الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          قيم الإسلام الحضارية (نحو إنسانية جديدة)

          الدكتور / محمد عبد الفتاح الخطيب

          رابعا: البعد السنني (الاستعمار الإيماني للأرض بين القيم الحاكمة، والسنن القاضية):

          "السنة" مفهوم يدور في معانيه المعجمية حول: "الأمر المطرد"، و "الطريقة الدائمة"، و "القانون الثابت" [1] ، والمراد بـ"البعد السنني": هو ذلك البعد الذي يراعي "عادات" الله المألوفة، و "قوانينه" الثابتة التي تتحكم في حركة الحياة والأحياء، والاعتبار بها، والتجانس معها؛ إذ إن ما وقع منها في الماضي يقع في الحاضر، ويتوقع حدوثه في المستقبل، إذا تشابهت الأحوال [2] ؛ فـ"الأمور لا تمضي في الناس جزافا، والحياة لا تجري في الأرض عبثا؛ فهناك نواميس ثابتة تتحقق، لا تتبدل ولا تتحول. والقرآن يقرر هذه الحقيقة، ويعلمها للناس؛ كيلا ينظروا إلى الأحداث فرادى، ولا يعيشوا الحياة غافلين عن سننها الأصيلة، محصورين في فترة قصيرة من الزمان، وحيز محدود من المكان، ويرفع تصورهم لارتباطات الحياة، وسنن الوجود، فيوجههم دائما إلى ثبات السنن واطراد النواميس، ويوجه أنظارهم إلى مصداق هذا فيما وقع للأجيال قبلهم؛ [ ص: 176 ] ودلالة ذلك الماضي على ثبات السنن واطراد النواميس" [3] ، قال تعالى: ( يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ) (النساء:26).

          إن "السنن" وفق هذا المفهوم تمثل "تحليلا إيمانيا" لحركة الحياة، و "قيما" مطردة تتحكم في مسارات الأفعال فيها، كما أنها من أهم أبواب الفقه الحضاري لفهم الأفعال الحضارية، على تنوع تلك الأفعال وتداخلها وتفاعلها، فهي تقدم أصولا لحركة الاستخلاف، ومسارات العمران البشري؛ ومن ثم تمكننا من:

          - التعرف على ذاكرة الأمة وتواتر أحداثها، والقدرة التفسيرية لواقعها، وفقه العواقب والمآلات، وامتلاك الرؤية على تصويب الخلل وتجنب الإصابات؛ إذ من خلال قراءة هذه السنن والتبصر فيها، يجمع المسلم عقولا في عقله، وتجارب في تجربته، ويضيف أعمارا إلى عمره، مبصرا العلل التي لحقت بالأمم السابقة، متقيا الإصابات المحتملة؛ وفقا للقاعدة الحضارية: إن للعمران طبائع معروفة لو كشفناها لأمكننا تقدير المآلات، يقول تعالى: ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين * هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) (آل عمران: 137-138).

          - قراءة مستقبل الأمة في ضوء المدخل السنني؛ إذ الاعتبار يرشد إلى الصوابية في بناء الحاضر، ويمنح القدرة على عبور الماضي والحاضر إلى "استشراف المستقبل"، ثم التمكن من تشكيل المستقبل والمداخلة في بنائه، في إطار تتواصل فيه حلقات الزمان، وتتفاعل ضمن مناهج التفكير والاعتبار. [ ص: 177 ]

          والمتأمل في حديث القرآن الكريم عن هذه "السنن" يستخلص مجموعة من الحقائق، لهـا أهميتها القصوى في البناء الحضاري، والاستعمار الإيماني للأرض [4] :

          الحقيقة الأولى: أنها سنن مطردة، لا عشوائية، ولا تتخلف، بل تتسم بالنظام والانتظام، فكل حركة حضارية، مهما بدت جزئية أو صغيرة، محكومة بسنن فاعلة وقاضية، لا يقع فيها النسخ إبدالا أو تحويلا، قال تعالى: ( سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا ) (الإسراء:77 )، وقال تعالى: ( سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ) (الأحزاب:62).

          وهذا الاطراد والثبات في سنن الله المتحكمة في حركة الحياة والأحياء، يحدث لدى المسلم شعورا واعيا، ومتبصرا لا عشوائيا ولا ساذجا بضرورة قراءة هذه السنن، والتبصر بمسالكها التي تسير بموجبها الأمم، صعودا وهبوطا، تقدما وتخلفا، وجودا وذهابا؛ للوقوف على مسار أمته ومصيرها فيما مضى، والتفاعل الإيجابي فيما يستقبل من تاريخها، متحركا في مساحات "السببية" بعيدا عن أوهام العبثية، أو المصادفة، أو الفوضوية ومساحات الخرافة والأسطورية، وبعيدا عن حديث "النهايات" الذي لا ينقطع، وحديث "المابعديات" الذي لا يتوقف، تأصيلا لمفهوم "الأمر الواقع" (مثل مقولة فرانسيس فوكوياما: "نهاية التاريخ" أو "ما بعد التاريخ" والتي يعني بها أن التاريخ قد توقف عند النموذج الحضاري الغربي، واعتباره خيارا وحيدا لمستقبل الإنسانية، إن رغبا وإن رهبا) إذ في "البعد السنني" تسقط "الحتميات [ ص: 178 ] الجبرية" التي حاول فلاسفتها أن يخضعوا البشر لها كما أخضعت المادة، وتبقى حركة الإنسان وفاعليته رهينة بحتمية السنن الإلهية وعملها.

          الحقيقة الثانية: أن تلك السنن "ربانية" مرتبطة بالله سبحانه وتعالى، فكل قانون من قوانين الحياة هو كلمة من الله، وقرار رباني ( وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ) (النساء:78) ، وهذا من جهة، يشعر المسلم بأن استعانته بالنظام الكامل لمختلف الساحات الكونية، والاستفادة من مختلف مفردات الكون وعطاءاتها، ليس انعزالا عن الله؛ إذ قدرة الله تتجلى من خلال هذه السنن التي تمثل حكمته وتدبيره في هذا الكون، فيبقى الإنسان دائما وأبدا مشدودا إلى الله، في حركة فاعلة وراشدة، ومن جهة أخرى فإن اتصاف هذه السنن بكونها "ربانية" يمنع الإنسان من "وقاحة الاستعلاء" التي هي تحد للإنسانية؛ إذ يعلم أنه لولا تسخـير الله للكون له، وسـيره وفق قوانـين ثابتة أودعها الله فيه، لما استطاع أن يتمتع بإمكاناته في العطاء والإبداع، كما يمنع عن الإنسان "وقاحة الإحاطة" التي هي تحد للألوهية؛ إذ يعلم الإنسان أنها قوانين الله المتحكمة في حركة الحياة والأحياء، فلا يتوقح على الله بمنازعته سعة علمه، وليس للإنسان من سبيل إلى الانفكاك عن هذه "الوقاحة" المهلكة إلا إذا نظر إلى هذه السنن باعتبارها "آيات ربانية" محكومة بإرادة الله، تحتها قيم توجب الإيمان بالذي يسع علمه كل شيء، ويمكر بكل من نازعه علمه.

          الحقيقة الثالثة: أن هذه السنن لا تجري من فوق الإنسان، بل من تحت يده، باختياره وإرادته؛ إذ عطاء السنن محكوم بالعدل الإلهي الذي يجعل سنن [ ص: 179 ] الفعل والتغيير مرهونة بشروطها، وجودا وعدما، بعيدا عن توهمات بعضهم من أن هناك تناقضا بين حرية الإنسان واختياره، وبين سنن الله في كونه وأقداره النافذة، فإما أن نقول: إن للحياة سننها وقوانينها، وإما أن نسلم بأن الإنسان حر مريد مختار، وهذا الوهم قد عالجه القرآن الكريم، مبينا أن هذه القوانين والسنن ربانية، مقررة وحيا من الله، ومبثوثة في آيات كتابه، ولكن محورها هو إرادة الإنسان، فاختيار الإنسان له موضعه الأصيل فيها، والآية العمدة في ذلك قوله تعالى: ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير ) (آل عمران :165)، وقوله تعالى: ( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم ) (الأنفال:53 )، وقوله تعالى: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ) (الرعد:11)، ومعنى ذلك: أن السنن مع كونها "ربانية" فإنها تدور مع فعل الإنسان الحضاري، إن سلبا وإن إيجابا، إن قوة وتمكينا وإن وهنا وهوانا، فهي سنن "قاضية" بحكم ربانيتها، ولكنها "اختيارية" بحكم ارتباطها بفعل الإنسان وإرادته؛ ومن ثم فهي تأخذ عادة، في القرآن الكريم، صورة قضية شرطية، تربط بين حادثتين، أو مجموعة من الحوادث، باعتبارها "سننا شرطية" يتحرك الفعل فيها بشرطه كذلك الجواب، بحيث متى تحقق الشرط تحقق الجزاء والعكس، مما يعبر عن إرادة الإنسان واختياره الفاعل؛ إذ هو منوط به تحقيق فعل الشرط، حتى يتحقـق الجواب، [ ص: 180 ] كما قال تعالى: ( من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد ) (فصلت:46) ، ( ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد ) (آل عمران: 182، والأنفال:51).

          إن ثمرة هذا "البعد السنني" تظهر في أمرين، يمثلان قيما بالغة الأثر في "الاستعمار الإيماني للأرض":

          أولهما: قيمة التذكر والتدبر و "الاعتبار بأيام الله" [5] (فقه الواقع الكوني)؛ فهذا الأمر الإلهي المتكرر بالسير في الأرض، وتعقل سنن الأولين وتتبع عاقبتهم (عاقبة المكذبين، وعاقبة المتقين)، ومعرفة سنن الله في الآفاق وفي الأنفس، وفهم أسرار الحياة ومنطقيتها، وحركتها ومحركاتها، والتعرف على "حزمة" السنن المتحكمة في تقلبات الأمم الحضارية بين حال "العز" و "التمكين" وحال "الغثائية" و "الهوان" ليؤكد أن حركة الحياة خاضعة لسنن قاضية، تؤطر سعي الإنسان فيها، وأن هذه السنن ليست مجرد أحداث محكومة بقوانين، بل هي أيضا آيات مقرونة بقيم، يجب تذكرها والاعتبار بها في "تحريك الحياة"، فذلك قوله تعالى آمرا بالاعتبار: ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) (يوسف:111) ، فلا يمكن أن تتحقق عناصر "الاستخلاف"، و "التزكية" و "الاستعمار الإيماني للأرض"، ضمن منظومة القيم الحضارية في الإسلام، إلا من خلال الوعي بهذه السنن، والعمل [ ص: 181 ] بها ولها، بالإضافة إلى الوعي بجوهرها وأصولها، تذكرا وتدبرا، باعتبارها مقدمات لعناصر السعي الحي في "تحريك الحياة"، ونتائج لمكونات "الحياة الطيبة"، وباعتبارها "أساس الاستبصار" في إقامة نظام العمران، وصلاح أحوال المعاش، ومحك أفعال البشر في بيان صوابها أو خطئها، بما يؤصل عناصر فاعلية حقيقية، وليس عبارة عن أماني؛ ومن ثم لا نبعد إذا قلنا: إن غياب "الشهود الحضاري" للأمة المسلمة، أو "الانحسار الحضاري" الذي تعاني منه الأمة الآن، إنما كان أحد أهم أسبابه: تعطيلها النظر في السنن والاعتبار بسياقاتها وتأثيراتها وتفاعلاتها، وعدولها عن فهم واستخلاص "التدبيرات الإلهية" في تشكيل الحياة، أو قراءتها هذه السنن في سياق "الغفلة" أو "الإلف" أو "تزييف الفهم لها" تشويها وتفريغا، أو مخادعة وتمويها.

          ذلك أن السنن هي "كليات مرجعية" تحكم الحركة الحضارية عامة للناس كافة، فهي فاعلة على المسلم والكافر، لا تحابي أحدا في محك التعامل معهـا، بعيدا عن أي وهـم أو ادعاء كاذب يحاول تفسـير قيام الحضارات أو انهيارها، أو يحاول ربط سنن التغيير أو التقدم أو العمارة أو البناء بدور "العرق" أو "اللون" [6] ، وبذلك يمتلك المسلم "المعيار" الذي "يقوم" به حركته الحضارية، تفسيرا وتقويما، فيحاكم فعله الحضاري إلى "السنن الإلهية" وعيا بها، وسعيا إلى الاستثمار الإيجابي لها، والعبور من خلالها نحو عناصر الفاعلية والتمكين، فإذا كان تشابه بين أمة اليوم، ووضع أمم سابقة عليهم، فعلينا أن نعلم أن "سنة الأولين" قد انطبقت أو لابد أن تنطبق يوما عليهم، ففي حديث زياد بن لبيد، [ ص: 182 ] قـال: ( ذكر النـبي صلى الله عليه وسلم شيئا، فـقال: وذاك عند أوان ذهاب العلم، قال: قلنا: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن، ونقرئه أبناءنا، ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟! قال: ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمـدينة؛ أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل لا ينتفعون مما فيهما بشيء؟! ) [7] .

          فقوله صلى الله عليه وسلم : ( أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل لا ينتفعون مما فيهما بشيء؟! ) مفسرا بها واقعا في المستقبل، يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يرى المستقبل من خلال السنن التي تعم الجميع، فالذي انطبق على أهل الكتاب السابقين، سينطبق على أمة القرآن، إذا ما تشابهت الأفعال [8] ، مما يجعل "السنن" أهم عمليات "أصول الفقه الحضاري" في المنظور الإسلامي، بما تمثله من "معيار" علمي سديد منضبط يتفهم عناصر الظاهرة الإنسانية في تشابهاتها وخصوصياتها، كما يجعلها "ناظما معرفيا" للجمع بين قراءة "الوحي" وقراءة "الكون"؛ إذ مدخل "السنن" في "الاستعمار الإيماني للأرض" يجعل قراءة "الوحي" موصولة بالكون وواقعه، فهما وتنـزيلا، إذ إنها تستوعب جملة الأفعال الحضارية في امتدادها وتراكمها، كما يجعل قراءة "الكون" موصولة بالوحي وضوابطه، رصدا وتقويما، وسيرورة ومآلا، وهذا الجمع هو الذي يفهم [ ص: 183 ] من قوله تعالى: ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) (محمد:24).

          ومن خلال هذه القراءة الجامعة بين "الوحي" وضوابطه، و "الكون" وواقعه، نقف على جملة من "السنن الإلهية" التي تكون "منظومة" تتحكم في الفعل الحضاري، كما تحكم عناصر الصلة بين الداخل والخارج، و (الذات) و (الغير)، نحاول أن نشير إلى أهمها على النحو التالي [9] :

          - سنن التغيير والتبديل، التي تشير إلى أن الإنسان حقيقة قابلة للتغيير في كل آن وحين، وأن هذا التغيير لا يمكن أن يتم إلا بالتعرف على "منظومة الأبجديات" الداخلية للأفراد والأمم التي تروم هذا التغيير، والتعرف على الشروط الظاهرة والكامنة التي تسهم في تشكيل الأحداث وصناعتها، والوقوف على آثارها ومآلاتها (قراءة السنن قراءة واعية)، والآية العمدة في ذلك قوله تعالى: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد:11).

          وهذا التغيير وإن كان مسؤولية الإنسان الفرد، الذي يشكل نقطة البدء فإنه، باعتباره سنة اجتماعية، لا يؤتي ثماره إلا إذا كان على محيط المجتمع بكل [ ص: 184 ] عناصره، والوضع الاجتماعي بكل تداخلاته وما يلابسه من "آليات" في تحريك الحياة، فالآية تربط التغيير، بتغيير ما "بقوم" وليس بفرد واحد [10] ، إن التغيير، إذن، فعل اجتماعي، وإنجاز أمة؛ لتقوم به من عطالتها، وإلا سقطت جميعها، قال تعالى: ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب ) (الأنفال:25 )، وهذا ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم حينما سألته أم المؤمنين، زينب بنت جحش، رضي الله عنها، ( يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: نعم، إذا كثر الخبث ) [11] .

          إن التغيير "إرادة" حقيقية، و "عدة" للخروج من حال "الكل" حيث "العطالة الحضارية" إلى حال "العدل" حيث "الاستقامة الحضارية" [12] ، قال تعالى: ( ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ) (التوبة:46) ، ومن هذا المداد تأتي الإشارة النبوية الدقيقة، حينما سئل النبي صلى الله عليه وسلم : ( متى الساعة؟ فقال: وماذا أعددت لها؟ ) [13] ، فالإعداد والعدة هي التي تصوغ المستقبل، لا فعل الأماني!! فإذا غابت "الإرادة" امتنع "الخروج"، وضاعت "العدة" أو ضيعت، وإذا تعاظمت "الإرادة" كان ذلك مفتـاح "الخروج"، واستثمـرت "العدة" أو عظمت، بعيدا عن أي وهم أو ظن قد يرسخ في الأذهان، فتعتقد أن "العطالة الحضارية" التي تعيشها الأمة، ليس لها من دون الله كاشفة، وأن سعي العالمين في [ ص: 185 ] ضلال، وأن تغيير "الأمر الواقع" محال، مما يقطع عن الناس أسباب النهوض والتغيير، فهذا الوهم خروج عن مقتضيات "الاستخلاف" و "التزكية" و "الاستعمار الإيماني للأرض" وإغفال لهذه السنة الدقيقة المحكمة، التي تقضي أن الله لا يغير ما بقوم، حتى يقوموا هم أولا بتغيير ما بأنفسهم، وأن القدرة على التغيير لا يمكن أن ترد على القوم من خارجهم، بل لابد أن تنبعث من داخلهم، من عزماتهم وإراداتهم واختيارهم، "فـالإنسان لا يمكن أن يغير شيئا في الخارج إن لم يغير شيئا في نفسه، وحينما نقول هذه الكلمة نقولها باعتبارها "علما"، ولا نقولها فقط تبركا بآية، نقولها "علما" ونعلم مقدارها من الصحة العلمية والمعيارية الدقيقة، إذا لا يستطيع مسلم أو غير مسلم أن يغير ما حوله، إن لم يغير أولا ما بنفسه، فهذه حقيقة علمية يجب أن نتصورها كقانون إنساني وضعه الله عز وجل في القرآن، كسنة من سنن الله التي تسير عليها حياة البشر" [14] .

          - سنن العطاء الإلهي، فهو مبذول لكل البشر، للإنسان من حيث هو إنسان، وهذا قانون الله العادل في الخلق، لا يحابي أحدا، فبمقدار فعل الإنسان ووعيه وتفاعله وتفعيله لسنن الله الكونية، واستثمار مكوناتها في العمران، وبمقدار ما يكشف منها ويلتزم بها، بمقدار ما تعطيه هذه السنن من نتائج تتناسب وفعله الحضاري، من غير نظر إلى لونه، أو عرقه، أو حتى كفره بالذي سخر له الكون، وهذا من سنن العمران التي لا تتخلف ولا تتبدل، قال تعالى: ( كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ) [ ص: 186 ] (الإسراء:20 )، وإن كان القرآن يقرر طرفا آخر لسنة الله الجارية في العطاء، وهو: أن "العطاء الحضاري" إذا كان مقرونا بالإيمان بالله تعالى كان "بركة" و "امتدادا" في الزمان والمكان، ضمن مدارج الترقي والبناء والعمارة الحضارية ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ) (الأعراف:96 )، ( وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا ) (الجن:16) ، أما إذا غاب عن العطاء الإيمان بالله كان في النهاية "زخرفا" و "زينة" ولابد من أن ينقلب إلى ضد مقاصده، إن عاجلا أو آجلا، هنا أو هناك.

          - سنن الابتلاء (وما يتعالق معها من مفاهيم إسلامية من نحو: "الفتنة" التي تختبر إيمان الناس وصدقهم/ و "المصيبة" التي تذكر الناس بما كسبت أيديهم ومسؤوليتهم عن اختياراتهم الحضارية، و "الإنذار" الذي ينبه الناس إلى عقاب قريب، أو حساب مهين/ و "الصبر" الإيجابي الفعال الذي يدفع الإنسان إلى تجاوز المحن) [15] ، وهي حال ملازمة للحركة الحضارية للإنسان ما كانت الحياة واستمرت، اختبارا وتذكيرا، قال تعالى: ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم ) (الأنعام:165 )، فالحياة ليست، كما يظن، متاعا دائما، بل هي، في الحقيقة، نضـال دائم، والإنسـان فيها مبتـلى في سعيه، إما للصبر، والشكر، والأجر، وإما للتوجيه، والتأديب، وللتمحيص والتقويم، في [ ص: 187 ] إطار من فاعلية الأمة، وبحثها عن عناصر التمكين، وفي إطار من مواجهة التحديات و "الضغوط الحضارية" التي تواجهها الأمة على مختلف الجهات (تحديات: البقاء، والبناء، والنماء)، (وتحديات: التنازع بين أحوال القوة والضعف، والعزة والوهن، والغثائية والتمكين)، (وتحديات: الفتن، والشهوات) باعتبار ذلك كله "بلاء" يجعل اليقظة الفعالة، والنشاط الحيوي، عمليتين حاضرتين في وعي المسلم وسعيه، قال تعالى: ( ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ) (الأنبياء:35).

          - سنن التدافع والتداول: فالتدافع بين "منظومة قيم الحق" و "منظومة قيم الباطل" بين جملة القيم الإيجابية الفاعلة للحركة الحضارية، وما تشكله من إضافة عمرانية إلى الكون بما فيه صلاحه وإصلاحه، وجملة القيم السلبية التي تفسد الحركة الحضارية، وما تشكله من أنماط التخريب والطغيان والإفساد في الكون، هذا "التدافع" بين المنظومتين من سنن الله الممتدة في خلقه، القائمة إلى يوم القيامة، ولولا هذا "التدافع" لفسدت الأرض، وانتقض العمران، قال تعالى: ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ) (البقرة:251)، ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) (الحج:40)، وفي هذا "التدافع" تبقى سنة الله في قيام الحضارات وتداولها ( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله [ ص: 188 ] وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين ) (آل عمران: 140)، فالحضارة تاريخيا حركة متدافعة متداولة، ولكن من موازين هذا "التدافع" و "التداول" الدائمة في الحياة: أن "الدولة" وإن كانت مرة للمبطل، فلابد أن تكون العاقبة للمصلح إذ ( إن الله لا يصلح عمل المفسدين ) (يونس:81) ، ( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال ) (الرعد:17) ، ومن ثم كان الأمر الإلهي ( فاصبر إن العاقبة للمتقين ) (هود: 49)، إن قانون الله ماض، وسنته سارية ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ) (المجادلة:21).

          إن مفهوم "التدافع" و "التداول" الحضاري، هو البديل الإسلامي لمقولات راجت في الساحة العالمية من نحو: "صراع الحضارات" و "صدام الحضارات" و "حروب الثقافات" و "نهاية التاريخ" وهي مقولات تم استدعاؤها، في الشرق والغرب، لرؤية الأحداث من خلالها عند كثير من الناس، في الآونة الأخيرة (وخاصة بين الغرب والإسلام)، وكلها مقولات تعبر عن "رؤية" واحدة للعلاقة بين "الذات" و "الآخر"، هي رؤية "العداوة" و "التناحر" لكل رؤية تؤمن بالتجاوز وترفض الحتميات المادية من جهة، و "الطغيان" و "الاستئثار العالمي" من جهة أخرى.

          إنها مقولات تعبر عن "رؤية" تتضخم فيها "الذات" لتصير المركز، وتمتد وفقا لحركتها ومصالحها على كامل مساحة المعمورة، و "الآخر" فيها ليس أمامه إلا اللحاق أو الإلحاق بالركب الحضاري، إن استطاع في ظل معادلات ظالمة، أن [ ص: 189 ] يحقق ذلك. بخلاف مفهوم "التدافع" و "التداول" باعتباره أصلا دافعا لعملية الحراك الحضاري، فهو حركة متنوعة الأشكال، قد تكون "المجاهدة" بمفهومها الإسلامي، أحد أشكالها- حينما يجور الآخر، ويحاول فرض رؤيته، تنميطا واستتباعا، أو تخريبا وتدليسا، وليس لمجرد اختلاف الملل أو تغاير الحضارات- ولكن "الإحسان" و "التراحم" و "التعارف" و "التعاون" من أشكالها أيضا، وفق قوله تعالى: ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) (فصلت:34)، ووفق قوله تعالى: ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) (الحجرات:13) ، فجملة ( لتعارفوا ) تمثل "مقصدا" من مقاصد الوجود البشري، في المنظور الإسلامي، مما يجعل "الصراع" بضوابطه وموازينه الشرعية، جزءا من الوجود البشري، وليس محور الوجود كله، كما تروج له هذه المقولات.

          إن مفهوم "التدافع" و "التداول" وفق هذه الأشكال، والمقاصد الإسلامية، ليس رؤية لإقصاء (الآخر)، أو استبعاده، أو القضاء عليه، بل يعبر "عن رؤية تأسيسية للعالم، يحتل فيها (الآخر) مساحة مهمة، لا تقوم على تصنيفه المؤبد في دائرة "العدو" إلا إذا اعتبر هو، أي: (الآخر) أن ذلك خياره في أن يكون "عدوا"؛ فعالمية الاستخلاف (التي يدعو إليها الإسلام) تقوم بالأساس على مراعاة حق (الغير) [16] . [ ص: 190 ]

          - السنن التحذيرية "سنن السقوط الحضاري"، وهي التي توضح جملة من الأفعال والصفات التي ينبغي أن تحذر منها الأمم، لما لها من آثار سلبية في سعيها الحضاري، فتصيبها بالضعف والوهن، أو تؤثر جملة في كيانها الحضاري ذاته، مما يؤذن بخرابها؛ ومن ثم تعد من أهم أنواع السنن؛ إذ تشكل نوعا من "القلق الحضاري" و "الوقاية الحضارية" في آن واحد، فهي في بنائها تشير إلى أن [17] : الفعل السلبي سيؤدي حتما إلى جملة من النتائج السلبية، وأن الفطنة لسلبية الفعل ونتائجه، لابد من أن تحرك عناصر: الاعتبار، وتدبر العاقبة، والفعل الإيجابي، وأن أول عناصر الفطنة في نطاق السنة التحذيرية، إنما يحرك أصول التفكير والاتعاظ والاعتبار، وتحقق "الوقاية الحضارية". مثل ما جاء في القرآن الكريم من التحذير من [18] : "فساد القمة"، و "الانغماس في الترف"، و "الاستبداد والطغيان"، و "التكبر والاستعلاء"، والتحذير من "الظلم" و "الركون" إلى الظالمين، وهو في النهاية ما يجعل من الأمم "قوما بورا" على نحو ما جاء في قوله تعالى: ( ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا ) (الفرقان:18) ، ( وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا ) (الفتح:12).

          ويعتبر ما صح من "باب الفتن" و "النبوءات" في كتب السنة النبوية، والتي تتناول "سنن ظهور الإسلام" و "سنن غربته" و "أسباب نصر المسلمين" و "أسباب ضعفهم" و "شبكة العلاقات الاجتماعية" من المفاتيح العظيمة لفهم هذه السنن التحذيرية؛ إذ موضوعاتها متعلقة بمستقبل الأمة، ومواجهتها لتغيرات [ ص: 191 ] شاملة، وتحذيرها من أن تكون هذه التغيرات، والمتغيرات، سبيلا إلى تفريطها في شيء من شريعتها، ومنهاجها الذي جعلها الله لها، مثل قوله صلى الله عليه وسلم : ( يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينـزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا، وكراهية الموت ) [19] ، ونحو قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينـزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ) [20] ، فإن هذه الأحاديث، وغيرها من بابها، يمكن قراءتها على أنها تنبيه للمسلمين من أن يقعوا في مثل هذه الأفعال الدالة على فساد الزمان، بل يجب تتبعها بالمواجهة والإصلاح، أي: أنها "منبهات" و "محفزات" حضارية، تبصر بالمصائر التي سوف يصير إليها من يعيشون بعيدا عن الهدي الإلهي. فهي تقدم نقدا لواقع سيكون؛ تحذيرا وتخويفا من الوقوع في براثن ذلك الواقع أو الرضا به، وتحفيزا للمسلمين، وإثارة لفاعليتهم؛ للاستعداد للتعامل مع هذا الواقع، وتحقيق مقتضى الاعتبار من "الإنذار النبوي" [21] ، فلا تنـزلق [ ص: 192 ] حركة المسلم إلى انحراف، أو تتوه عن الطريق؛ ذلك أن التعرف على "الفتن" لا يمنح الإنسان القدرة على تمييزها فحسب، وإنما يمنحه قدرا كبيرا من التحكم فيها، والتخفيف من آثارها السلبية، ومغالبة قدر بقدر، والفرار من قدر إلى قدر، وإلا كان الوقوع فيها، أو بمعنى آخر: إن هذه الأحاديث، إذا أحسنا قراءتها بأبجدية صحيحة، فسوف تشكل لنا المناعة، وامتلاك الإمكان الحضاري، والعصمة من الوقوع في الفتن، والقدرة على المواجهة والإصلاح، وفي ظني أن هذا هو الغرض الأكبر منها، ( ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ) .

          وفي هذا السياق يستطيع العقل المسلم الواعي أن يقرأ أحاديث "الفتن" و "أشراط الساعة" و "التنبؤات" واستخلاص مجموعة من الصفات والأفعال الحضارية، في دلالاتها المباشرة وغير المباشرة، لحالة "القوة" و "الوهن" و "النصر" و "الهزيمة" وغـيرها، وبذلك نشـكل رؤية كلية لمنظومة التحديات الحضارية، مما يمكننا من رؤية الخريطة المستقبلية، وفقا لأقوال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ، بعيدا عن مواقف اليأس والقنوط، وبعيدا عن القراءات المتأزمة، الصادة عن الفعل، المعطلة للفاعلية، والتي تقرأ هذه الأحاديث بأبجدية تقلب المعاني، فلا ترى فيها تحذيرا من براثن واقع ينبغي لنا أن نبصره ونجاهده، بل إخبارا عن وقـائع حادثة لا محـالة، وما علينا إلا انتظار وقوعها، ولو كان الأمر كذلك، فهذا يعني أن الإنسان مسير، وليس مخيرا، وهذا هو المعنى الذي قصده علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، حين قال: "ويحك لعلك ظننته قضاء لازما، وقدرا حاتما، لو كان ذلك لسقط الوعد والوعيد، ولبطل الثواب والعقاب، ولا أتت لائمة من الله لمذنب، ولا محمدة من [ ص: 193 ] الله لمحسن، ولا كان المحسن أولى بثواب الإحسان من المذنب، ذلك مقال إخوان عبدة الأوثان، وجنود الشيطان، وخصماء الرحمن" [22] .

          - سنن التلازم: وهي تشير إلى عدة قوانين متلازمة في حركة الحياة، نهوضا وسقوطا، مثل [23] :

          - التلازم بين الطاعة والنصر، والعصيان والهزيمة، قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم * والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم * ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم * أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها * ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم ) (محمد:7-11).

          - التلازم بين الأخذ بأسباب القوة المادية والمعنوية، امتلاكا وتحصيلا وإعدادا واستخداما ومقاصد، والشهود الحضاري للأمة، قال تعالى: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ) (الأنفال:60). [ ص: 194 ]

          - التلازم بين التنازع والفرقة، وفشل الأمم وهزيمتها، قال تعالى: ( وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ) (الأنفال:46 )، وقال صلى الله عليه وسلم مبينا تلازم هذه السنة واطرادها: ( لا تختلفوا؛ فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا ) [24] .

          - التلازم بين الاستكبار والاستلاب الحضاري، والاستضعاف والاستخفاف، قال تعالى، في حديثه عن فرعون واستلابه لقومه: ( فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين * فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين * فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين ) (الزخرف:54-56).

          - التلازم بين الظلم والطغيان، وهلاك الأمم، قال تعالى: ( وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين * وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ) (القصص:58-59).

          - التلازم بين الانهيار الحضاري للأمم، وانحلالها الأخلاقي، فإنتاجية الأمم وبقاؤها يكون على قدر أخلاقيتها، مهما كانت لهم القوة والمنعة المادية، يقول تعالى: ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها [ ص: 195 ] القول فدمرناها تدميرا * وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا ) (الإسراء:16-17).

          - التلازم بين اختلال الموازين، وفساد الأعمال (الوهم الحضاري) ، قال تعالى: ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا * أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) (الكهف:103-105).

          - التلازم بين معاودة إخراج الأمة واسترداد فاعليتها والتمكين لها، وإدراكها أبعاد رسالتها، ومعرفة طريقها، وإقامة الحمايات والحراسات على هذا الطريق، قال تعالى: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ) (آل عمران :110).

          فهذه "السنن" و "المتلازمات الحيوية" وما يتوالد عنها من "سنن فرعية" إنما هي شيء قليل من كثير نفهم به حركة الحياة، ونقف به على جملة من طبائعها وظواهرها، وعوامل الاختلال فيها، ونحرك من خلاله إمكانات بحثية وتفسيرية لما تمر به أمتنا الآن، والمسلم اليقظ الواعي، في استعماره الإيماني للأرض، و "تحريكه الحياة" وفق منهج الله في أمره ونهيه، مطالب بأن يحيط علما بهذه الظواهر، تدبرا واعتبارا، سواء ما تحدث عنه الوحي، قرآنا وسنـة، أو ما اكتشفه السلف من المؤمنين، أو ما يمكن أن نكتشفه نحن، أو ما يمكن أن يكتشفه غيرنا مما يتفق مع مسيرة الحياة وسيرورتها؛ حتى يأتي سعيه متجانسا مع "حركة الحياة" دون "تمويه"، أو "استقالة"، أو "إحالة على الغير" ( قل هو [ ص: 196 ] من عند أنفسكم ) إن هذه "السنن" و "المتلازمات" تمثل "ميزان الله" في الأرض، وهو ميزان لا يحيد عن مساره، ولا يخطئ غايته، إنه ميزان "العواقب" و "المآلات" التي لا تخطئها عين ( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (يوسف:21).

          وبذلك يتبن أن وظيفة القيم الحضارية في الإسلام، من خلال "فقه السنن" ليست فقط تصويب الحاضر، وتقويمه بقيم الدين، وإنما قراءة الماضي، وإعادة معايرته، والاعتبار به؛ حماية للحاضر "التقوى الحضارية"، وحسن بناء وتقويم للمستقبل.

          ثانيهما: وثاني الثمرتين المترتبتين على "البعد السنني" في الاستعمار الإيماني للأرض، هو تعميق قيمة: "الائتمان على المستقبل"

          [25] ، فالمسلم من [ ص: 197 ] خلال قراءة هذه السنن وفقهها، والتحليل الإيماني لها [26] ، يصبح مستوعبا لقوانين الحركة في الحياة، عارفا بقوانين السقوط والنهوض، قادرا على تشكيل مستقبله وامتداد فعله؛ ذلك أن مفهوم "التدبر" و "الاعتبار" في البعد السنني، لا يشير إلى معايرة الحاضر بمعايير السنن الإلهية رصدا وتحليلا وتفسيرا وتقويما، فحسب، بل يتطلب، أيضا، تصويب التوجه إلى المستقبل، بإدراك الغايات والمآلات، أي: العبور بالفعل إلى دائرة أكثر فهما ووعيا وسعيا، فينظر المسلم - بمقتضى "السنن الإلهية" و "المنظومة الحركية" المرتبطة بها- في "المآلات" و "عواقب الأمور"، وكلها عناصر من أصول التفكير في "المستقبل"، فيبني حركته الحضارية من خلالها، فلا يكفي المسلم النظر، من خلال السنن، في عوامل الفساد المؤدية إلى "وهن" الأمم و "غثائيتها" ومن ثم انهيارها، وعوامل الصلاح والقوة المؤدية إلى الحركة الفاعلة فيها ومن ثم بقاؤها وامتدادها، بل يجب أن يتبع ذلك سعيا وحركة حضارية فاعلة بناءة، ضمن قيم "الاستخلاف" و "التزكية" و "الاستعمار الإيماني للأرض" فيكون تدبر السنن فعلا مستقبليا، يقدر للفعل عواقبه، ويبحث عن سننه الفاعـلة، وعيا وسعيا؛ فإن عدم هذا السعي، وذاك التفاعل البناء، عد النظر في السنن عبثا لا قيمة له؛ إذ الوقوف عند السنن الحاكمة، والاكتفاء بالنظر فيها، قصور منهجي، لا يقل خطرا عن إغفالها أو التغافل عنها.

          وبذلك النظر في "السنن" و "الاعتبار بها" و "العمل وفق مقتضياتها" يمنح الإسلام المسلم منهجية صادقة وراقية وفاعلة في التعرف على المستقبل، والوعي بحركته، والمشاركة في صنعه، دافعا إياه نحو "رؤية" مستقبلية شديدة العمق [ ص: 198 ] والفاعلية، حيث القدرة على "استشراف المستقبل" و "فقه المآلات" التي سوف يصير إليها، و "مغالبة الأقدار".

          ومعنى ذلك: أن المسلم، في المنظور الحضاري الإسلامي، ليس مطالبا باستشـراف المستقبل رؤية وتخطيطا فقط، بل هو مؤتمن عليه أيضا!! قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد ) (الحشر:18) ، ففي قوله تعالى: ( ولتنظر نفس ما قدمت لغد ) ، أمر بالنظر إلى ما يقدمه الإنسان لبناء مستقبله "لغد" ذلك "الغد" الذي قد يكون قريبا، وقد يمتد حـتى اليـوم الآخر، في حركـة مستقبلية موصولة [27] . ولعل في حديث النـبي صلى الله عليه وسلم : ( إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل ) وفي رواية: ( فليغرسها ) [28] خير دليل على الشعور بالمسؤولية تجاه حركة المستقبل، يقول الإمام المناوي في شرح الحديث، بعد أن ذكر خفاء الحكمة منه على بعض من الأئمـة الأعـلام: "والحاصل: أنه مبالغة في الحث على غرس الأشجار وحفر الأنهار؛ لتبقى هذه الدار عامرة إلى آخـر أمـدها المحـدود المعـدود المعلوم عند خالقها، فكما غرس لك غـيرك، فانتفعـت به، فاغرس لمن يجيء بعدك لينتفـع، وإن لم يبق من الدنيا إلا صبابة" [29] ، وكذلك الإشـارة النبـوية الدقيقة، حينما جاءه رجل فسأله: "متى الساعة؟"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( وماذا أعددت لها؟ ) [30] ففي ذلك إشـارة إلى [ ص: 199 ] أن العنـاية بالمستقـبل، إنما تكون بالإعـداد والعدة له، وأن الإنسان المسلم مؤتمن على ذلك!!

          ويؤكد هذا الشعور بالمسؤولية تجاه حركة المستقبل في "منظومة القيم الإسلامية" كل ما أوردناه، سلفا، من آيات قرآنية، وأحاديث نبوية، تؤطر حركة المسلم في تعامله مع الحياة والأحياء، أمرا بالتفاعل الإيجابي مع مفردات الكون ومعطياته، والانتفاع بها على مقتضى التقلل والاعتدال، ونهيا عن كل عبث بها إسرافا وإفسادا، واعتبار المسلم "مؤتمنا على الكون" حاضرا ومستقبلا، "مأمورا بالزهد والإيثار الكوني" للأجيال من بعده، بل إن السنة النبوية لتؤكد أن المسلم قادر على تشكيل مستقبله وامتداد فعله حتى بعد الموت، وذلك بالولد الصالح، نبت المستقبل، والصـدقة الجارية، استمرار الامتداد والفعل والأثر بعد الموت؛، والعلم المستدام الدائم العطاء، فقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا مات الإنسان انقطـع عنـه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ) [31] .

          إن مسؤولية المسلم تجاه حركة المستقبل، استشرافا وائتمانا، ليست رجما بالغيب المنهي عنه، ولا مؤسسة على عناصر معاندة للقدر، ولا خرقا للزمن والواقع، كما قد يظن، بل هي مسؤولية تحمل، في جوهرها، عناصر حركة تفكيرية وعملية، تنطلق من الوعي بالسنن الفاعلة، والحاكمة لحركة الحياة والأحياء، تدبرا واعتبارا، إلى السعي لتشكيل المستقبل، وفق "رؤية" الإسلام للعالم، و "مقاصده" في عمارة الكون، و "قيمه" في تحريك الحياة، في سياق "الاستخلاف" الذي يحدد مسار هذه الحركة، "والتزكية" المتحكمة في [ ص: 200 ] وسائلها، و "الاستعمار الإيماني للأرض" الذي يشكل المقصد الأساس لحركة المسلم على امتدادها في الأزمان، عبادة لله، وتعبيد الدنيا له.

          وهـكذا، من خـلال الاستعمـار الإيمـاني للأرض، بأبعاده الأربعة، يحقق المسـلم معنى "الاستقامة" التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم حينما سئل عن قول جامع في الإسـلام، فقـال: ( قل آمنـت بالله، فاستقم ) [32] ، وعن عبد الله ابن عمرو بن العاص، رضي الله عنهـما: ( أن معاذ بن جبل أراد سفرا، فقال: يا نبي الله، أوصني، قال: اعبد الله لا تشرك به شيئا. قال: يا نبي الله، زدني، قال: إذا أسأت فأحسن. قال: يا رسول الله، زدني، قال: استقم، وليحسن خلقك ) [33] فـ"الاستقامة" هي انضباط حركة المسلم في هذه الحياة وفق منهج الله وشرعته، فتكون حركته، علما وعملا، منطلقة من معارف الوحي، ومنضبطة بمقاصده، ومناهج الاستمداد منه، فتكون كل أقواله وأفعاله، وأحواله ونياته، واقعة لله، وبالله، وعلى أمر الله [34] ، وبهذا يمكن "للإسلام، وبربطه كل شيء بالله، أو بنظرته القائمة على ارتباط كل شيء بالله.. أن يكون خميرة تحرر ونضال ضد كل أشكال التسلط والعبودية، المفروضة على الإنسان، بحجة أطروحات مزيفة تبعده عن أصالته ومركزه" [35] . [ ص: 201 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية