الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          ثانيا: مفهوم الحضارة:

          أما مفهوم "الحضارة" في بنيته المعجمية العربية، فهو من مادة: "حضر"، وبالرجوع إلى هذه المادة، نجدها تتعلق بعدة معان، أرجعها ابن فارس كلها إلى أصل واحد، وهو: "شهود الشيء، وإيراده، ومشاهدته" [1] ، وهو الأصل المستخدم في كل آيات القرآن الكريم للجذر حضر، كما في قوله تعالى: ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ) (البقرة:180) ، وقوله تعالى: [ ص: 20 ] ( وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين ... ) (النساء: 8)، وقـولـه تعـالى: ( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا ) (آل عمران :30)، أي: مشاهدا لديها، مكشوفا عندها. وعلى هذا أصل الباب [2] : فيقال: حضر يحضر حضورا وحضارة، من الحضور، أي: المشاهدة، ضد المغيب والغيبة، والحاضر: هو الشاهد، خلاف البادي، أي: الغائب، والحضارة: شهود الحضر، والإقامة فيه، والحضارة: خلاف البداوة، سميت بذلك؛ لأن أهلها حضروا الأمصار ، ومساكن الديار التي يكون لهم بها قرار.

          و "الحضـارة" بهذا الاعتبار -أي: اشتقـاقها من مطلق الحضور- تطـلق، ويراد بها: كل حضور في الواقع، رام "تحريك الحياة" بكل أبعادها وامتداداتها، وعيا وسعيا، من خلال تحيزاته وأنساقه المعرفية (مصطلحاته ومفاهيمه النابعة من رؤيته للإنسان وعلاقته بالكون وعالم الأشياء من حوله) ثم سعى إلى تقديم هذا الحضور، بأنساقه وتحيزاته، على أنه نموذج قياسي للبشرية كلها، وبمعنى آخر، إن الحضارة هي: كل حضور يحرك الواقع نحو معياره، بكل تحيزاته وأنساقه المعرفية، كما يحرك المعيار ليؤصل التزام الواقع به [3] . [ ص: 21 ]

          وبهذا يصبح مفهوم "الحضارة" معنى حياديا [4] ؛ إذ يطلق على كل حضور في الحياة كانت هذه صفاته؛ ومن ثم يصبح لكل حضارة تعريفها الخاص بها، بناء على نموذجها المعرفي الكامن فيها، وقيمها التي أبدعتها، ومذاقها الخاص الذي يميزها، وبهذا، أيضا، يتبين أن ما يميز أية حضارة، ليس هو جملة المعارف والصنائع التي تحدثها، في أثناء تحريكها الحياة، بقدر ما هو جملة المعايير والموازين "القيم" التي تحيط بهذه المعارف والصنائع، وتوجهها، ومن هذا التمايز في "القيم" يأتي "التدافع الحضاري" الذي به تستمر الحياة، وتدوم فاعليتها، كما قال تعالى: ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ... ) (البقرة:251).

          ووفقا لهذا الأصل، نستطيع أن نعرف الحضارة الإسلامية، بأنها: "كل حضور، يسعى إلى "تحريك الحياة" وفق رؤية الإسلام للإنسان والكون والحياة، ومقاصده في "تحريك الحياة"، ومن خلال نموذجه المعرفي الخاص به، والقائم على: وصل الإنسان بربه، وكذلك وصل الإنسان بأخيه الإنسان، ثم الاستقامة في التعامل مع مفردات الكون، انتفاعا واستثمارا وائتمانا" [5] . [ ص: 22 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية