الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          ثانيا: التزكية بمراعاة حق (الغير) [1] :

          إذا كان المسلم في سعيه الحضاري يتحكم فيه مبدأ: "الطاعة في العبادة" فإنه أيضا يتحكم فيه مبدأ: "الطاعة في المعاملة" التي تعني: تزكية النفس بمراعاة حق الغير،في إطار إشكالية "الأنا" و "الآخر" وفق المنهج الإلهي الذي لا موضع فيه إلا (للعدل) وامتداده (الإحسان) الذي يؤطر حركة المسلم في علاقته بالآخر، قال تعالى: ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ) (النحل:90) ، قال العلماء: إن هذه الآية الشريفة، أجمع آية في القرآن، ولو لم يكن فيه غير هذه الآية، لكفت في كونه تبيانا لكل شيء وهدى [2] ، ولما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على المشركين، قال فصحاؤهم: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال [3] .

          فسلوك المسلم مع (الغير) وفق منهج التزكية، يتحكم فيه مجموعة من المعايير، هي جماع تلك "الطاعة في المعاملة" بـما فيها من دوافع وضوابط، وما ينبثق عنها من مقاصد ووسائل، أهمها:

          1- معيار "العدل"، وهو المعيـار المحور في قيم التعـامل مع (الغير)، فلا ترى القيم الأخرى إلا في سياقه، فجميعها مشدودة إليه بدءا وعودا، [ ص: 73 ] ومقتضاه: أن يحفظ العبد حق (الغير) كما يحفظ حق (الذات)، وفقا للمبدأ الإسلامي: "أن لكل خلق حقا أو حقوقا تخصه"، والعدل هو أن يحفظ العبد تلك الحقوق، مراعاة وتأدية، كما يحفظ حق نفسه، أو "توفير الحقوق في المعاملة، بأن تعطي ما أمرت به من حق الله، وحقوق العباد كاملا موفرا" كما يقول الإمام ابن القيم [4] ، وهو المفهوم من قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) [5] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( فمن سره منكم أن يزحزح عن النار، وأن يدخل الجنة، فلتدركه موتته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه ) [6] .

          و "العدل" هنا لا يقف عند سقف مقام "المعاملة" بل يتعداه إلى مقام "الحكم"، ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ) (النساء:58) فالحاكم إذا تجاوز العدل الدقيق الصارم كان كمن يتصرف في حق غيره، نقصا واعتداء، وذاك هو الظلم بعينه، وفي الحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ) [7] ، وهذا الحديث يوجب على المسلم في كل حركته: "دوام التجرد من أسباب الظلم" و "دوام التوجه إلى الله المتجلي بالعدل"، إنه إطار للحركة الدائمة الصالحة والمصلحة. [ ص: 74 ]

          وهذا المعيار في التعامل "العدل" يؤسس لـ"فقه شغوف بأداء الحقوق" كما جاء في أحاديث الحقوق، وأشهرها الحديث المتفق عليه، أن أبا هريرة، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( حق المسلم على المسلم خمس : رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس )[8] ، كما يؤسس لـ"فقه شغوف بمراعاة الحرمات" التي بينها حديث أبي هريرة، قـال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره. التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه ) [9] ، وجمـاع ذلك: "حسن المراعـاة، ودوام المراقبـة، وتعظيم حرمة (الغير)" [10] .

          ومما ينبغي التنبه إليه هنا: أن العدل المؤسس "لفقه شغوف بأداء الحقوق"، وآخر "شغوف بمراعاة الحرمات" لا يؤسس لحقوق المسلم على المسلم، فقط، بل إنه يؤسس: أن لغير المسلم أيضا من الحقوق ما ينبغي أن تحترم وتراعى، وأن يحافظ على حقهم في الاختلاف والمغايرة، بل أوجب الإسلام حراسة هذه المغايرة وهذا الاختلاف، والذود عنهما وحمايتهما، بجعل [ ص: 75 ] ذلك دينا لا يجوز الخروج عنه [11] ، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا من ظلم معاهدا، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة، ) وزاد في رواية البيهقي: ( وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصبعه إلى صدره، "ألا ومن قتل معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله حرم الله عليه ريح الجنة ، وإن ريحها لتوجد من مسيرة سبعين خريفا ) [12] .

          وقاعدة: "لهم ما لنا، وعليهم ما علينا" [13] ، هي الأساس الدستوري الإسلامي، الذي لا يجوز الاجتهاد معه، حتى إن الإسلام لم يعرف مصطلح "الأقلية"، وإنمـا عرف مصطلح "الأمـة الواحـدة" بجميع أطيافها، وهذا [ ص: 76 ] ما توضحه "الوثيقة" أو "الصحيفة" أو "الكتاب" [14] ، الذي كتبه الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار وبين يهود، حيث وادعهم فيه، وعاهدهم، وأقرهم فيه على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم وشرط لهم، ولم يقتصر الأمر على مجرد الاعتراف بهم، بل امتد إلى اعتبارهم، في إطار الدولة الواحدة، لبنة من لبنات الأمة الإسلامية، بالرغم من اختلاف عقيدتهم، ما داموا قد اختاروا الإسلام اختيارا حضاريا يعيشون في كنفه، وإن لم يختاروه اختيارا عقديا، ومن ثم فلهم كل الحق في صنع هذا الاختيار الحضاري، والمشاركة في إدارته، وفق منهج الإسلام في ذلك، يقول الإمام القرافي: "إن عقد الذمة يوجب حقوقا علينا لهم؛ لأنهم في جوارنا، وفي خفارتنا، وذمة الله تعالى، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمـة سـوء، أو غيبة في عرض أحدهم، أو نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك، فقد ضيع ذمة الله تعالى، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذمة دين الإسلام، وكذلك حكى ابن حزم في مراتب الإجماع له: أن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك؛ صونا لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة، وحكى في ذلك إجماع الأمة"، ومن ثم يجب "الرفق بضعيفهم، وسد خلة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وإكساء عاريهم، ولين القول لهم، على سبيل اللطف لهـم والرحمة، لا على سبيل الخوف والذلة، واحتمال أذيتهم في الجوار مع القدرة على إزالته لطفا منا بهم، لا خوفا وتعظيما، والدعاء لهم بالهداية، وأن يجعلوا من أهل السعادة، ونصيحتهم في جميع أمورهم في دينهم ودنياهم، وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد [ ص: 77 ] لأذيتهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم، وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم، وإيصالهم لجميع حقوقهم...فإن ذلك من مكارم الأخلاق، إلا أنه ينبغي أن يكون لا على وجه التعظيم لهم وتحقير أنفسنا بذلك الصنيع لهم، بل امتثالا منا لأمر ربنا عز وجل، وأمر نبينا صلى الله عليه وسلم " [15] .

          ولم يقف الإسلام بهذا الأفق عند هذا الحد، وإنما امتد ليشمل المتدينين بأفكار ومذاهب وضعية، وعاملهم معاملة أهل الكتاب، وهذا ما عليه الفقه الإسلامي، يقول الإمام القرطبي: "الوصاة بالجار مأمور بها، مندوب إليها، مسلما كان أو كافرا، وهو الصحيح، والإحسان قد يكون بمعنى المواساة، وقد يكون بمعنى حسـن العشرة وكف الأذى والمحامـاة دونه، روى البخـاري عن عائشـة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مـا زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيـورثه، ) وروى عن أبي شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل يا رسول الله: ومن؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه. ) وهذا عام في كل جار، وقد أكد عليه السلام ترك إذايته بقسمه ثلاث مرات [16] ، وكل ذلك مقتضى قول تعالى: ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) (الممتحنة:8)، ومقتضى هديه صلى الله عليه وسلم في احترام حق (الغير) ، مهما كان، باعتبار مطلق إنسانيته، فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى، رضي الله عنه، قال: ( كان سهل بن حنيف، وقيس بن سعد قاعدين بالقادسية، فمروا عليهما [ ص: 78 ] بجنازة فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض، أي من أهل الذمة، فقالا: إن النبي صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: أليست نفسا ) [17] ، ومن الهدي النبوي في ذلك ما ذكره الحافظ ابن كثير، نقلا عن الحافظ ابن عساكر: ( أن رجلا يقال له حرملة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : الإيمان هاهنا، وأشار إلى لسانه، والنفاق هاهنا وأشار إلى قلبه، ولا أذكر الله إلا قليلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم اجعل له لسانا ذاكر، أو قلبا شاكرا، وارزقه حبي وحب من يحبني، وصير أمره إلى خير. قال: يا رسول الله، إنه كان لي صاحب من المنافقين وكنت رأسا فيهم، أفلا آتيك بهم؟ فقال: من أتانا استغفرنا له، ومن أصر على ذنبه فالله أولى به، ولا تخرقن على أحد سترا ) [18] .

          2- معيار "الإحسان" [19] ، فإذا كان "العدل" هو أن يراعي العبد حق (الغير) ، معاملة وحكما، كما يراعي حق نفسه، فإن "الإحسان" هو تقديم حق (الغير) على حق "النفس" أو على حد تعبير الإمام الشاطبي: "إسقاط حظوظ النفس" و "القيام على قدم العبودية" [20] وأدنى ذلك: ملاحظة الخير في أفعال (الغير)، وفي أعلاه التضحية بالنفس من أجل (الغير)، وفي أوسطه الصبر على أذى (الغير)، والتماس العذر له، والعفو عن مساءته، ومكافأة الإساءة [ ص: 79 ] بالإحسان، فلا يكون تعامل الإنسان مع أخيه الإنسان مجرد تحصيل خدمات منه، أو توصيلها إليه، وإنما جلب صلاح له أو استجلابه منه، ودفع فساد عنه أو استدفاعه به [21] ، وهذا مقتضى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء ) [22] ، يقول الإمام القرطبي في شرح هذا المعنى: "فإنه تعالى يحب من خلقه إحسان بعضهم إلى بعض، حتى إن الطائر في سجنك، والسنور في دارك لا ينبغي أن تقصر تعهده بإحسانك" [23] .

          وهذا المعيار في التعامل "الإحسان" يؤسس لـ"فقه شغوف باصطناع المعروف" فقد ذكر الحافظ ابن أبي الدنيا بسنده: "عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( عليكم باصطناع المعروف؛ فإنه يمنع مصارع السوء، وعليكم بصدقة السر؛ فإنها تطفئ غضب الله عز وجل ) [24] ، و عن ابن عمر رضي الله عنهما: ( أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله عـلى مسلم، أو تكشف عنـه كربة، أو تقضـي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد - يعني مسجد المدينة- شهرا ومن كف غضبه ستر الله عورته ، ومن كظم غيظه [ ص: 80 ] ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام ) [25] ، و "اصطناع المعروف" الوارد في الهدي النبوي، يمكن أن نسميه بمبدأ: "اقتحام العقبة" [26] الذي يقوم على "تحقيق حرية الغير" و "سد حاجته وعوزه"، كما جاء في قوله تعالى: ( فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة * ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة * أولئك أصحاب الميمنة ) (البلد:11-18).

          كما يؤسس"الإحسان" لـ"فقه شغوف بأخلاق الإيثار" وهو فقه يقوم على وجهين، ذكرهما الإمام الشاطبي [27] :

          - الوجه الأول: إسقاط الاستبداد والدخول في المواساة على سواء "وذلك بأن يرى العبد غيره مثل نفسه، وكأنه أخوه أو ابنه أو قريبه أو يتيمه، أو غير ذلك ممن طلب بالقيام عليه ندبا أو وجوبا، وأنه قائم في خلق الله [ ص: 81 ] بالإصلاح والنظر والتسديد فهو على ذلك واحد منهم، تحقيقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضـه بعضـا، وشبك أصابعه ) [28] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة ) [29] ، فإذا صار الأمر كذلك لم يقدر العبد على أن يستبد بشيء لنفسه دون غيره ، ممن هو مثله بل ممن أمر بالقيام عليه، كما أن الأب الشفيق لا يقدر على الانفراد بالقوت دون أولاده وهو محمود جدا، وقد فعل ذلك في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال عليه الصلاة والسلام: ( إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية ) ؛ فهم مني وأنا منهم [30] ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان في هذا المعنى الإمام الأعظم، وفي الشفقة الأب الأكبر؛ إذ كان لا يستبد بشيء دون أمته؛ وفي مسـلم عن أبي سعيـد قال : بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له، قال: فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له. قال: فذكر من أصناف [ ص: 82 ] المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل ) [31] ، وفي حديث ذي دلالة موحية، يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم ، كل ما زاد عن الحاجة، ولا يبذل لمن يحتاجه فهو للشيطان، فعن سعيد بن أبي هند قال: قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تكون إبل للشياطين، وبيوت للشياطين، فأما إبل الشياطين فقد رأيتها يخرج أحدكم بجنيبات معه قد أسمنها فلا يعلو بعيرا منها، ويمر بأخيه قد انقطع به فـلا يحمله. وأما بيوت الشياطين فـلم أرها، كان سعيـد يقول لا أراها إلا هذه الأقفاص التي يستر الناس بالديباج ) [32] .

          وهذا الحديث النبوي الشريف "بذل الفضل" يؤسس لأصل فقهي، وهو: "أن الضرورات تحيل أعمال المروءة إلى واجبات!!" و "أنه إذا احتاج المسلمون فلا مال لأحد!!" [33] ؛ ومن ثم قرر الفقهاء: "لو كان رجلان في بادية، فمرض أحدهما وجب على الآخر تعهده" [34] ، وهذا من النمط العالي في الفقه الإسلامي الذي تحتاج إليه الأمة في تحريكها للحياة.

          - والوجه الثاني: الإيثار على النفس، وهو أعرق في إسقاط الحظوظ؛ وذلك أن يترك حظ نفسه لحظ غيره، اعتمادا على صحة اليقين، وإصابة لعين التوكل، وتحملا للمشقة في عون الأخ في الله على المحبة من أجله، و "هو من محامد الأخلاق، وزكيات الأعمال، وهو ثابت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن خلقه المرضي، وقد كان عليه الصلاة والسـلام أجود الناس بالخـير، وأجود [ ص: 83 ] ما كان في شهر رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة، وقالت له خديجة: إنك تحمل الكل وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق. ( وحمل إليه تسعون ألف درهم فوضـعت على حصير، ثم قام إليها يقسمها، فما رد سائلا حتى فرغ منه، وجاءه رجل فسأله فقال: ما عندي شيء ولكن ابتع علي، فإذا جاءنا شيء قضيناه. فقال له عمر: ما كلفك الله مالا تقدر عليه، فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وعرف البشر في وجهه وقال: بهذا أمرت. ) ذكره الترمذي" [35] . وهذا اللون من "أخلاق الإيثار" يعين عليه ثلاثة أشياء، ذكرها ابن القيم في مدارج السالكين [36] ، الأول: "تعظيم الحقوق"؛ فإن من عظمت الحقوق عنده قام بواجبها، ورعاها حق رعايتها، واستعظم إضاعتها، وعلم أنه إن لم يبلغ درجة الإيثار لم يؤدها كما ينبغي فيجعل إيثاره احتياطا لأدائها. الثاني: "مقت الشح"؛ فإنه إذا مقته وأبغضه التزم الإيثار. الثالث: "الرغبة في مكارم الأخلاق" وبحسب رغبته فيها يكون إيثاره؛ لأن الإيثار أفضل درجات مكارم الأخلاق".

          3- معيار "التراحم"، وهو من أهم مبادئ "الطاعة في المعاملة"، وقد قرر علماؤنا، رحمهم الله، أن "كمال السعادة في أمرين: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله" [37] ، ومداد هذا من قوله صلى الله عليه وسلم : ( على كل مسلم صدقة، فقالوا: يا نبي الله فمن لم يجد؟ قال: يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق، قالوا: [ ص: 84 ] فإن لم يجد؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر فإنها له صدقة ) [38] ، قـال العـلامة ابن حجر: "ومحصل ما ذكر في حديث الباب: أنه لا بد من الشفقة على خلق الله، وهي إما بالمال أو غيره ، والمال إما حاصل أو مكتسب، وغير المال إما فعل وهو الإغاثة وإما ترك وهو الإمساك" [39] ؛ فالأصل في المنظور الإسلامي، أن الموجودات، على اختلافها، يرحم بعضها بعضا؛ تخلقا باسم "الرحمن" من أسمائه تعالى [40] ، فيكون حظ العبد من اسم "الرحمن"، كما يقول الإمام الغزالي: "أن يرحم عباد الله الغافلين، فيصرفهم عن طريق الغفلة إلى الله، عز وجل، بالوعظ والنصح، بطريق اللطف دون العنف، وأن ينظر إلى العصاة بعين الرحمة لا بعين الإزراء، وأن يكون كل معصية تجري في العالم كمصيبة له في نفسه، فلا يألو جهدا في إزالتها بقدر وسعه؛ رحمة لذلك العاصي أن يتعرض لسخط الله، ويستحق البعد من جواره. وحظه من اسـم الرحيم: ألا يدع فاقة لمحتاج إلا يسدها بقدر طاقته، ولا يترك فقيرا في جواره وبلده إلا ويقوم بتعهده ودفع فقره إما بماله أو جاهه أو السعي في حقه بالشفاعة إلى غيره، فإن عجز عن جميع ذلك فيعينه بالدعاء وإظهار الحزن بسبب حاجته؛ رقة عليه وعطفا حتى كأنه مساهم له في ضـره وحـاجته" [41] ؛ ومن ثم جاء في الهدي [ ص: 85 ] النبـوي أن: أبا هريرة، رضـي الله عنه، قـال: ( قبل رسـول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهـم أحدا، فنظر إليـه رسـول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قـال: من لا يرحم لا يرحم ) [42] ، قال العلامة ابن حجر: "قال ابن بطال: فيه الحض على استعمال الرحمة لجميع الخلق، فيدخل المؤمن والكافر، والبهائم المملوك منها وغير المملوك" [43] ، وهكذا يتضح أن "التراحم" لا يقوم بين الآدميين فحسب، بل إنه أيضا يقوم بينهم وبين الأشياء من حولهم، حتى الأشياء الساكنة والجامدة؛ فالمسلم، المتخلق باسم "الرحمن" يرحم أخاه المسلم؛ مراعاة لأخوة الدين فيه، ويرحم غير المسلم؛ حفظا لقيمة الإنسانية فيه، ويرحم غير الإنسان رحمته للإنسان؛ حفظا لقيمة الوجود فيه، كما أنه يؤثر الكونية المأخوذة من الرحمة على كل كونية أخرى، متعلقا بحق اسم الرحمن فيه!! وهذه المعاني من الرحمة كلها مداد قوله تعالى، في وصف رسالة النبوة الخاتمة، وتحديد هدفها: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107).

          وهذا "التراحـم" هو معيـار السلوك الراقي، الذي ينمي في النفس، عند التعامـل مع (الغـير)، جوانب: الاعتدال والوسطية، والذوقيات وإرهـاف الحس، ورقة الشعور وهـدوء النفس؛ فاسم "الرحمن" هو، بالذات، الاسم الإلهي الذي يزودنا بالقدرة على خلق "التواصل" و "التعارف" بيننا، ويدفع تحديات الانفصـال، التي ابتلي بـها هذا الزمان، فهو يقضي [ ص: 86 ] بإيجاد عالم تكون فيه العـلاقات بين الأحياء والأشياء جميعا، علاقات بين أقرباء، أقرباء فيما بينهم، وأقرباء من الرحمن الذي يتجلى عليهـم، لا بقهره، وإنـما برحمته، بحيث تكون الواجبـات فيما بينهم، لا واجبات الأجـانب، بل واجبات الأقارب، التي يكون سبيلها سبيل الرفق دون العنف [44] ، ففي صحيح مسلم [45] : "عن هشام بن حكيم بن حزام، قال: مر بالشام على أناس، وقد أقيموا في الشمس، وصب على رؤوسهم الزيت، فقال: ما هذا؟ قيل: يعذبون في الخراج، فقال: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله يعذب الذين يعذبون في الدنيا ) بل إن "التراحم" بين الناس هو سبب تنـزل رحمة الله عليهم، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) [46] ؛ ومن ثم حكم علماؤنا أن كل ما يؤدي إلى "غير رحمة" خارج عن الدين، غير معتبر به في ميزان الإسلام؛ لأنه ضد مقصود الشارع من تأليف القلوب والتراحم والتعاطف والتحابب، فـالشريعة "عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه" [47] . [ ص: 87 ]

          4- معيار المجاهدة [48] ، فالأمة الإسلامية شديدة العناية بمراعاة حق (الآخر)، أفرادا وأمما، كما أنها شديدة العناية بمحاورته، في إطار يحافظ على المقصود الكوني استخلافا واستعمارا، لكنها في المقابل تجاهد (الآخر)، وتدافع ظلمه، إن هو حار فجار. ففجور (الآخر)، في المنظور الإسلامي، لا يمكن الاستسلام له، بدعوى التعايش والتعارف؛ إذ ذلك يفرض أشكالا من العلاقات بين الأفراد، أو الأمم والحضارات، لا يرضى عنها الإسلام، مثل: (التبعية/ والخضوع والخنوع/ والاستسلام والطغيان/ والقابلية للاستخفاف والطاعة/ وعلاقات التمركز والاستئثار/ وعلاقات الهيمنة والسيطرة) [49] فكلها أشكال من العلاقات لا تتفق ومقتضيـات "الاستخلاف" و "الاستعمار" كما لا تحقق معاني"خيرية الأمة" أو "شهودها" أو "فاعليتها الحضارية"، ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ) (آل عمران :110)، وهذا ما يؤكده الهدي النبوي، فقد روى النسائي وابن ماجه من حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: ( دخلت زينب بنت جحش، فسبتني ، فردعها النبي صلى الله عليه وسلم فأبت، فقال لي: [ ص: 88 ] سبيها، فسببتها حتى جف ريقها في فمها، فرأيت وجهه صلى الله عليه وسلم يتهلل ) [50] ، فالمسلم مطالب أبدا بأن يجاهد أية حركة في الحياة لا تتفق ومعايير العدل والإحسان والتراحم، ومحاولة إخضاع (الآخر) لها، تنميطا واستتباعا، أو تخريبا وتدليسا، أو استضعافا وطغيانا.

          والجهاد وفق هذا المنظور ليس نقضا لمبدأ "التعـارف" أو "التعايش" كما يصوره بعض الحانقين على الإسلام، بل بالعكس من ذلك فهو الضامن لتحقيق هذا "التعارف" و "التعايش" بين الناس!! فهو دفاع عن الأرض والقيم سواء بسواء، كما أنه عملية تصحيح وتغيير للعلاقات الظالمة الشائهة والطغيان الحضاري الذي تقوم به القوى الغاشمة ضد الأمم المستضعفة، وهو المعنى الذي توضحه مقولة ربعي بن عامر، رضي الله عنه: "إن الله ابتعثنا، والله جاء بنا؛ لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام" [51] ، فالجهاد وفق هذه الرؤية التي توضحها مقولة ربعي "حركة تقويمية تغييرية وتصحيحية، إنـها لا تقـف من عناصر أو حالات أو مواقف الظلم موقفا سلبيا، وإنما تعبر بذلك عن جملة من الفاعليات يمكن نظمها في العملية الجهادية، في إطار إعادة العلاقات إلى أصولها، وإلى عناصر حركتها الفاعلة؛ لبناء كيانية دولية، تقوم على قاعدة من العمران الشامل الحقيقي، بحيث يخرج عن حـد العمـران الزائف (عناصر الزخرف الحضاري) [ ص: 89 ] أو العمران الجزئي العنصري (الطغيان الحضاري) و (الاستئثار العمراني). الجهاد وفق هذا التصور تخلية بين الإنسان وحركة اختياراته" [52] .

          فالأمة الإسلامية المجاهدة لا تجاهد من أجل فرض عقيدتها على (الآخر)؛ فإن هذا مناف لمبدأ قرآني يمثل دستورا إسلاميا لا يمكن الاجتهاد معه، وهو قوله تعالى: ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ) (البقرة:256) ، بل تجاهد حماية لمبدأ "حرية الاختيار"، فإذا كنا نحرم على أنفسنا إكراه الناس على "الإيمان بالرشد"، فلا أقل من أن نجاهد من يكرههم على "الإيمان بالغي"، وعندما تتدخل أي إرادة بشرية محاولة فرض نمط واحد على الناس بالإكراه، فإن الإسلام يفرض على المسلم الجهاد؛ حماية لحق الناس في الاختيار، ومعاملتهم بالعدل والإحسان، فالأمة المجاهدة هي وحدها التي تملك أن تمنع الإكراه في الدين، وأن تمتنع عنه [53] ؛ ومن ثم قرر الهدي النبوي أن ( الجهاد ماض إلى يوم القيامة ) [54] ، إذ هو الضامن، ما بقيت الحياة، لتحقيق خلق الإنسانية في تعامل الأشخـاص والأمم بعضهم مع بعض، بما يحفظ للإنسان كيانه واستمراره، وقيامه بوظيفته، أو بمعنى أدق رسالته، وتفاعله الحضاري، قال تعالى: ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ) (البقرة:193) والفتنة، في أدق مدلولاتها [ ص: 90 ] ومفهوماتها: التدليس والتلبيس على الإنسان، و "إكراه الإنسان على ما لم يختره أو يقتنع به، ومنعه من حقه في الاختيار، وفي ذلك إعدام لإنسانيته. وإلغاء إنسانية الإنسان أشد وأخطر، من الناحية العملية والنفسية، من إعدام جسده وإنهاء حياته، يقول تعالى: ( والفتنة أكبر من القتل ) (البقرة:217)" [55] .

          كما قرر الهدي النبوي طبيعة هذا الجهاد، وأنه ينبغي أن يكون وفق مراد الله في أمره ونهيه، ووفق "الوظيفة الحضارية للأمة"، فعن أبي هريرة، رضي الله عنه: ( أن رجلا قـال: يا رسـول الله، الرجل يريـد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغى عرض الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أجر له؛ فأعظم الناس ذلك، وقالوا للرجل عد لرسول الله صلى الله عليه وسلم لعله لم يفهم، فعاد فقال: يا رسول الله الرجـل يريد الجهـاد في سبيـل الله وهو يبتغى عرض الدنيا، فقال رسول الله : صلى الله عليه وسلم لا أجر له؛ ثم عاد الثالثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أجر له ) [56] ، وفي الصحيحـين عن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، قال: ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) [57] ، فجملة "في سبيل الله" ضابط منهجي، وإطار قيمي [ ص: 91 ] فارق بين حركة الجهاد القائم على حفظ العمران، ورعاية المقاصد (حفظ: الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال)، ورفع الإصر والأغلال عن البشر جملة، وفق نظرة الإسلام للإنسان والكون والحياة، وبين حركة القتال من أجل العدوان والطغيان، أو خدمة أغراض دنيوية، أو إقامة علاقات الظلم والاستتباع الشائهة، أو محاولة حضارة ما فرض قيمها ونموذجها الحضاري على الآخرين، وفي ضوء من هذا يفهم حديث الإمام أحمد في مسنده، عن حذيفة، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال، محذرا أمته من مغبة الاعتداء، ومن مخاطر إحلال القوة قيمة، بدلا من البحث عن قوة القيمة وتفعيلها، فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن قوما كانوا أهل ضعف ومسكنة، قاتلهم أهل تحبر وعدد، فأظهر الله أهل الضعف عليهم، فعمدوا إلى عدوهم فاستعملوهم وسلطوهم، فأسخطوا الله عليهم إلى يوم يلقونه ) [58] ، قال الإمام ابن كثير: "ومعناه: أن هؤلاء الضعفاء لما قدروا على الأقوياء، فاعتدوا عليهم فاستعملوهم فيما لا يليق بهم (أي: استعبدوهم بعد أن مكنهم الله عليهم، واتخذوهم أدوات في تنفيذ أغراضهم غير المشروعة) أسخطوا لله عليهم بسبب هذا الاعتداء، فانقلب نصره لهم سخطا. والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدا" [59] .

          وبهذا يكون الجهاد في منظومة القيم الإسلامية، على خلاف الاعتقاد السائد، لا فضيلة شجاعة شأنه شأن القتال، وإنما فضيلة إحسان شأنه شأن [ ص: 92 ] الإيثار، وما ذاك إلا لأن جهادنا، حركة واختيارا، جهاد من أجل خير الإنسانية ونصرتها، لا من أجل خير الذات ونصرتها، وشتان بين النصرتين!! [60] ؛ إذ فيه قد يضحي المسلم بنفسه من أجل حفظ حق (الغير) في ممارسة اختياراته، وتهيئة المناخ لأصول العمران والاستخلاف؛ ومن ثم أحاطه الإسلام بمنظومة قيمية مصاحبة له، وحاكمة لحركته ابتداء وانتهاء، مثل:(جعله خيارا استثنائيا وضرورة تقدر بقدرها وتراعى في ظروفها ضمن دائرتي الحفظ والعمران/وتحريم العدوان والاعتداء/ وقطـع أسباب الاستعبـاد فهو وسيـلة تحريرية لا وسيلة استعباد أو استكراه/ وعدم استئصال شأفة الخصم أو تخريب كياناته وعناصر وجوده واستمراره/ والإبقاء على كل أصول استمرار العمران الحضاري) وغـير ذلك مما لا تجد له نظيرا في تاريخ البشر [61] ؛ إذ يجب إعمال قيمنا حتى في الحركة الحربية، مما يؤكد أننا لم "ننشر ديننا بالسيف، هذا سخف مبشرين، وعملاء قد تم غزوهم، ولقد مرت على البشرية فترة كان سيفنا وحده هو الذي يتكلم، ولو شئنا، لما بقي غير مسلم في الأرض الممتدة من فيينا إلى الفلبين، ولكننا نستطيع القول: إنه بحماية سيوفنا وحدها أمكن لشتى الأقليات أن تعيش وتستمر إلى اليوم، أليس جديرا بالملاحظة أن الأرض التي سادها الإسلام هي التي تعج اليوم بشتى التجمعات الدينية والمذهبية والقومية واللغوية؟!! بينما صفيت الأقليات بالسيف والدم في معظم البقاع التي سادتها الحضارات الأخرى، وفي مقدمتها [ ص: 93 ] الحضارة الغربية التي روجت هذا السخف عن طبيعة الجهاد في الإسلام... هؤلاء لم يتركوا شبرا في الكرة الأرضية إلا وصبوا عليه الدمار والخراب؛ من أجل أهداف توسعية واستغلالية وعنصرية" [62] .

          إن مفهوم "المجاهدة" إذن ، يتحرك ضمن منظومة قيمية منفتحة على قيم (العدل، والإحسان، والتراحم) فهناك صلة حميمة، في المنظور الإسلامي، بين مفهوم "المجاهدة" والعدل وإقامة العمران من جهة، وبينه وبين الإحسان والتراحم من جهة أخرى، إنه تحرك "استخلاف" يراعى به وفيه حق الغير وحق الذات جميعا، ومداد هذه المعاني كلها على قول الله عزوجل: ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) (العنكبوت:69) ، وهكذا فالعدل، والإحسان، والتراحم، ونصرة المستضعفين على الأرض حقائق تملأ ضمير الحضارة الإسلامية، وليست عناوين تفعل وتستثمر وفقا للمصلحة الخاصة، كما دأبت على ذلك هيئة الأمم المتحدة، وكل الهيئات الدولية عادة، وبذلك يكون المسلم وحده، القادر في أي مكان، وفي أي زمان، على إعادة دور عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، الذي انطلق مع إخوانه من جزيرة العرب؛ لنصرة المظلومين والمستضعفين في الأرض، ولتحرير الإنسان من استغلال أخيه الإنسان. وللوقوف ضد النـزعة العدوانية في الفطرة البشرية، واستمراء الظلم، وغمط الحق، والقسر والإسراع إلى القوة؛ ومن ثم كان الرد الجهادي الإيماني قدرا محتوما، وكتب الله أن يكون محركا أبديا من محركات [ ص: 94 ] الحياة، قال تعالى: ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) (الحج:40).

          فهذه المعايير التي تتحكم في التعامل مع (الغير)، وفق المنظور الإسلامي (العدل، والإحسان، والتراحم، والمجاهدة) تضبط العلاقة بين البشر، أفرادا وجماعات ودولا، بناظم هو منهج الله، فتجعلها علاقة أخوة وترابط، يحفها التوادد والتراحم (خلو الصـدور من الغـل، وطهـارة القلوب من الحقد) كما تؤسس لـما يمكن أن نسميه بـ"فقه التعارف" أو "التعامل مع الآخر" الذي يعتبر (الآخر) شريكا حضاريا، سواء أكان من أمة الاستجابة، المؤمن بالقيم الحضارية العقائدية للإسلام، أم كان من أمة الدعوة، محل طرح القيم وتفاعلها، ومحل الحوار والمناقشة والمثاقفة، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والمعاملة بالبر والقسط، وهو نموذج إسلام للتواصل، يتجاوز النموذج المعرفي القائم على مجرد "التسامح" الذي هو مفهوم يستبطن أن هذا (الآخر) في درجة أدنى ولكن أنا أتسامح معه! أما المبدأ الإسلامي "التعارف" ففيه الحاجة المتبادلة، والاحتياج المتبادل، مما يفسح المجال أمام التكميل والإثراء، عوض الصراع والتصادم، انطلاقا من مبدأ: "اعتبار البشرية أسرة واحدة ممتدة" و "أن الإنسان أخو الإنسان، أحب أم كره" [63] ، على مقتضى قوله تعالى: ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا [ ص: 95 ] كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ) (النساء:1) ، وقوله تعالى: ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) (الحجرات:13) ومقتضى هديه صلى الله عليه وسلم ، فقد كان من دعائه كل يوم: ( اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة ) [64] ، وعن أبي نضرة، قال: ( حدثني من سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق، فقال: يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى. أبلغت؟ قالوا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام، ثم قال: أي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام، ثم قال: أي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام. قال: فإن الله قد حرم بينكم دماءكم وأموالكم- قال ولا أدرى قال أو أعراضكم أم لا- كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. أبلغت؟ قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال: ليبلغ الشاهد الغائب ) [65] ؛ مما يجعل الواحد من أبناء الأمة الإسلامية لا هم له إلا الأدب مع من سواه، على مقتضى "المعروف" الذي هو الأصل في تخلق المسلم،كما أمره ربه.

          كما أن هذه المعايير (العدل، والإحسان، والتراحم، والمجاهدة) تقدم رؤية غير مسبوقة ولا ملحوقة، ومقدمات لحركة في التعامل الدولي لابد من مراعاتها، كما تؤصل عناصر حركة حضارية واعية، ونظرية عامة ضابطة للعلاقة بين الحضارات، بعيدا عن "وقاحة الاستنكار"، و "وقاحة الاستعلاء"، و "وقاحة [ ص: 96 ] الاجتثاث" التي انتهت إليها القيم الكونية المزعومة (التي تمثل عولمة الاستئثار والهيمنة) تحت دعوة إلى حوار زائف للحضارات، لا هم له إلا الهيمنة والسيطرة والطغيان، في ظل مقولات زائفة، من مثل: "نهاية التاريخ" و "صدام الحضارات" و "الشرعية الدولية" وضمن ما أسماه المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي بـ"هندسة الموافقة والقبول" أو "الموافقة بلا موافقة" [66] ، تبشيرا بالنظام العالمي الجـديد، الذي لا مراعاة فيه إلا لمصالح النمط الحضاري الغربي، والتمكين لامتداده وهيمنة لغته، والتحيز لمفاهيمه وقيمه في تحريك الحياة، وما يتبعه من نماذج ظالمة للعلاقة بين حضارته (الذات) والحضارات الأخرى (الآخر) مثل: (استعباد حضارات/ ونفي الحضارات واستئصالها/ وصدام الحضارات وعلاقات الاستئثار/ وتشكيل الحضارات بالهيمنة/ والتنميط والتهميش للحضارات/ وهندسة الموافقة وحضارة الإذعان/ وتطويع الحضارات وجعلها قابلة للتبعية والاستعمار والانصهار فيما بات يعرف بـ"المجموعة الدولية" [67] ، وفرض الرأي والكذب على الشعوب) [68] ، وهي نماذج كلها تدور حول المبدأ الخسيـس لسادة البشـرية الآن: "كل شيء لنا، [ ص: 97 ] ولا شيء للآخرين" [69] ، وهي تقتضي في ذلك بـ "النموذج الفرعوني"، الذي حدد معالم منهجه القرآن الكريم في قوله تعالى: ( قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) (غافر:29) كما حدد القرآن الكريم معالم أتباعه بقوله تعالى: ( فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين ) (الزخرف:54) ، ثم كانت العاقبة كما صورها القرآن الكريم في قوله تعالى: ( فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد * يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود * يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود ) (هود: 97-99).

          فـ"التزكية" إذن بمظهريها: "مراعاة حق النفس" و "مراعاة حق الغير" منهج إسلامي أصيل وفريد، وقيمة مركزية في "ترسيخ الذات الإنسانية" و "ضبط حركتها في الحياة" وفق منهج الله في أمره ونهيه، بعيدا عن "النموذج الفرعوني" إن تعاملا مع النفس (بالاتصاف بتمام التخلق، وتمام التعقل، وتمام التعبد) وإن تعاملا مع (الغير) (وفق معايير: العدل، والإحسان، والتراحم، والمجاهدة)؛ مما يجعل الأمة الإسلامية، وبحق، أمة القيم (التي تمثل عالمية الاستخلاف والتعارف، ووحدة الانتماء العالمي إلى الله)، كما يجعل العالم الإسلامي مدعوا بقوة إلى: تمكين النفوس التي انقادت للشرع أن تقود، وأن تسهم" بفاعلية في بناء النسق القيمي الحاكم والضابط للعلاقة بين الحضارات، صحيح أنه قد لا يستطيع، الآن، أن يسهم في البناء المادي (التقني) بقوة، إلا أن عليه أن يسهم برؤيته في تعارف الحضارات؛ ليرشد المسيرة الحضارية، هذا الإسهام أحد مستويات شهوده الحضاري، والذي يجب ألا نتخلى عنه، وإلا تخلى عنا" [70] . [ ص: 98 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية