وإن القول بوجوب التأسي متوقف على وجود الفعل ، وعلى الدليل الدال على التأسي ، ولا كذلك للعام الآخر ، وما يتوقف العمل به على أمرين يكون أبعد مما لا يتوقف العمل به إلا على شيء واحد ؟ [4]