الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فصل )

ويفسد به الإحرام سواء فعله عامدا ، أو ساهيا ، وسواء كان عالما بأنه محرم ، [ ص: 250 ] أو بأن الوطء حرام عليه ، أو بأنه مفسد ، أو جاهل ببعض ذلك . هذا نصه ومذهبه ؛ قال - في رواية أبي طالب - : قال سفيان : ثلاثة في الحج العمد والنسيان سواء ؛ إذا أتى أهله ، وإذا أصاب صيدا ، وإذا حلق رأسه .

قال أحمد : إذا جامع أهله بطل حجه ؛ لأنه شيء لا يقدر على رده ، والشعر إذا حلقه فقد ذهب لا يقدر على رده ، والصيد إذا قتله : فقد ذهب لا يقدر على رده ، فهذه الثلاثة العمد والنسيان والخطأ وكل شيء من النسيان بعد هذه الثلاثة فهو يقدر على رده ، مثل إذا غطى رأسه ، ثم ذكر ألقاها عن رأسه وليس عليه شيء أو لبس ثوبا ، أو خفا نزعه وليس عليه شيء ، وقال في -رواية صالح وحنبل - : من زعم أن الخطأ والنسيان مرفوعا عنه يلزمه لو وطئ أهله وهو محرم أن لا يكون عليه شيء ، وإذا قتل صيدا ناسيا لا يكون عليه شيء .

ويتخرج أنه لا يفسد الإحرام بوطء الجاهل والناسي ولا شيء عليه كرواية عنه في قتل الصيد لا سيما وقد سوى هو بين الجماع وقتل الصيد .

وقد خرج أصحابنا تخريجا أن الحلق والتقليم مثل قتل الصيد ، فيلحق الجماع بذلك .

[ ص: 251 ] وقد يقال : الجماع أولى بذلك من قتل الصيد لأنه أقرب إلى الاستمتاع الذي هو اللباس والطيب من قتل الصيد ، فإنه إتلاف محض ، وعلى رواية ذكرها بعض أصحابنا : أن جماع الناسي لا يبطل الصوم .

ويتخرج أنه يوجب الكفارة ولا يبطل الإحرام كإحدى الروايتين فيمن جامع ناسيا أو جاهلا حيث قلنا يبطل الصوم ولا كفارة فيه ، فإن إبطال الصوم نظير إيجاب الكفارة في الإحرام ، ووجوب الكفارة هناك نظير فساد الإحرام ، لأن كفارة الصوم لا يجب الإجماع به ، كما لا يبطل الإحرام إلا بالجماع بخلاف ما يفسد الصيام ويوجب الكفارة في الإحرام فإنه متعدد .

لكن محظورات الإحرام عند أصحابنا أغلظ من محظورات الصيام لوجهين ؛ أحدهما : أن الإحرام في نفسه أوكد من الصيام من وجوه متعددة ، مثل : كونه لا يقع إلا لازما ، ولا يخرج منه بالفساد ، وكونه يحرم فيه جميع المباشرات وكونه لا يخرج منه بالأعذار .

الثاني : أن الإحرام عليه علامة تدل عليه من التجرد والتلبية وأعمال النسك [ ص: 252 ] ورؤية المشاعر ، ومخالطة الحجيج . فلا يعذر فيه بالنسيان بخلاف الصيام فإنه ترك محض ؛ ووجه هذا عموم قوله سبحانه : ( لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) قال الله سبحانه : قد فعلت .

وإيجاب القضاء والهدي : مؤاخذة ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه . وأيضا : فإن الجماع منهي عنه والمقصود تركه ، وما نهي عنه إذا فعل سهوا أو نسيانا : لم يكن فاعله عاصيا ولا مخالفا بل يكون وجود فعله كعدمه ، ومن سلك هذه الطريقة طردها في جميع المنهيات .

وأيضا : فإن الجماع استمتاع ، ففرق بين عمده وسهوه ، كاللباس والطيب ، وعكسه الحلق وقتل الصيد .

[ ص: 253 ] ووجه المذهب : ما تقدم في جماع الناسي في رمضان ، فهنا أولى .

وأيضا : فإن ما تقدم من الحديث المرفوع ، وفتاوى الصحابة في أوقات متفرقة لسؤل شتى ليس فيها استفصال للسائل هل فعلت هذا عالما أو جاهلا ، ولو في بعض تلك الوقائع ؛ فإن المسلم الذي قد أم بيت الله وهو معظم لحرماته إذا وقع منه الجماع : فوقوعه منه لعدم علمه بتحريمه ، أو اعتقاده زوال الإحرام ، أو نسيانه أنه محرم أظهر من وقوعه منه عالما بأنه محرم ذاكرا لإحرامه ، لا سيما والعهد قريب ، والدين غض والسابقون الأولون بين ظهرانيهم ، وقد يظهر هذا الاحتمال في مثل الذي واقع امرأته بعد السعي قبل التقصير فإنه موضع شبهة قد اعتقد جماعة من العلماء جواز ذلك ، ويؤيد ظهوره في تلك الوقائع : أنه لم ينقل فيها توبيخ للمجامع ، وتقريع له ، وإكبار لما فعله ، وإعظام له ؛ مع أن جماع [ ص: 254 ] المحرم من الذنوب الشديدة ، وهو انتهاك للحرمة ، وتعد للحدود ، ولولا استشعار المفتين نوع عذر للسؤال لأغلظوا لهم في الكلام .

وأيضا : ما احتج به أحمد وهو أن الجماع أمر قد وقع واستقر فلا يمكن رده وتلافيه بقطعه وإزالته ، فصار مثل الإتلافات ؛ مثل قتل الصيد ، وحلق الشعر حيث لا يمكن رد التلف ولا إعادته ، وعكسه الطيب واللباس ؛ فإنه يمكن نزع اللباس وإزالة الطيب إذا ذكر وعلم التحريم ، وذلك مثل الكفارة الماحية لما صدر منه ، ولهذا أمر أن يفزع إلى التلبية ، وهاهنا المجامع إذا ذكر بعد قضاء الجماع وعلم التحريم : لم يمكن منه فعل : فيه قطع لما مضى ولا ترك له .

يبين هذا : أن المحرم قد نهي عن أشياء ، فإذا فعلها ناسيا فالنسيان يزيل العقوبة ولا يزيل عنه الكفارة الجابرة لما فعل ، والماحية للذنب الذي انعقد سببه ، والزاجرة عن قلة التيقظ والاستذكار . ولهذا وجبت الكفارة بقتل المسلم خطأ مع أن الدية بدل عنه ، ووجبت الكفارة بعود المظاهر وإن كان ناسيا أو جاهلا . فالمحظور المستدام يمكن الإقلاع عنه ، ومفارقته ، فجعل هذا كفارة له عند من يقول به . ومحظور قد فات على وجه لا يمكن رده ولا تركه ، فلا بد من كفارة .

ولا يصح أن يقال : فما مضى من اللباس والطيب لا يمكن رده ؛ لأن اللباس والطيب المستدام فعل واحد ، ولهذا لو كفر عنه واستدامه إلى آخر الإحرام لم يجب عليه كفارة أخرى ، فإزالته إزالة لنفس ما أوجب الكفارة .

والجماع المتكرر : أفعال متفرقة كقتل صيود ؛ ولهذا لو كفر عن جماع ، ثم جامع : كان عليه كفارة أخرى فذلك الجماع الذي وقع منه لا سبيل إلى استدراكه ورد البتة ؛ يبين هذا : أن اللابس والمتطيب يتأتى منه امتثال النهي عند العلم والذكر لمفارقة المنهي عنه بخلاف المجامع والقاتل ، فإنه لا يتأتى منه الامتثال بالفعل لكن بالعزم .

فإن قيل : فلو لبس وتطيب ، وأزالهما ثم ذكر .

قيل : ذانك الفعلان مبناهما على الاستدامة فإذا لم يستدمهما كان أولى أن [ ص: 255 ] لا تجب عليه كفارة ، وطرده المجامع لو ذكر فنزع فإن نزعه لا يعد مفارقة للمحظور لأنه لا بد من نزع قريب ، فلم يكن بذلك النزع متلافيا لما فرط فيه .

وأيضا : فإن الجماع سبب يوجب القضاء فاستوى عمده وسهوه كالفوات ، ولا يصح الفرق بكون الفوات ، بترك ركن ، وهذا ، بفعل محظور ، لأن القتل ، والعلم فعل محظور وقد أوجب مقتضاه .

وأيضا : فإن الجماع أغلظ المحظورات وأكبر المنهيات وجنسه لا يخلو عن موجب ومقتض فإنه لا يقع باطلا قط ؛ فإنه إن وقع في ملك قرر الملك بحيث يستقر المهر إن كانت زوجة ، ويستقر الثمن والملك إن كانت جارية معيبة أو فيها خيار . عمدا وقع ، أو سهوا ، وإن وقع في غير الملك فلا يخلو عن عقر ، أو عقر وعقوبة ، أو عقوبة فقط عند من يقول به ، وهو ينشر حرمة المصاهرة في ملك اليمين ، والنكاح الفاسد ، والوطء بالشبهة بالإجماع .

فإذا وقع في الإحرام الذي هو أغلظ العبادات ولم يكن له أثر : كان إخراجا له عن حقيقته ومقتضاه لا سيما والمحرم معه من العلامات على إحرامه ما يذكره بحاله ، ويزجره عن مواقعة هذا المحظور .

وأيضا : فإن إفساده للإحرام من باب خطاب الوضع والأخبار الذي هو : ترتيب الأحكام على الأسباب .

[ ص: 256 ] وقد دلت السنة والإجماع : على أن الجماع محرم ، وأنه يفسد الإحرام ، ويوجب القضاء والهدي . فإذا فعله ناسيا ، أو جاهلا ؛ كان ذلك عذرا في الذم والعقاب اللذين هما من توابع المعصية للأمر والنهي . أما جعل ذلك مانعا من إفساد الحج وإيجاب القضاء والهدي : فلا بد له من دليل ، فإن ما كان من باب ترتيب الأحكام على الأسباب لا يؤثر فيه هذا إلا بدليل . وأكثر الأصول التي يقع فيها الفساد ويجب القضاء إذا وجد المفسد مع العذر فمن ذلك الطهارة فإنها تفسد بوجود مفسداتها عمدا وسهوا ، والصلاة تبطل بوجود العمل الكثير عمدا وسهوا ، أو بمرور القاطع بين يديه عمدا أو سهوا ، وفي الكلام والأكل خلاف معروف ، وكذلك ملك النكاح ما يطرأ عليه فيفسده من صهر ورضاع وغيرهما لا فرق بين.... وملك الأموال .

وموجبات الكفارات - في غالب الأمر - : يوجبها مع العمد والسهو ككفارة القتل ، والظهار ، وترك واجبات الحج ، والحج قد يغلظ على غيره ، فإلحاقه بأكثر الأصول أولى من إلحاقه بأقلها ، ثم لم يجئ أصل في ذلك إلا في الأكل في الصيام .

فأما ما دون الجماع من المحظورات : فما قيل فيه أنه يفسد الإحرام فهو كالجماع ، وأما ما لا يفسده ... .

التالي السابق


الخدمات العلمية