الفصل الأول
الاستخلاف وتحصيل المعية الإلهية
الأصل في تحريك الحياة:
البناء الحضاري الإسلامي هو بناء موصولة فيه الأرض بالسماء [1] ، والإنسان فيه "ليس إلها ينازع "الآلهة" وتنازعه!، وليس كذلك حيوانا جاءت سيادته على الأرض مصادفة، وقد يقوم مقامه في هذه السيادة غدا قط أو فأر! وليس آلة تحسب قيمته بقوة "الأحصنة" التي يساويها في قوة التحريك والإدارة. وليس عبدا للمادة، ولا هـو لـوحة تطبع فيها المادة "أو الطبيعة" ما تريد، وليس عبدا للآلة، تصرف حياته وأفكاره وأوضاعه كما تتصرف هي وتتقلب، وليس "نمرة" ولا مجموعة "نمر" تتحرك داخل القطيع، بلا شخصـية مميزة، ولا كيان فردى خاص" [2] ، بل هو معطى إلهي، خلقه الله في أحسن تقويم، وحدد له وظيفته في الأرض، بأن جعله "مستخلفا" فيها، و "مؤتمنا" عليها، ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من [ ص: 33 ] يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ) (البقرة:30)، كما قال سبحانه: ( هو الذي جعلكم خلائف في الأرض ... ) (فاطر:39) ، وهو ما يوضحه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ( إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون ) [3] .
فهذا هو الأصل في حركة الإنسان في الحياة، وقد أجمل هذه الحركة، الراغب الأصبهاني فذكر أن "الفعل المختص بالإنسان ثلاثة: عمارة الأرض، المذكورة في قوله: ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) (هود:61) ، وذلك تحصيل ما به تزجية المعاش لنفسه وغيره.وعبادته المذكورة في قوله: ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) (الذاريات:56)، وذلك هو الامتثال للباري تعالى في عبادته، في أوامره ونواهيه، وخلافته المذكورة في قوله: ( ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ) (الأعراف:129 )، وذلك هو الاقتداء بالباري سبحانه على قدر طاقة البشر في السياسة، باستعمال مكارم الشريعة. ومكارم الشريعة هي الحكمة، والقيام بالعدالة بين الناس في الحكم، والإحسان والفضل. والقصد منها: أن يبلغ بذلك إلى جنة المأوى، وجوار رب العزة تبارك وتعالى" [4] . [ ص: 34 ]
مفهوم "الاستخلاف":
فـ"الاستخلاف" [5] هو القيمة المحورية الناظمة لقيم البناء الحضاري الإسلامي، وهو المفهوم الإسلامي الذي يحدد العلاقة التي تربط الإنسان بخالقه من جهة، وتربط الإنسان بالأرض وعالم الأشياء من جهة ثانية، وبأخيه الإنسان من جهة ثالثة [6] ، فهو تصور كامل لحقيقة الوجود، والكون، والإنسان، والحياة، فالمستخلف هو الله تعالى، والمستخلف هو الإنسان وأخوه الإنسان، والمستخلف عليه هو الأرض وما عليها ومن عليها. و "الاستخلاف" بهذا المعنى مفهوم يؤطر حركة الإنسان (الخليفة) في الحياة، وهو يعني أمرين: [ ص: 35 ]
أولهما: أن الإنسان الخليفة حـر، ولا سيادة لإنسان على آخر ابتـداء، فلا مشروعية لأي ألوان التحكم، أو أشكال الاستغـلال وسيطرة الإنسان على الإنسان، فلا سيـد ولا مـالك ولا إله لهـذا الكون وهذه الحياة بكل من فيها وما فيها إلا الله سبحـانه وتعـالى، والقيم جميـعا مشـدودة إليه بدءا وعـودا، وفي البدء والعود حركة دائبة فاعلة: ( الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون * وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) (الجاثية: 12-13).
وثانيهما: أن دور الإنسان في هذه الحركة إنما هو دور "الاستخلاف"، و "الاستئمان", و "التفاعل"، و "أداء الواجب"، وفق منهج الله في أمره ونهيه، وأي علاقة "تنشأ بين الإنسان والكون فهي، في جوهرها، ليست علاقة مالك بمملوك، وإنما هي علاقة أمين على أمانة استؤمن عليها. وأي علاقة تنشأ بين الإنسان وأخيه الإنسان، مهما كان المركز الاجتماعي لهذا أو لذاك، فهي علاقة استخلاف وتفاعل بقدر ما يكون هذا الإنسان أو ذاك مؤديا لواجبه بهذه الخلافة، وليست علاقة سيادة، أو ألوهية، أو مالكية" [7] .
وهذا معناه: أن الإنسان، في مفهوم الاستخلاف، عابد مسؤول، مستحضر على الدوام لإرادة الله وقدرته، وهو سيد في الكون بعمارته، لا سيد عليه بالاستعلاء والتسلط، والقهر والغزو، وهو "أعز وأغلى من كل شيء مادي.. [ ص: 36 ] ولا يجوز إذن أن يستعبد أو يستذل لقاء توفير قيمة مادية أو شيء مادي.. دور الإنسان في الأرض هو الدور الأول، فهو الذي يغير ويبدل في أشكالها وفي ارتباطاتها.. وليست وسائل الإنتاج ولا توزيع الإنتاج هي التي تقود الإنسان وراءها ذليلا سلبيا كما تصوره المذاهب المادية التي تحقر من دور الإنسان وتصغر، بقدر ما تعظم في دور الآلة وتكبر" [8] وكل تحريك للحياة ينافي هذا المقصد "الاستخلاف" مكتوب له الفشل، إن لم يكن سببا في استشراء الفساد والظلم ، وضياع الإنسان، وعذابه في الدنيا، أو في الآخرة، أو فيهما جميعا.
ويقوم مفهوم "الاستخلاف"، في تحليلي واستقرائي، على مقولات رئيسة، كل مقولة منها تمثل "قيمة"، و "بعدا إيمانيا"، و "منطقا للممارسة" يتحكم في "السعي الحضاري" للمسلم، فإذا اتخذها المسلم، وعيا وسعيا، أثرت في طرائق تفكيره وفي حركته وسعيه، مما يجعل هذا المفهوم "الاستخلاف" مختلفا عن أي مفهوم آخر يسير حركة الحياة في الأرض. وهذه المقولات هي: