الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          أولا: التزكية بمراعاة حق النفس:

          و "التزكية" هنا تقوم على الاجتهاد في تحصيل جملة من الأفعال تتحكم في حركة المسلم في الحياة، تؤدي إلى "تصفية النفس" و "ترقية الذات" و "ترسيخ علاقتها بالله" من خلال: "إخلاص العبودية" و "دوام المراقبة" له، وغير ذلك مما يعرف بـ"أصول مكارم الأخلاق" كما سماها الإمام الشاطبي، ثم قال: "ولم تزل هذه الأصول يندرس العمل بمقتضاها؛ لكثرة الاشتغال بالدنيا، [ ص: 60 ] والتفريع فيها، حتى صارت كالنسي المنسي، وصار طالب العمل بها كالغريب المقصي عن أهله، وهو داخل تحت معنى قوله صلى الله عليه وسلم [1] : ( بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء ) [2] .

          وهذه الأصول يمكن إجمالها في ثلاثة، هي:

          الأصل الأول: تمام التخلق، حيث الغاية في الالتزام بـ "تحسين الخلق مع الله" بأن تعلم أن كل ما يأتي منك يوجب عذرا، وأن كل ما يأتي منه، سبحانه، يوجب شكرا [3] ، و "تحسين الخلق مع الخلق" وذلك ببذل المعروف لهم، وكف الأذى عنهم، وهذا يقتضي: "أمن الخلق منك، ومحبة الخلق لك، ونجاة الخلق بك" [4] ، كما يقتضي أن يكون المسلم دائم السعي "في نفع نفسه، واستقامة حاله بنفع غيره" [5] .

          و "تمام التخلق" على مراتب [6] أعلاها: درجة "المروءة" التي تعني: القيام بأمر الله ونهيه، والتقرب إلى الله بأعلى الأخلاق وأشرفها، وجماع ذلك: "حفظ [ ص: 61 ] الدين، وصيانة النفس" [7] ، و "درجة الفتوة" ومعناها "أخلاق الإيثار"، وهي "أن يكون المرء أبدا في أمر غيره لله تعالى" [8] .

          الأصـل الثاني: تمام التعقـل، أو ما يعرف بـ"حياة العقل" [9] بمعنى: ألا يعقل العبد شيئا إلا وهو يعقله عن الله، وفق أمره ونهيه، فيكون عقله موافقا للشرع ومقاصده، مخالفا للهوى ومفاسده، وهو ما يعرف بـ"معقود العقل" فقد روى ابن أبي الدنيا، بسنـده عن ابن عمر، قـال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يعجبكم إسلام امرئ حتى تعرفوا معقود عقله ) [10] .

          فهناك فارق، في المنظور الإسلامي، بين عقل يعقل الأشياء عن نفسه، وعقل يعقلها عن ربه، فالثاني هو الذي يهتدي بالله، لا بهواه، إلى معرفة "المقاصد النافعة" واستخدام "الوسائل الناجعة"، يقول الإمام المناوي [11] : "دين المرء عقله، ومن لا عقل له لا دين له؛ لأن العقل هو الكاشف عن مقادير العبودية، ومحبوب الله ومكروهه، وهو الدليل على الرشد، والناهي عن الغي. وكلما كان حظ العبد من العقل أوفر فسلطان الدلالة فيه أبعد؛ فالعاقل من عقل عن الله أمره ونهيه فائتمر بما أمره وانـزجر عما نهاه [12] فتلك علامة [ ص: 62 ] العقل"، وهذا مقتضى ما جاء عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( يا عويمر ازدد عقلا تزدد من ربك قربا. قال: قلت بأبي أنت وأمي، وكيف لي بذلك؟ قال: اجتنب محارم الله، وأد فرائض الله تكن عاقلا، وتنفل بالصالحـات من الأعمال تزدد بها في عاجل الدنيا رفعة وكرامة، وتنل بها من ربك القرب والعزة ) [13] ، ولا ترى صاحب عقل متهاونا بالدين إلا "استثقالا لما تضمنه الدين من التكليف، واسترذالا لما جاء به الشرع من التعبد والتوقيف.. ولن ترى ذلك فيمن سلمت فطنته، وصحت رويته؛ لأن العقل يمنع من أن يكون الإنسان هملا أو سدى، يعتمدون على آرائهم المختلفة، وينقادون لأهوائهم المتشعبة لما تؤول إليه أمورهم من الاختلاف والتنازع، ويفضي إليه أحوالهم من التباين والتقاطع، فلم يستغنوا عن دين يتألفون به ويتفقون عليه. ثم العقل موجب له أو مانع ولو تصور هذا المختل التصور أن الدين ضرورة في العقل، وأن العقل في الدين أصل، لقصر عن التقصير، وأذعن للحق ولكن أهمل نفسه فضل وأضل" [14] .

          فالعقل الكامل هو ما كان مفضيا إلى القرب من الله، تدبرا، وهو ما كان من النظر متجها إلى إدراك الغايات والمآلات، واعتبارا، وهو ما كان من النظر محققا للعبور من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المقصدية، من أحكام النظر إلى أسرار العبر. ومتى ما وضعنا هذا في الاعتبار -الربط بين العقل والشرع- عرفنا أن العقل المرتبط بالله هو أتم عقل يمكن أن يمتلكه الإنسان، وبذلك يلزم أن [ ص: 63 ] تكون عقلانية الإسلام أسمى عقلانية ممكنة، كما يلزم أن يكون عقل المسلم أسمى عقل ممكن، متى اهتدى في حياته بهدي ربه [15] .

          الأصل الثالث: تمام التعبد، بمعنى: استحضار العبودية لله في كل شيء، والتدرج في منازل القرب من الحق سبحـانه، كما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله قال: ( من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه ) [16] ، فمن تمام التعبد أن يؤمن العبد بوجود الألوهية وراء كل شيء، و "يعلم" أن الحق يخاطبه في كل شيء، وأن هذه المخاطبة مستمرة استمرار الحياة، فحيثما توجه وجد ربه، مراعيا أمره ونهيه. ويوقن أن رؤية الله له لا تنقطع؛ ومن ثم فهو في كل أعماله مطالب بأن يراقب نفسه، ويراقب ربه، فلا يرى إلا الله سبحانه، ولا يعرف إلا هو، ولا يفر إلا إليه هو، ولا يحيا إلا متوجها إليه هو، فيصل إلى مرتبة "الإحسان" التي سئل عنها النبي صلى الله عليه وسلم فأجاب: ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) [17] .

          ويعين المتعبد على بلوغ تلك المرتبة "تمام التعبد" جملة من أعمال القلوب، أهمها: [ ص: 64 ]

          - الإخلاص، وهو "تصفية الفعل" بمعنى: إشهاد الله تعالى على كل فعل يأتي به العبد، وتجريده عن أن يشوبه باعث لغير الله؛ حتى يتولاه بالتسـديد، فلا يعرض له الباطل، ولا يدخل عليه الإحباط، وبه تصير أعمال العباد "كلها لله، وأقوالهم لله، وعطاؤهم لله، ومنعهم لله، وحبهم لله، وبغضهم لله، فمعاملتهم ظاهرا وباطنا لوجه الله وحده، لا يريدون بذلك من الناس جزاء ولا شكورا، ولا ابتغاء الجاه عندهم، ولا طلب المحمدة والمنـزلة في قلوبهم، ولا هربا من ذمهم، بل قد عدوا الناس بمنـزلة أصحاب القبور لا يملكون لهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا" [18] ، وهذا مقتضى قوله صلى الله عليه وسلم : ( من أعطى لله تعالى، ومنع لله تعالى، وأحب لله تعالى، وأبغض لله تعالى، وأنكح لله تعالى، فقد استكمل إيمانه ) [19] ، وهذا المفهوم من شأنه أن يخرج كل حركات الإنسان من دائرة العبث إلى دائرة المعنى، ومن اعتبار الشكل إلى اعتبار المضمون، ومن النظر في الأحوال إلى استشراف المآلات، كما جاء في حديث أبي أمامة الباهلي، رضي الله عنه قال: ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ماله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شيء له، فأعادها ثلاث مرات يقـول له رسـول الله صلى الله عليه وسلم لا شيء له، ثم قال: إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغي به وجهه ) [20] . [ ص: 65 ]

          - الحياء، هو ضد "الوقاحة" والمراد به: عقل النفس عن الرذيلة، فهو المبدأ الأخلاقي الأبرز، والمقوم الأول، الذي يحفظ علاقات الإنسان في تعامله مع (الآخر) والحقيقة أنه ليس في مكارم الأخلاق خلق يجمع بين "جلب الإيمان بالله" و "درء وصف الوقاحة" في كل حركات الإنسان، وسعيه في الحياة، مثلما يجمعها خلق "الحياء"؛ وإذا كان "الوقح" يشعر بأنه استوفى (الغير) حقه، وهو لم يوفه شيئا، فإن "الحيي" على العكس من ذلك، يشعر بأنه قصر في حق (الغير)، وإن وفاه حقه؛ ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الحياء والإيمان قرنا جميعا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر ) [21] ، ويقول: ( إن لكل دين خلقا، وخلق الإسلام الحياء ) [22] ، ويقول الإمام الراغب: "الحياء أول ما يظهر في الإنسان من أمارة العقل، والإيمان آخر مرتبة العقل، ومحال حصول آخر مرتبة العقل لمن لم يحصل له المرتبـة الأولى، فبالواجب إذا كان من لا حيـاء له، فلا إيمان له" [23] ، وإنما كان للحياء تلك المنـزلة في منظومة القيم الإسلامية؛ لأنه هو المانع من اقتراف القبائح، والاشتغال بمنهيات الشرع، ومستهجنات العقل، قال الإمام المناوي: "الحياء هو الدين كله؛ لأن مبدأه ومنتهاه يفضيان إلى ترك القبيح، وترك القبيح خير لا محالة، فكان لا يأتي إلا بخير، ولأن من استحيا من الخلق قل شره وكثر خيره وغلب عليه السخاء والسماح الموصلان [ ص: 66 ] إلى ديار الأفراح، وأشفق أن يرى أحد في دينه خللا أو في عمله زللا فمن ثم كان فيه كمال الدين... الحياء خير كله؛ لأن مبدأه انكسار يلحق الإنسان مخافة نسبته إلى القبيح، ونهايته ترك القبيح، وكلاهما خير. ومن ثمراته مشهد النعمة والإحسان؛ فإن الكريم لا يقابل بالإساءة من أحسن إليه وإنما يفعله اللئيم، فيمنعه مشهد إحسانه إليه ونعمته عليه من عصيانه حياء منه أن يكون خيره وإنعامه نازلا عليه ومخالفته صاعدة إليه، فملك ينـزل بهذا وملك يعرج بهذا فأقبح به من مقابلة" [24] .

          وهذا المفهوم من شأنه أن يضبط حركة العبد؛ لأن "الحياء" فيه "سداد العقل"؛ إذ إنه يعقل النفس عن كل رذيلة، كما أن فيه "دوام الحياة" فالحياء، كما يقول ابن القيم، "من الحياة ومنه الحيا للمطر، وعلى حسب حياة القلب يكون فيه قوة خلق الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح، فكلما كان القلب أحيى كان الحياء أتم" [25] ، وفيه كذلك "السلامة من الآفات" إذ الحياء من الذات يمنع من آفة الشعور بالتفوق، والحياء من الغير يمنع من آفة الشعور بالاغترار، والحياء من الله يمنع من آفة الشعور بالعظمة [26] .

          - الورع، وهو البعد عن الآثام ظاهرا وباطنا [27] وقطع مألوفات النفس، وصدها عن هواها خاصة [28] ، ففي حديث أبي ذر، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 67 ] قال: ( لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق ) [29] ، كما قال صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة، رضي الله عنه: ( يا أبا هريرة، كن ورعا تكن أعبد الناس، وكن قنعا تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلما، وأقل الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب ) [30] ، وإنما كان في "الورع" تمام التعبد؛ لأنه يتطلب "تزكية القلوب" و "تصحيح النوايا" و "تعميق الحساسية الإيمانية" و "الأخذ بالعزيمة" و "الاحتياط من الشبهات" و "اعتماد مبدأ محاسبة الذات" الذي يقوم على: مراقبة الأفعال، ورد الحق إلى أهله، وإصلاح الضرر، والتوبة النصوح، والصدق مع الآخرين. وأن "يخرج العبد من طلب حظوظ السيادة على الكون إلى أداء حقوق العبودية لسيد الكون". ولا شك أن من يربى على ذلك فإن سيطرته على "حركة الحياة" تكون وشيكة.

          - الصبر، هو: حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع، أو عما يقتضيان حبسها عنه [31] ، وهذا معناه: مقاومة العوائق، وتحمل مشاق التزكية، ومجاهدة الأهواء، بالصبر على أوامر الله وعن نواهيه؛ وإذا علم أن "قصد الشارع من وضع الشرائع إخراج النفوس عن أهوائها وعوائدها" [32] فلا مقام يعين على ذلك إلا مقام "الصبر" فهو الذي يحفظ على العبد استدامة ذلك، [ ص: 68 ] ويحمله على الاحتمال، فيصبر على أفعال الخير والصالحات حتى يزداد إقبالا عليها، كما يصبر عن أفعال الشر والمخالفات حتى يزداد إدبارا عنها؛ ومن ثم كان هو أصل المجاهدة، وعمود تزكية النفس، وكل مقام من مقاماتها لا يتحقق من دونه [33] ، ( والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) (العصر: 1-3)، ولهذا يقـول رسـول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر ) [34] ، إذ من خلاله لا يثبت الإنسان على إتيان المأمورات وترك المنهيات فحسب، بل أيضا، يثبت على ما ينـزل به من مصائب وشدائد، ناظرا إليها على أنها بلاء من الله ليختبر قوة إيمانه، ويعلم صدق جهاده، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) [35] .

          - التقوى، وهي جعـل النفس في وقاية من عذاب الله، وذلك بإحكام ما بين الإنسان والخلق، وإحكام ما بين الإنسان وخالقه [36] ، وهذا معنى قلبي [ ص: 69 ] ينشأ عن طاعة الله ائتمارا فتكون واعظا، وعن طاعته انتهاء فتكون زاجرا، وأدنى درجاتها: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وسخطه وغضبه وقاية، فلا تلقي بنفسك في ذل الشهوة، وأعلى درجاتها: التبري من كل شيء سوى الله تعالى، وذلك بمراقبة الله، ومحاسبة النفس، وإحسان المرء ما بينه وبين الله، وما بينه وبين الموجودات. وهي بهذا المفهوم، ملاك الأمر كله، وأصل الأصول؛ لأنها عنوان تمتع الشخص بقيم التزكية، وإرادة تمتيع غيره بها، كما أنها المنطق الأخلاقي الذي يؤطر حركة المسلم في الحياة، ولا يمكن التفاوض بشأنها، ( إنما يتقبل الله من المتقين ) (المائدة:27) ، وهي مناط التفاضل بين البشر، ومعياره الوحيد، ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) (الحجرات:13) ، وهي زاد المسلم في تحريكه للحياة، ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب ) (البقرة: 197)، ومن ثم كانت وصية الله للأولين والآخرين ( ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا ) (النساء:131) ، كما كانت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين أجمعين، فعن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه: ( أن رجلا جاءه، فقال: أوصني. فقال: سألت عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبلك، فقال: أوصيك بتقوى الله؛ فإنه [ ص: 70 ] رأس كل شيء، وعليك بالجهاد؛ فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن؛ فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض ) [37] ، وهو ما جاء أيضا في وصيته صلى الله عليه وسلم للصحابي الجليل أبي ذر: ( اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن ) [38] .

          فهذه الأصول الثلاثة: "تمام التخلق" و "تمام التعقل" و "تمام التعبد" تمثل أصول مكارم الأخلاق، وهي دقائق وأصول لأعمال القلوب، أو كما يقول الإمام ابن القيم: "فهذه الأركان الثلاثة هي أركان السير وأصول الطريق، التي من لم يبن عليها سلوكه وسيره فهو مقطوع، وإن ظن أنه سائر، فسيره إما إلى عكس جهة مقصوده، وإما سير المقعد والمقيد، وإما سير صاحب الدابة الجموح كلما مشت خطوة إلى قدام رجعت عشرة إلى خلف؛ فإن عدم الإخلاص والمتابعة انعكس سيره إلى خلف، وإن لم يبذل جهده ويوحد طلبه سار سير المقيد، وإن اجتمعت له الثلاثة فذلك الذي لا يجارى في مضمار سيره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" [39] .

          فمن خلال هذه الأصول الثلاثة يتم تزكية الإنسان الخليفة، الذي يستطيع أن يحقق مفهوم "الاستخلاف" ويستعمر الأرض وفق منهج الله في أمره ونهيه، [ ص: 71 ] ويحرك الحياة على مقتضى "التخلق الرباني" بحيث تسري الحياة الخلقية سريانا في كل ذرة من ذرات بدنه، وكل معنى من معاني روحه، وقد وجد هذا الإنسان في عصور الإسلام الأولى، وسيوجد في أي عصر، إذا ما أعد الإنسان إعدادا وفق هذا المنهاج في التزكية، حيث يكون العبد في كل أحواله "ربانيا" [40] مشتغلا بالله، مدركا أن كل اشتغال بغيره ينبغي أن يذكره بالله دائما وأبدا، متعاملا فيه فلا يبقى جانب من جوانب حياة المسلم خارجا عن مراعاة حق الله فيه، مع دوام الافتقار إليه، حتى يصير العمل الشرعي وصفا راسخا لا ينفك عن مجموعة حركاته، قولا أو فعلا، إشارة أوحالا، فيسير في "تحريك الحياة" دائرا بين "تلقي الخطاب" من الله في كل شؤون حياته، و "تحمل الرؤية" من الله في كل حركاته، فتكون صلة الإنسان بربه ناظما لصلاته الأخرى كافة، وهو مقتضى قوله تعالى: ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) (الأنعام:162 )، فيحصل له "أنس" يمده بقوة تتغذى بها روحه، ويجد للعمل بسببه حلاوة تستحثه على مزيد من التقرب، و "سكينة" تمكنه من آداب التعامل مع النفس فيراجعها، ومع الغير فيسالمه، ومع الشرع فيرتاح لخدمته، ومع الكون فيتفاعل معه، فيتحقق له "الصلاح" في الحال، و "الفلاح" في المآل. [ ص: 72 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية