مسألة : ( إلا الطائر فإن فيه قيمته إلا الحمامة فيها شاة والنعامة فيها بدنة ) . وجزاء الصيد مثل ما قتل من النعم
في هذا الكلام فصول : أحدها : أن ما وجب ضمانه من الصيد إما بالحرم أو بالإحرام : فإنه يضمن بمثله من بهيمة الأنعام ، وهي الإبل والبقر والغنم وهو ما شابهه في الخلقة والصفة تقريبا ؛ لأن الله سبحانه قال : ( فجزاء مثل ما قتل من النعم ) وقد قرئ بالتنوين ، فيكون المثل هو الجزاء بعينه وهو بدل منه في [ ص: 281 ] الإعراب وقرئ ( فجزاء مثل ما قتل ) بالإضافة ، والمعنى فعطاء مثل المقتول ، فالجزاء على هذا مصدر ، أو اسم مصدر أضيف إلى مفعوله وضمن معنى الإعطاء والإخراج والإيتاء ، ومثل هذا : القراءتان في قوله تعالى : ( فدية طعام مسكين ) وإن كان بعض القراء فرق بينهما حيث جعل الفدية نفس الطعام وجعل الجزاء : إعطاء المثل .
والمراد بالمثل : ما مثال الصيد من جهة الخلقة والصورة سواء كانت قيمته أزيد من قيمة المقتول ، أو أنقص ؛ بدلالة الكتاب ، والسنة ، وإجماع الصحابة .
أما الأول : فمن وجوه ؛ أحدها : أن الله أوجب مثل المقتول ، والمثل إنما يكون من جنس مثله ، فعلم أن المثل حيوان ، ولهذا يقول الفقهاء في الأموال : ذوات الأمثال ، وذوات القيم ، وهذا الشيء يضمنه بمثله ، وهذا يضمن بقيمته ، والأصل بقاء العبارات على ما كانت عليه في لغة العرب الذين نزل القرآن بلسانهم ، وقيمة المتلف لا يسمى مثلا .
الثاني : أن الله أوجب المثل من النعم : احترازا من إخراج المثل من نوع المقتول ، فإنه لو أطلق المثل لفهم منه أن يخرج عن الضبع ضبع ، وعن الظبي ظبي . ولو كان المثل هو قيمة المقتول : لكان الواجب في ذمة القاتل قيمة [ ص: 282 ] الصيد ثم إنه يصرفها في شراء هدي ، أو شراء صدقة ، حينئذ فلا فرق بين الهدي وبين الصدقة حتى يجعل المثل من أحدهما دون الآخر .
الثالث : أن قوله : ( من النعم ) بيان لجنس المثل كقولهم : باب من حديد وثوب خز ، وذلك يوجب أن يكون المثل من النعم ، ولو كان المثل هو القيمة والنعم مصرف لها لقيل : جزاء مثل ما قتل في النعم .
الرابع : أنه لو كان المراد بالمثل : القيمة لم يكن فرق بين صرفها في الهدي والصدقة ، وكذلك لو أريد بالمثل : الهدي باعتبار مساواته للمقتول في القيمة : فإن الهدي والقيمة مثل بهذا الاعتبار ، وكان يجب على هذا أن يقال : ( فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين ) بالخفض ، والتقدير : فجزاء مثل المقتول من النعم ومن الكفارة ، فإنهما على هذا التقدير سواء . فلما كانت القراءة ترفع كفارة : علم أنها معطوفة على جزاء وأنها ليست من المثل المذكور في الآية وذلك يوجب أن لا يكون المثل القيمة ولا ما اشتري بالقيمة .
الخامس : أنه سبحانه قال في جزاء المثل : ( يحكم به ذوا عدل منكم ) ولا يجوز أن يكون المراد به تقويم التلف ؛ لأن التقويم بالنسبة إلى الهدي والصدقة واحد . فلما خص ذوي العدل بالجزاء دون الكفارة : علم أنه المثل من جهة الخلقة والصورة .
فإن قيل : فالآية تقتضي الإيجاب الجزاء في قتل صيد وذلك يعم ما له نظير ، وما لا نظير له ، وهذا إنما يكون في القيمة .
قلنا يقتضي إيجاب جزاء المثل من النعم إن أمكنه ؛ لأنه أوجب واحدا من ثلاثة وذلك مشروط بالإمكان بدليل من يوجب القيمة إنما يصرفها في النعم إذا [ ص: 283 ] أمكن أن يشتري بها فتكون القيمة لا تصلح لشراء هدي : هو بمثابة عدم النظير في الخلقة .
وأما السنة : وعليه اعتمد أحمد : فما روى قال : جابر بن عبد الله كبشا وجعله من الصيد " الضبع يصيبه المحرم رواه " جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أبو داود . وابن ماجه
وأما إجماع الصحابة : فإنه روي عن عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت وابن عمر وابن عباس وابن الزبير : أنهم وفي قضوا في النعامة ببدنة : ببقرة وفي الضبع بكبش ، وفي الغزال بعنز ، وفي اليربوع بجفرة ، وإنما حكموا بذلك لمماثلته في الخلقة لا على جهة القيمة ؛ لوجوه ؛ أحدها : أن ذلك مبين في قصصهم كما سيأتي بعضه إن شاء الله . حمار الوحش ، وبقرة الأيل والثيتل والوعل
الثاني : أن كل واحد من هذه القضايا تعددت في أمكنة وأزمنة مختلفة ، فلو كان المحكوم به قيمته لاختلفت باختلاف الأوقات والبقاع . فلما قضوا به على وجه واحد علم أنهم لم يعتبروا القيمة .
الثالث : أنه معلوم أن البدنة أكثر قيمة من النعامة والبقرة أكثر قيمة من حمار الوحش ، والكبش أكثر قيمة ، كما شهد به عرف الناس .
الرابع : أنهم قضوا ... . في اليربوع جفرة