الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل .

وأما الزينة في البدن مثل الكحل والخضاب ونحوهما ، فقال أحمد -في رواية العباس بن محمد - : ويكتحل بالإثمد المحرم ما لم يرد به الزينة ، قلت : الرجال والنساء ؟ قال : نعم .

وقال - في رواية إسحاق بن منصور - : ولا تكحل المرأة بالسواد إلا بالذرور . وقال - في رواية محمد بن حرب - وقد سئل عن الخضاب للمحرم فقال : ليس بمنزلة الطيب ، ولكنه زينة وقد كره الزينة عطاء للمحرم .

وقال - في رواية الميموني - : الحناء مثل الزينة ، ومن يرخص في الريحان يرخص فيه .

[ ص: 103 ] وقال - في رواية حنبل - وسئل عن المحرم يخضب رجله بالحناء إذا تشققت ، فقال : الحناء من الزينة ، ومن يرخص في الريحان يرخص في الحناء .

قال أصحابنا : تكره الزينة للمحرم ، وتمنع المحرمة من الزينة ، ولا فدية في الزينة .

ويحتمل كلام أحمد أنه لا يكره الزينة ; لأنه رخص في الحلي ولم يجزم بالكراهة وإنما نقله عن عطاء ; لأن الزينة من دواعي النكاح فكره للمحرم كالطيب ، ولأن المعتدة لما منعت من النكاح منعت من الطيب والزينة ، والمحرمة تشبهها في المنع من عقد النكاح فكذلك في توابعه من الزينة والطيب .

بخلاف الصائمة والمعتكفة ، فإنها لا تمنع من عقد النكاح وإنما تمنع من الوطء ; ولأن زمان الإحرام يطول كزمان العدة ، فالداعي إلى النكاح في المدة الطويلة وسيلة إليه في وقت النهي بخلاف ما قصر زمانه قد يستغنى بوقت الحل عن وقت الحظر .

وقال ابن أبي موسى : على المحرم أن يجتنب النساء والطيب والكحل المطيب ، والدواء الذي فيه طيب رطبا كان أو يابسا ، ثم قال فيما للمرأة وما تمنع منه : وليس لها أن تكتحل بما فيه طيب ، وما لا طيب فيه ، ففرق في الكحل الساذج بين الرجل والمرأة ، لكن المعتدة أشد من حيث تمنع من الخروج من منزلها ، فكانت أشد من المحرمة ، ولا فدية في الزينة ; لأن المتزين لا [ ص: 104 ] يستمتع بذلك وإنما يستمتع به غيره منه ، فأشبه ما لو طيب المحرم الميت ، فإنه لا فدية عليه بذلك .

فأما الكحل إذا كان فيه طيب فإنه لا يجوز إلا لضرورة ، فيكتحل به ويفتدي . وإن لم يكن فيه طيب ولم يكن فيه زينة : فلا بأس به ، وإن كان فيه زينة ، مثل الكحل الأسود ونحوه : كره له ذلك إذا قصد به الاكتحال للزينة لا للمنفعة والتداوي ، ولا فدية فيه عند أصحابنا .

وإن قصد به المنفعة وكانت به ضرورة إليه ، مثل : أن يخاف الرمد أو يكون أرمد أو نحو ذلك ، ولم يقم غيره مقامه جاز .

قال عبد الله : سمعت أبي يقول : ويغسل المحرم ثيابه ، ويدخل الحمام ويتداوى بالأكحال كلها ما لم يكن كحل فيه طيب .

وأما إن قام غيره مقامه أو لم يكن ضرورة ، ولكن فيه منفعة جاز على ما ذكره - في رواية العباس بن محمد - لأنه قال : يكتحل المحرم بالإثمد ما لم يرد به الزينة ، الرجال والنساء ، وكذلك على رواية عبد الله جوز له التداوي بكل كحل لا طيب فيه ولم يفصل بين أن يقوم غيره مقامه أو لا يقوم .

وأما على رواية ابن منصور : لا تكتحل المرأة بالسواد إلا بالذرور : فيكره إذا كان فيه زينة ، وإن لم يقصد به الزينة إذا لم تدع إليه الضرورة ، وقد خص المرأة [ ص: 105 ] بالذكر ; وذلك لما روى نبيه بن وهب : " أن عمر بن عبيد الله بن معمر اشتكى عينه وهو محرم ، فأراد أن يكحلها ، فنهاه أبان بن عثمان ، وأمره أن يضمدها بالصبر ، وحدثه عن عثمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يفعله ، وفي رواية فأرسل إليه أن أضمدهما بالصبر ، فإن عثمان حدث عن رسول الله في الرجل إذا اشتكى عينيه وهو محرم ضمدهما بالصبر " رواه مسلم .

فقد رخص له بالتضميد بالصبر مع الشكاة ، فعلم أنه لا يكتحل بما فيه زينة أو طيب إذا وجد عنه مندوحة ، وإن لم يقصد التزين .

وعن عطاء قال : " تكتحل المحرمة بكل كحل إلا كحلا فيه طيب أو سواد فإنه زينة .

[ ص: 106 ] وعن مجاهد قال : " لا تكتحل المحرمة بالإثمد ، قيل له : ليس فيه طيب . قال : لا فإنه زينة .

وعن إبراهيم قال : لا بأس أن تكتحل المحرمة بالكحل الأحمر والذرور .

وعن سعيد بن المسيب قال : " يكتحل المحرم بالصبر " . رواهن أحمد .

ووجه الأول : ما روى نافع عن ابن عمر : " أنه اشتكى فأقطر الصبر في عينيه وهو محرم " .

وعنه قال يكتحل المحرم بأي كحل شاء ما لم يكن كحل فيه طيب " . رواهما أحمد .

وفي رواية : " أنه كان إذا رمد وهو محرم أقطر في عينيه الصبر إقطارا ، وأنه قال : يكتحل المحرم بأي كحل إذا رمد ما لم يكتحل بطيب ومن غير رمد " . رواه الشافعي .

فأما الطيب فلا يجوز إلا لضرورة ، وعليه يحمل ما روى أحمد عن ابن عباس : " أنه اكتحل بكحل فيه طيب وهو محرم " وعليه الفدية .

[ ص: 107 ] وأما الخضاب بغير الحناء ، مثل الوشم والسواد والنيل ونحو ذلك مما ليس بطيب فهو زينة محضة . وإن كان من الطيب مثل الزعفران والورس ونحو ذلك لم يجز .

وأما بالحناء فقد نص أحمد على أنه ليس بطيب ولكنه زينة ، وقال أيضا : " هو مثل الزينة " ، وعلى هذا أصحابنا ، قالوا : " لأنه إنما يقصد لونه دون رائحته فأشبه الوشمة ونحوها " ، وشبهوه بالعصفر وبالفواكه في أن المقصود به غير الرائحة من طعم أو لون .

وقول أحمد : " من يرخص في الريحان يرخص في الحناء " دليل على أنه عنده بمنزلة الريحان في كونه نباتا له رائحة طيبة ، ولا يتخذ للتطيب . فعلى هذا إذا منعنا من الريحان منعنا من الحناء .

ويتوجه أن لا يكره بحال ; لأن أحمد قال : " من رخص في الريحان رخص فيه " ولم يقل : من منع من الريحان ; لأنه أولى بالرخصة من الريحان إذ الريحان يقصد شمه ، والحناء لا يقصد شمه فلا يلزم من كراهة الريحان كراهته كما لم يكره المعصفر ، فإذا كان زينة كره لغير حاجة كما ذكره في رواية ابن أبي حرب وعلى ذلك أصحابنا .

ويحتمل قوله الرخصة مطلقا ; لأنه قال : " ومن يرخص في الريحان يرخص فيه " ، والريحان على إحدى الروايتين لا كراهة فيه ; ولأنه إنما نقل الكراهة عن عطاء .

[ ص: 108 ] فأما لحاجة فلا يكره كما قال - في رواية حنبل - وعلى ذلك يحمل ما روي عن عكرمة : " أن عائشة وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كن يختضبن وهن حرم " . رواه ابن المنذر .

قال أصحابنا : " وإذا اختضبت ولفت على يديها لفائف وشدتها افتدت كما لو لبست القفازين ، وكذلك كل خرقة تلفها على يديها وتشدها ; لأن شدها يجعلها بمنزلة القفازين في كونه شيئا مصنوعا لليد وكذلك الرجل . وإن لفتها من غير شد لم تفتد ; لأنه بمنزلة ما لو وضعت يدها في كمها ، وكالعمامة التي يلقها الرجل على بطنه ، فإن غرزت طرف اللفافة في لفة تحتها ...

وأما النظر في المرآة ، فقال أحمد : " ينظر المحرم في المرآة ولا يصلح شيئا " ، قال أصحابنا : " ينظر في المرآة ولا يصلح شعثا ولا يزيل غبارا " ، ولفظ بعضهم : " ينظر إلا للزينة " ; لما روى أحمد عن عكرمة عن ابن عباس قال : " لا بأس أن ينظر المحرم في المرآة " .

[ ص: 109 ] وعن نافع قال : " رأيت ابن عمر ينظر في المرآة وهو محرم " .

وعن كثير بن عباس وتمام بن عباس وكريب مولى ابن عباس : " أنهم كانوا ينظرون في المرآة وهم محرمون " .

وعن الحسن وابن سيرين وعطاء وطاوس وعكرمة : " أنه لا بأس بذلك " ، إلا أن عطاء قال : " لا بأس أن ينظر المحرم في المرآة ليميط بها الأذى فأما الزينة فلا " .

وروى مالك عن ابن عمر : " أنه نظر في المرآة من شكوى كان بعينيه وهو محرم " .

وإنما قلنا : " لا يزيل شعثا ولا ينفض غبارا ; لأن المحرم الأشعث الأغبر " .

التالي السابق


الخدمات العلمية