فصل
وإذا وجب عليه الهدي فلم يهد حتى خرجت أيام الذبح : ففيه ثلاث [ ص: 350 ] روايات منصوصات : - إحداهن : عليه هدي متعته ، وهدي آخر لتفريطه ، وهذا اختيار الشريف أبي جعفر ، قال أصحابنا : لتأخيره عن وقت الذبح .
قال - في رواية المروذي - إذا تمتع فلم يهد إلى قابل يهدي هديين هكذا قال ، وإذا صام يوم عرفة ، فإن عليه دمين ، كذلك نقل ابن عباس يعقوب بن بختان .
وقال - في رواية أبي طالب - في : صام عشرة إذا رجع وعليه دم قد فرط ، متمتع لم يكن معه هدي ولم يصم حتى جاز أيام النحر يقول : من كان عليه دم فلم يذبحه حتى جاز يوم النحر : فعليه دمان ؛ دم الذي وجب عليه ، ودم لما فرط ، قيل له : تقول به ؟ قال : نعم عليه دمان ؛ دم لما عليه ، ودم لما أخره . ولا فرق على هذه الرواية بين المعذور وغيره ؛ لأن وابن عباس أحمد اعتمد على حديث وهو في المعذور . ابن عباس
قال القاضي : والمذهب الصحيح أن المعذور وغيره سواء ؛ لأن في رواية المروذي إذا لم يجد ثمنا يشتري به حتى رجع إلى هاهنا عليه هديان وهذه حالة عذر .
[ ص: 351 ] وذلك لما احتج به أحمد من رواية علي بن بذيمة ، عن مولى لابن عباس ، عن فيمن ابن عباس ، قال : " عليه دمان " . رواه تمتع فلم يصم ولم يهد سعيد ورواه النجاد ، ولفظه : عن ابن بذيمة مولى لابن عباس قال : " تمتعت فنسيت أن أنحر وأخرت هديي فمضيت إلى ، فقال : أهد هديين ؛ هديا .. . ، وهديا لما أخرت " . ابن عباس
ولا يعرف له مخالف في الصحابة ؛ ولأن الذبح في وقته نسك واجب فمتى فوت الوقت فقد ترك من نسكه ، ومن ترك شيئا من نسكه : فعليه دم ، وعكسه تأخير الوقوف والطواف إلى وقت يجوز ، فإنه ليس فيه ترك واجب ، ولأنه لو فوت نفس الحج لزمه القضاء والكفارة ، فكذلك إذا فوت بعض واجباته التي يمكن قضاؤها : يجب أن تجب فيه الكفارة إلحاقا لأجزاء العبادة بأصلها ، فإنه من أجلى الأقيسة .
[ ص: 352 ] ولأن ما وقته بنذره إذا فوت وقته : فعليه كفارة ، فما وقته الشرع أحرى أن تجب الكفارة بتفويت وقته . ولا ينتقض هذا بتفويت الصوم والصلاة ؛ لأن ذاك أعظم من أن تجب فيه كفارة .
والرواية الثانية : ليس عليه إلا هدي التمتع فقط ، قال - في رواية ابن منصور - في متمتع لم يذبح حتى رجع إلى أهله - : يبعث بالدم إذا كان ساهيا والعامد : عليه دم واحد إلا أنه قد أساء ، وهذا اختيار ابن أبي موسى وهذا الذي نصره القاضي في خلافه ؛ لأنه نسك أخره إلى وقت جواز فعله ، فلم يجب به دم ، كما لو أخر الوقوف إلى الليل ، والطواف عن أيام منى ، والمعنى بجواز فعله أجزاه ، فأما حل التأخير : فلا ، قال القاضي : ولأنه دم أخره عن وقت وجوبه ، فلا يجب بتأخيره دم كسائر الدماء الواجبات من الحلاق وتقليم الأظفار ، وقتل الصيد ؛ ولأن تأخير العبادة المؤقتة عن وقتها إذا شرع قضاؤها : لا يوجب إلا القضاء بدليل تأخير الصوم والصلاة .
والرواية الثالثة : إن أخره لعذر لم يلزمه إلا هدي واحد ، وإن أخره عمدا فعليه هديان . قال حرب : قيل لأحمد : ؟ قال : يبعث بدم إذا كان له عذر رجوت أن يجزئ عنه دم واحد ، ويروى عن بعضهم أنه قال : عليه دمان ، وهذا إذا لم يكن له عذر ، قيل له : فإن لم يقدر أن يبعث بدم ؟ قال : لا أدري وكأنه أوجبه عليه إذا وجد . رجل حج وعليه دم فدفع نفقته إلى رجل وغاب الرجل فلم يكن معه ما يذبح حتى رجع إلى بلاده
وقال - في رواية حرب - في : يجزئ عنه [ ص: 353 ] دم واحد إذا كان له عذر ، وبعضهم يقول : عليه دمان ، وهذا إذا لم يكن له عذر . متمتع رجع إلى بلاده ولم يهد
قال القاضي : العذر مثل أن تضيق النفقة ولا يجد ما يشتري وقال أبو الخطاب : العذر مثل أن تضيع النفقة ، وذكر ابن عقيل : العذر مثل النسيان ونحوه .
قال ابن أبي موسى : لو لزمه إنفاذ هدي ينحر بالحرم لا يجزئه غير ذلك . سها عن الهدي إلى أن وصل إلى بلده
وهذا لأن العبادات المؤقتة : إذا أخرت عن وقتها تعذر ، وشرع قضاؤها : لم يحتج إلى شيء آخر مثل الصوم إذا أفطر لمرض أو سفر ، والصلاة إذا أخرها لنوم أو نسيان ، بخلاف من أخرها تأخيرا محرما ، فإنه يأثم بذلك فيحتاج إلى كفارة ماحية . والعذر هنا : مثل النسيان ونحوه مما لا يسقط . فأما ضيق النفقة وضياعها ، أو عدم النعم - كما ذكره القاضي وأبو الخطاب - فهذا يمنع وجوب الهدي ، ويجعل فرضه الصوم ، فإذا لم يصم فهي المسألة الآتية وإن صام فليس عليه شيء آخر إلا أن يكون واجدا حين أحرم بالحج فترك الصوم لذلك فلما كان وقت الذبح : ضاعت النفقة ، أو عدمت النعم ، أو كان قد ابتاع هديا فظل : فهنا هو معذور بترك الصوم والذبح .
وبكل حال إذا وجب عليه الهدي ولم يهد سواء كان موسرا ، أو معسرا بعد ذلك ؛ لأن الهدي قد استقر في ذمته .
وأما الصوم ؛ صوم الثلاثة إذا فوته بعد وجوبه ، وفواتها أن لا يصومها قبل النحر في رواية ، وفي رواية : أن لا يصومها إلى أن تنقضي أيام التشريق ، فعن أحمد : أنه يتعين عليه الهدي ولا يجزئه الصوم بحال ، كما تقدم عنه في رواية المروذي : [ ص: 354 ] إذا صام فأفطر يوم عرفة فإن عليه دمين ؛ وكذلك نقل يعقوب بن بختان في قال : عليه هديان يبعث بهما إلى المتمتع إذا لم يصم قبل يوم النحر مكة ، فعلى هذا : إن كان قد فات وقت الذبح - أيضا - : فعليه هديان ويجيء فيهما الروايتان الأخريان . وإن كان وقت الذبح باقيا : فعليه الذبح إن قلنا : المتمتع لا يصوم أيام التشريق ، وإن قلنا : يصومها لم يفت إلا بفوات الذبح . اللهم إلا أن يكون قد بقي يوم من أيام التشريق فإنه يمكن الذبح ، ولا يمكن صوم الثلاثة بحال . وظاهر كلامه أن عليه هديين بكل حال ؛ وذلك لما روي عن قال : " جاء رجل إلى سعيد بن المسيب فقال : يا أمير المؤمنين ، إني تمتعت فلم أصم الثلاثة الأيام في الحج ، قال : وجب عليك الهدي ، قال : لا أجده ، قال : فسل في قومك ، قال : ما أرى هاهنا أحدا من قومي ، فقال عمر بن الخطاب عمر : يا معيقب ، أعطه ثمن شاة " . رواه سعيد عن هشيم ، عن حجاج ، عن عنه . عمرو بن شعيب
وعن عكرمة عن قال : " الصوم قبل يوم النحر يقول : فإن لم يصم فعليه الهدي " . رواه ابن عباس سعيد بإسناد صحيح .
وروي عن أصحابه وهم : ، عطاء وطاوس ، ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير وعكرمة [ ص: 355 ] نحو ذلك ، وقد حكاه أحمد - أيضا - عن ، ولا يعرف عن الصحابة والتابعين خلاف ذلك إلا قول ابن عباس ابن عمر ، ومن وافقهما : أن يصوم أيام وعائشة منى ، وذلك اتفاق منهم على أنه لا يصومها بعد أيام منى بحال ؛ ولأن الله إنما جوز له الانتقال عن الهدي بأن يصوم ثلاثة أيام في الحج ، فإذا لم يصمها في وقتها : لم يجزه فعلها في غير وقتها كسائر مناسك الحج ، فتعين عليه الهدي ؛ لأن وقته قد يكون باقيا ، ولأنه عبادة مالية من وجه فتأخيرها عن وقتها أقرب ، ولأنه هو الأصل ، ولأن الصوم رخصة فلا يستباح مع المعصية ، ولأنه لو خير بين صوم ثلاثة أيام في الحج وبين الهدي ، وفات وقت الصوم : لتعين الهدي ، فلأن يتعين الهدي إذا كان هو الواجب الأصلي أولى وأحرى ، ولأن العبادة المؤقتة إذا فاتت : فإن قلنا : لا يجوز القضاء إلا بأمر جديد فليس في قضاء صوم المتعة أمر .
وإن قلنا : يقضي فلأن القضاء بدل عن الأداء يسد مسده ، وهنا قد أمكن إبدال الهدي الذي هو أصل الصوم فهو أولى من الاستبدال بصوم ؛ ولأن البدل إذا كان مؤقتا ففات وقته : رجع إلى الأصل ؛ كالمسح على الخفين ، ولأن القضاء بدل عن الأداء فلو شرع في الإبدال لكان للبدل بدل ، وهذا يحتاج إلى دليل فإنه لا يثبت بمجرد الرأي ، ولأن الله أمر بثلاثة أيام في الحج وسبعة بعده ، ووصفها بأنها كاملة ، وهذه الصفة لا تثبت لأيام في غير الحج ؛ لأنها لو ثبتت لها لجاز التأخير ، وإذا لم تكن العشرة كاملة لم يجز عنه ؛ لأن الله إنما أمره بعشرة كاملة ، ولأن صوم الثلاثة في الحج من المناسك - وإن كانت صوما - كما أن ركعتي الطواف من المناسك وإن [ ص: 356 ] كانت صلاة ، ولهذا يصومها المتمتع عن غيره . فإن كل عبادة تختص بالحج فإنها من المناسك ، والمناسك المؤقتة تفوت بفوات وقتها كالوقوف والرمي ونحو ذلك ، ولا يقضي بحال ، وإذا لم تقض : فمنها ما يجب له بدل وهو الدم .
وعن أحمد : أنه يقضيها وهو المعروف عند أصحابنا ؛ لأنه صوم واجب ، فوجب أن يقضى إذا فات كصوم رمضان والمنذور المؤقت ، ولأن الصوم والهدي في التوقيت سواء ، فإذا قضي أحدهما قضي الآخر ، ويقضيها مع صوم السبعة إن شاء متتابعا وإن شاء متفرقا .
وهل عليه دم مع القضاء ؟ على ثلاث روايات ؛ - إحداهن : عليه دم وهي اختيار الشريف أبي جعفر وغيره ، كما تقدم نصه في رواية أبي طالب : إذا لم يكن معه هدي ولم يصم حتى جاز أيام النحر صام عشرة إذا رجع وعليه دم قد فرط .
وقال - في رواية ابن الحكم - إذا فإن عليه هديين ، وإذا فرط في الصوم وهو متمتع : صام بعدما يرجع إلى أهله وعليه دم ، ويروى عن وجب عليه الهدي من تمتع ، أو جزاء صيد ، أو كفارة ظهار أو زكاة ففرط فيها حتى ذهب ماله عليه هديان . ابن عباس
ووجه ذلك : ما تقدم في الهدي . وحكى أبو الخطاب : أن هذه الرواية [ ص: 357 ] خرجها شيخه القاضي أبو يعلى من الرواية التي في تأخير الهدي ، واختار هو : أنه لا يلزمه مع الصوم دم بحال مع ذكر الروايتين في الهدي ؛ لأن الصوم الواجب بأصل الشرع لا يجب بتأخيره عن وقته دم بخلاف الهدي فإنه من المناسك ، وتأخير المناسك في الجملة قد يوجب دما .
والصواب طريقة شيخه ؛ فقد ذكرنا نص أحمد على هذه الرواية ، وقد ذكرها القاضي منصوصة في خلافه ، وكذلك أبو الخطاب في خلافه ، ولعله خرجها في كتبه القديمة ، ثم وجدها منصوصة ، فليس ذلك ببدع من فقهه .
والرواية الثانية : الفرق بين المعذور وغيره كما تقدم عنه في الهدي .
والرواية الثالثة : لا دم بحال قال - في رواية ابن القاسم - إن لم يصم في الحج فليصم إذا انصرف ، ولا يرجع إلى الدم ؛ لأن عليه الصيام ، وذلك لأن الصوم قد وجب في ذمته فلم يجب عليه غير قضائه كصوم رمضان وصوم الكفارات كلها .
فعلى هذا إذا أيسر في أيام الذبح فهل عليه الانتقال ؟ على ما تقدم من الروايتين ، ولو أراد على هذه الرواية أن يهدي ولا يصوم ، فظاهر كلامه أنه لا يجزئ ؛ لأنه قال : عليه الصيام ؛ لأن الذبح قد فات وقته ، ويتخرج جوازه كما قلنا في الكفارات كلها على ظاهر المذهب .
[ ص: 358 ] وأما صوم السبعة فقياس المذهب أنه لا يجوز تأخيره بعد الرجوع إلى الأهل كما لا يجوز تأخير الكفارات ، والنذور ، وأولى ؛ لأن الأمر المطلق يقتضي البدار إلى الفعل ، ولأنه قد قال تعالى : ( إذا رجعتم ) وهذا توقيت له ، فلا يجوز تأخيره عن وقته ؛ لأن إذا ظرف من ظروف الزمان .
وأيضا : فإن قوله : ( إذا رجعتم ) إما أن يكون تقييدا لأول وقت الفعل ، أو لآخره . ولا يجوز أن يكون وقتا لأوله لما تقدم . فعلم أنه وقت لآخره ؛ لأنه لو قال : سبعة بعد ذلك : لظن ظان وجوب تقديمها إلحاقا لها بالثلاثة فقال : ( إذا رجعتم ) بيان لجواز تأخيرها ، ولو أريد بجواز التأخير مطلقا لقيل : وسبعة من أيام أخر ، أو متى شئتم ونحو ذلك .
فإن مات ولم يصم : فقال أحمد - في رواية المروذي - إذا يطعم عنه مات ولم يصم السبعة أيام بمكة موضع وجب عليه .
وهذا يقتضي وجوب الإطعام عنه بكل حال سواء قدر على الصيام ، أو لم يقدر ؛ لأنه أطلق ، وبين أنها وجبت عليه بمكة وهو لا يتمكن من صومها بمكة في الغالب .
وهذا هو الصواب ، وهو قياس مذهبه ؛ لأنه قد تقدم أن الهدي والصوم عنه يجب إما بالإحرام ، أو بالوقوف . ولا معنى لوجوبه إلا وجوب الإخراج عنه إذا مات ، كما قد نص عليه في الهدي ؛ فإنه نص على أنه يخرج عنه إذا مات بعد أن وقف بعرفة . فلو قلنا : لا يجب الصوم إلا بعد التمكن لم يصح الوجوب .
[ ص: 359 ] وقال كثير من أصحابنا ؛ القاضي وابن عقيل وطوائف من أصحابنا : لا يجب أن يطعم عنه إلا إذا تمكن من القضاء كما قلنا في صوم رمضان إذا مات قبل التمكن من قضائه لم يطعم عنه .
والتمكن المعتبر : إما الاستيطان ؛ لأن المسافر لا يجب عليه ، أو الصحة فقط .
فإن قدر على صوم بعض العشرة أطعم عنه بقدر ما قدر عليه .
قال ابن عقيل : ولا يصام عنه قولا واحدا .
وظاهر النص أجود لأن هذا الصوم ليس واجبا بأصل الشرع ، وإنما هو بسبب من المكلف ، فهو كصوم النذر ، وصوم الكفارة ، وكالصوم عن جزاء الصيد ، أو الصوم في فدية الأذى . وهذا لا تعتبر فيه القدرة .
[ ص: 360 ]