الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          أبعاد الاستعمار بمفهومه الإسلامي

          أولا: البعد الإيماني والإنجاز الحضاري في الكون:

          المسلم في سعيه الحضاري لتعمير الحياة، واستثمار مواردها، ينطلق من إيمانه بالله تعالى، الذي سخر له كل ما في الكون من موارد، وأمره باستثمارها؛ سعيا لعبادته، وتحقيقا لخلافته، وطلبا لثوابه ورضاه، ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له به صدقة ) [1] ، قال العلامة ابن حجر: "وفي رواية لمسلم ( إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة ) ومقتضاه: أن أجر ذلك يستـمر ما دام الغرس أو الزرع مـأكولا منه، ولو مات زارعه أو غارسه، ولو انتقل ملكه إلى غيره.. قال الطيبي: نكر مسلما، وأوقعه في سياق النفي، وزاد من الاستغراقية، وعم الحيوان؛ ليدل، على سبيل الكناية، على أن أي مسلم كان حرا أو عبدا، مطيعا أو عاصيا، يعمل أي عمـل من المباح، ينتفع بما عمله أي حيوان كان، يرجع نفعه إليه ويثاب عليه" [2] .

          ففي هذا الحديث لمسة حضارية رائعة جاء بها الإسلام في فهم معنى الاستعمار الإيماني للأرض، والدور البشري في ذلك، فاللمسة الحضارية هنا لمستان:النظر الرفيق إلى الحيوان والطير، والنظر التشجيعي إلى كل مسلم إلى السعي والتعمير في الأرض علما واستنفاعا؛ ابتغاء الثواب والأجر، حتى ولو كان فاسقا، تبعا للتعميم والإطلاق كما شرح الطيبي، بل "وفيه حصول الأجر للغارس [ ص: 113 ] والزارع، وإن لم يقصدا ذلك حتى لو غرس وباعه أو زرع وباعه كان له بذلك صدقة؛ لتوسعته على الناس.. وفيه الحض على عمارة الأرض لنفسه ولمن يأتي بعده" تبعا للتعميم والإطلاق كما شرح العيني [3] .

          فانطلاق المسلم في تعمير الأرض من الإيمان بالله، هو معيـار تقيم على أساسـه استقـامة حركته في الحياة أو انحرافها، وهذا المعيـار يعطي العبد في سعيه الحضاري:

          - قوة دفع في "تحريك الحياة" ويمنحه قـدرات فوق قـدراته المعهودة؛ إذ يسير في إنجـازه الحضاري مقترنا بإمـداد الرب وتوفيقـه، فيبتعـد عن الظن أو الوهم، بل يدرك الأشيـاء على حقـائقها، ويفقه منافعهـا (دفع البصيرة) كما جاء في الحديث: ( وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه ) [4] .

          - كما يمنحه الإيمان بالله وتقواه للذي يملك الحياة والأحياء، بقاء وامتدادا لأعماله في الزمان وفي المكان (البركة) قال تعالى: ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ) (الأعراف:96 )، فهده الآية الكريمة توقفنا على مفتاح التوفيق الإلهي، وتقرر أصلا من أصول التصور الإسلامي للاستعمار الإيماني للأرض، وهو: أن الإيمان والتقوى وتحقيق منهج الله في واقع الحياة البشرية في هذه [ ص: 114 ] الدنيا، لا يكفل لأصحابه جزاء الآخرة وحده، وإن كان هو المقدم وهو الأدوم، ولكنه كذلك يكفل إصلاح أمر الدنيا [5] .

          - كما يمنحه الإيمان بالله السعادة والطمأنينة، فيسـير في تحريكه الحياة وهو لا يشوبه قلق، ولا يحيط به اكتئاب، ولا يملؤه عبث ولا اضطراب، مهما أصابته شدة، أو وقفت في وجهه العوائق؛ إذ يعلم علم يقين أن كل ما في الكون إنما هو بتقدير حكيم رحيم، وأن أي شيء من منغصات الحياة إنما هو ابتلاء من خالقه، أيصبر أم يكفر؟ فلا يخشى فقرا، ولا يخاف موتا، ولا يضعف عند مرض، إذ هو دائما وأبدا لاجئ إلى ربه، فيطمئن قلبه وتهدأ حركته، ويحسن سعيه، ويحصل له "أنس" يمده بقوة تتغذى بها روحه، فكل ما حوله صديق، إذ كل ما حوله من صنع الله الذي هو في حماه، و "سكينة" تمكنه من آداب السعي في الأرض وتعميرها، قال تعالى: ( الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) (الرعد: 28)، أي: "تطمئن بإحساسها بالصلة بالله، والأنس بجواره، والأمن في جانبه وفي حماه. تطمئن من قلق الوحدة، وحيرة الطريق، بإدراك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير، وتطمئن بالشعور بالحماية من كل اعتداء ومن كل ضر ومن كل شر إلا بما يشاء، مع الرضا بالابتلاء والصبر على البلاء. وتطمئن برحمته في الهداية والرزق والستر في الدنيا والآخرة... ليس أشقى ممن ينطلق في هذه الأرض مبتوت الصلة بما حوله في الكون؛ لأنه انفصم من العروة الوثقى التي تربطه بما حوله في الله خالق الكون، ليس أشقـى ممن يعيش لا يدري: لم جاء؟ ولم يذهب؟ ولم يعاني ما يعاني في الحياة؟ ليس أشقى ممن يسير في الأرض يوجس من كل شيء خيفة؛ لأنه لا يستشعر الصلة الخفية بينه وبين كل شيء في هذا الوجود، [ ص: 115 ] ليس أشقى في الحياة ممن يشق طريقه فريدا وحيدا شاردا في فلاة، عليه أن يكافح وحده بلا ناصر ولا هاد ولا معين. وإن هناك للحظات في الحياة لا يصمد لها بشر إلا أن يكون مرتكنا إلى الله، مطمئنا إلى حماه، مهما أوتي من القوة والثبات والصـلابة والاعتداد.. ففي الحياة لحظات تعصف بهـذا كله، فـلا يصمد لها إلا المطمئنون بالله" [6] .

          - وفي الوقت نفسه يصبح هذا الإيمان بالله ضمانا لعدم تحول هذه الطاقة من طاقة بناء إلى طاقة استغلال، وكفر بالله، وأداة من أدوات التنافس المحموم على نهب موارد الأرض، وتدمير مقدراتها، والتفرد بالتمتع بخيراتها، واستعباد الخلق (ضوابط التمكين) قال تعالى: ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) (الحج:41) ، فكل حركة في الحياة تأتي بعيدا عن الإيمان بالله، هي أساس كل انحراف. وحمل هموم الدنيا، بعيدا عن أطر الوحي يؤدي، في النهاية، إلى التخلي عن دور الخلافة الرشيدة على الأرض، والبعد عن القيم المعصومة، التي توجه المسيرة، وتحدد الهدف، وتشد الإنسان إلى السماء، كما نلاحظ ذلك جيدا في النموذج الاستعماري الغربي المنقطع عن هدي السماء، وأخلاقياته في تحريك الحياة.

          وهكذا يأتي "البعد الإيماني" في السعي الحضاري، لا لكي يمنح حركة المسلم في تعمير الحياة البقاء والامتداد، ويحميها من التفكك والتبعثر والانهيار، فحسب، بل يمنح سعيه أيضا ضمانا من التطاول والاستعلاء، واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وفقا لسنة الله في الحياة: ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ) (القصص:83). [ ص: 116 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية