الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فصل )

ويضمن بيض الصيد ؛ مثل بيض النعام والحمام وغير ذلك بقيمته ، قال - في رواية حنبل - في المحرم يصيب بيض النعام : فيه قيمته ، فإذا لم يجد صام . لما روى سعيد بن أبي عروبة ، عن مطر ، عن معاوية بن قرة ، عن رجل من الأنصار : " أن رجلا أوطأ بعيره أدحي نعام فكسر بيضها ، فانطلق إلى علي - رضي الله عنه - فسأله عن ذلك ، فقال له علي : عليك بكل بيضة جنين ناقة ، أو ضراب ناقة ، فانطلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قد قال علي ما سمعت ، ولكن هلم إلى الرخصة : عليك بكل [ ص: 307 ] بيضة صوم يوم ، أو إطعام مسكين " رواه أحمد في المسند وأبو داود في مراسيله . وإنما أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - والله أعلم - بطعام مسكين لكل بيضة ؛ لأن قيمة البيضة كانت إذ ذاك بقدر طعام مسكين ، يدل عليه ما روى أبو هريرة قال : " سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيض النعام ؟ قال : قيمته " وعن ابن عباس قال : " قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيض النعام - يصيبه المحرم - بثمنه " رواهما النجاد .

وعن أبي الزناد قال : " بلغني عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم في بيض النعام في كل بيضة صيام يوم " رواه أبو داود في مراسيله وقال : أسند هذا الحديث ، وهذا هو الصحيح ، وأيضا : عن إبراهيم قال : قال عمر في [ ص: 308 ] النعام يصيبه المحرم قال : ثمنه .

وعن أبي عبيدة عبد الله بن مسعود : في بيض النعام يصيبه المحرم ، قال : فيه ثمنه ، أو قدر ثمنه . وكان علي يقول : " يضرب له من الإبل بقدر ما أصاب من البيض ، فما نتج فهو هدي ، وما لم ينتج فهو بما يفسد من البيض " .

وعن ابن عباس : في بيض النعام قال : قيمته ، أو ثمنه وعن إبراهيم قال : كانوا يقولون : في بيض النعام وشبهه يصيبه المحرم فيه ثمنه .

[ ص: 309 ] وعن سعيد بن منصور ، وعن عبد الله بن حصين أن أبا موسى قال : في كل بيضة صوم يوم ، أو إطعام مسكين .

وعن أبي عبيدة قال : كان عبد الله بن مسعود يقول : في كل بيضة من بيض النعام صوم يوم ، أو إطعام مسكين رواهما ابن أبي عروبة .

فقد اتفقت أقوال الصحابة : أن فيه قيمته إلا ما يروى عن علي - رضي الله عنه - وقد تقدم أن فتياه عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتى بخلافها ، والحديث مسند ذكره الإمام أحمد في المسند وإن كان مرسلا : فقد عضده عمل جماهير الصحابة والتابعين به ، وأنه أسند من وجه آخر ، وذلك يجعله حجة عند من لا يقول بمجرد المرسل .

وأيضا : فإن البيض جزء من الصيد يتطلب كما يتطلب الصيد ، قال مجاهد في قوله : ( ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ) قال : البيض والفراخ ، رواه ابن عيينة ، ويكون منه الصيد ، وفي أخذه تفويت لفراخ الصيد ؛ وقطع لنسله ، فوجب أن يضمن كالصيد ؛ وذلك أن الحيوان منه ما يبيض ، ومنه ما يلد ، والبيض للبائض كأحمد للوالد .

[ ص: 310 ] ويقال : كل أسك يبيض وكل مشرف الأذنين يلد . وهو مما لا مثل له ، فوجب أن يضمن بالقيمة لعصافير ونحوها .

وأصل هذا عند أصحابنا : أن ضمان الصيد يجري مجرى ضمان الأموال ؛ لأنه يختلف باختلاف المضمون ، فيجب في الصغير والكبير والصحيح والمعيب والكامل والناقص بحسبه كالأموال بخلاف النفوس فإن ديتها لا تختلف باختلاف هذه الصفات ، وإنما هو شيء مقدر في الشرع ، وإذا كان كذلك فهو لو أتلف بيض طير لإنسان : اعتبر البيض بنفسه ، ولم يعتبر بأصله ، بخلاف ما لو أتلف جنين آدمي .

وفي جنين الصيد القيمة أيضا ؛ وهو أرش ما نقصته الجناية ، كجنين البهيمة المملوكة ، فإذا ضرب بطن ظبية حامل ، فألقت جنينا ميتا وسلمت : فعليه ما بين قيمتها حاملا ، وحائلا ، وإن ماتت بعد ذلك ضمن قيمة ظبية حامل .

ومن أصحابنا : من خرج وجها : أن جنين الصيد يضمن بعشر ما تضمن [ ص: 311 ] به الأم ، كما قال أبو بكر في جنين البهيمة المملوكة ، وأولى . وعلى هذا : فالبيض ... .

فإن ضمنه بجنين مثله كما قال علي : فظاهر الحديث أنه يجزئه .

وهل يباح البيض بعد كسره ؟ ، فيه وجهان : أحدهما : لا يحل للكاسر ولا غيره من حلال ، ولا حرام كالصيد الذي قتله المحرم ، قاله القاضي وغيره . وعلى هذا : إذا أخذه وهو محرم ، وتركه حتى حل لم يبح أيضا كالصيد .

والثاني : يباح لأنه لا يفتقر إلى تذكية إذ لا روح فيه ، وعلى هذا فلا يحل للكاسر المحرم ، ولا... ، وإنما يباح للحلال ، وكذلك ما لا يفتقر إلى ذكاة من الحيوان كالجراد .

فإن كسر البيض ، فخرج مذرا فلا شيء عليه لأنه لا قيمة له ، فهو كما لو أهلك صيدا ميتا . إلا بيض النعامة ففيه وجهان ؛ أحدهما : يضمنه قاله القاضي في المجرد ، وابن عقيل ؛ لأن لقشره قيمة .

والثاني : لا يضمنه قاله القاضي في خلافه وأبو محمد .

فإن خرج في البيض فرخ ، أو استهل الجنين حيا وعاش : فلا شيء عليه ، [ ص: 312 ] وإن مات ، أو استهل جنين الصيد ثم مات : ضمنه ضمان الصيد الحي .

وإن أخذ البيضة ، فكسر البيضة ثم ترك الفرخ حيا ، فهل يضمن الفرخ لكونه بمنزلة من رد الوديعة ردا غير تام ؟ على وجهين .

وإن خرج منها فرخ ميت ؛ فقال أصحابنا : لا شيء فيه ؛ لأنه لا قيمة له بخلاف الجنين إذا وقع ميتا إنما مات بالضربة إذ لو مات قبل ذلك لأجهضه ، وهذا فيما إذا مات قبل الكسر ، فإن مات بالكسر... .

وإن كان الفرخ لم ينفخ فيه الروح : ففيه قيمة بيض فرخ غير فاسد كالجنين .

ويضمن بكل سبب هو فيه متعمد ؛ فلو نقل بيض طائر فجعله تحت طائر آخر فحضنه ، فإن صح وسلم : فقد أساء ولا شيء عليه . قاله أصحابنا : وقد قال أحمد - فيما إذا أعره ! يتصدق بشيء . وإن فسد : فعليه الضمان ، وكذلك إن أقره مكانه وضم إليه بيضا آخر ليحضنه الطائر - سواء أذعر الطائر فلم يحضنه ، أو حضنهما معا .

[ ص: 313 ] وإن باض الحمام ، أو فرخ على فراشه فهل يضمن ؟ : على وجهين كالجراد إذا افترش في طريقه .

وإنما يضمن بيض طائر مضمون ، فأما بيض الغراب والحدأة : فلا يضمنه ، ويضمن بيض الجراد كالجراد نفسه .

ومن أتلف بيضا لا يحصيه : احتاط ، فأخرج ما يعلم أنه قد أتى على قيمته ، ذكره القاضي وابن عقيل كمن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها ، وقياس المذهب .

وأما بيض النمل : فقال ابن عقيل : هو على ما قلنا في النمل ، ففي النملة لقمة أو تمرة أو حفنة طعام إذا لم يؤذه : ففي بيضها صدقة ، وهذا إنما يخرج على إحدى الروايتين وهو ضمان غير المأكول إذا لم يكن مؤديا . فإما على الرواية الأخرى : وهو أنه لا يضمن إلا ما يؤكل : فليس في النمل ولا في بيضه ضمان .

وأما بيض القمل - وهو الصيبان - فقال القاضي وابن عقيل : فيه روايتان كالقمل .

التالي السابق


الخدمات العلمية