الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          ثانيا البعد الغائي:

          وهو البعد الثاني من أبعاد الاستعمار الإيماني للأرض، وفق المنظور الإسلامي في "تحريك الحياة"، فقد تقدم أن خلافة الإنسان في الأرض ليست خلافة مطلقة، بل هي "خلافة اقتدائية" أساسها: الإيمان بالله تعالى، وغاياتها: تحقيق "مقصد العبادة في الأرض" وفق مراد الله وحده في أمره ونهيه، وقد اقترنت هذه الغاية بالإنسان منذ لحظة الخلق الأولى ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (الذاريات:56) ، فهي تجعل الله هدفا للمسيرة، وغاية للتحرك الحضاري الصالح على الأرض؛ وهذا يقتضي أن يكون المسلم في سعيه الحضاري لقيادة الكون، وإعماره اجتماعيا وطبيعيا، محكوما بقيم (الاستخلاف الإلهي) التي تؤطر الإنسان بفلسفة تكريم كلية مستوعبة، والكون والطبيعة بفلسفة تسخير وإعمار لخير الإنسانية، بحيث يستطيع الإنسان أن يتجاوز الماديات، للارتقاء إلى ربط كل المفاهيم بالقيم المطلقة التي حددها الشرع، وطلب الالتزام بها.

          وهذا معناه أن الاستعمار الإيماني في الأرض، يتجه وفق غايات مناقضة تماما لتلك الغايات المنقطعة عن الله عز وجل، فلا تقف غايات الاستعمار الإيماني في الأرض عند "إطار الدنيا" فقط، كما في الفلسفة المادية التي تقوم في مجملها على انتفاء الغائية في الوجود بأكمله، بل هي في عمومها تقوم على اعتبار أن هذه الحياة الدنيا غاية في ذاتها، لا يمتد منها أثر إلى ما وراءها، بل هي عند بعضهم عبثية في وجودها وفي سيرورتها!! مما أدى إلى "إطلاق العنان للعقل التقني" منفصلا عن أية قيمة أو غائية، وبعيدا عن أي قيد أخلاقي يمكن محاكمته إليه، كما أدى إلى "التطرف في الشهوانية" و "فقدان التوازن في التعامل مع الأشياء"، بدءا من المحيط/المجال الصغير، بأزهاره وثماره، وانتهاء إلى الكون/الفضاء الكبير، ببحاره [ ص: 117 ] وأفلاكه وطبيعته وكل شيء فيه، وهو ما أدى في النهاية إلى ما يمكن أن يطلق عليه: "التخلف الكوني" [1] ، الذي يعد نتيجة أساسية، وإفرازا طبيعيا لمنظومة "القيم الحداثية" المنقطعة عن الغيب، وقيم الوحي المعصومة.

          أما غايات الاستعمار في الأرض، في المنظومة الإسلامية، فهي غايات مشروطة بمراعاة الآخرة، محكومة بقيم تمثل ضابطا ومنظما لكل سعي للإنسان في تحريك الحياة، بحيث يكون العبد في تعميره الدنيا، وتحريكه للحياة فيها، ناظرا إلى الآخرة ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ) (القصص:77) ، فـ"ابتغاء الآخرة" هو المحرك الدائم لفاعليات الإنسان المسلم، في سياق المسؤولية والأمانة والاستخلاف العمراني في الكون، فهي حركة يلتقي فيها طريق الدنيا وطريق الآخرة، ويكون فيها الطريق إلى صلاح الآخرة هو ذاته الطريق إلى صلاح الدنيا، ويكون الإنتاج والنماء والوفرة في عمل الأرض هو ذاته المؤهل لنيل ثواب الآخرة، فينطلق في حركته من أسر المادة، ويرتفع عن حضيض الحياة الدنيا إلى الحياة العليا [2] ؛ "إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة" [3] . [ ص: 118 ]

          كما أنها غايات لا تقتصر على إشباع حاجات الإنسان المادية، من طعام وشراب ومسكن وجنس، باعتبارها هي كل مطالب الإنسان الأسـاسية، وليس ما وراءها من مطالب العقل والروح إلا مطالب ثانوية!! بل غايات الاستعمار الإيماني في الأرض تنظر إلى مطالب العقل والروح على أنها مطالب لا يجوز إغفالها، أو إنتاج ما يؤدي إلى تدميرها، فهي أساسية للإنسان كالطعام والشراب والمسكن والجنس، فكلها ضروريات لصلاح الإنسان في الدنيا والآخرة جميعا، بل هي أعلى منها في الاعتبار؛ لأنها هي المطالب الزائدة في الإنسان على الحيوان، أي: المطالب المتعلقة بخصائصه التي تقرر إنسانيته، والتي بإهدارها لا يعد الإنسان من الأنام بل من الأنعام!! فالاستعمار الإيماني في الأرض لا يفرق بين المادي والروحي، حيث المادي مستبطن بالروحي ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) (الأنعام:162).

          وهذا البعد الغائي للاستعمار الإيماني في الأرض، القائم على التواصل الحميمي بـين "حق الدنيا" و "حق الآخرة" وإشبـاع "متطلبات الروح" كما تشبع "متطلبات المادة" يستوجب، في السعي الحضاري الإسلامي، قراءة مدخل"سد الذرائع وفتحها" [4] ؛ لأنه يقوم على اعتبار الحكم (المقاصد) والمآلات (الغايات) في الأعمال ومسيرتها وتتابعاتها، أي: النظر في المقصود والغاية من كل حركة، فهو ضابط منهجي يعطينا القدرة على رؤية عمق العلاقات بين الحركات [ ص: 119 ] ومآلاتها، كما يعطينا القدرة على كشف كل حركة عبثية في الحياة لا تتفق وهذا البعد الغائي، فترفض أية حركة في الحياة تركز على الدنيا فحسب، وتجعلها المقصود الوحيد أو الأسمى، كما ترفض أية حركة تركز على إشباع الحاجيات المادية فحسب، ولا تحاول أن تجمع بين متطلبات المادة ومقتضيات الروح، وبمعنى آخر: يرفض أي سعي في "تحريك الحياة" يكون مقصوده السيطرة على الكون، وإشباع الشهوات، وهزيمة الطبيعة، وتسخير مواردها، وتحقيق هيمنة الإنسـان الكاملة عليها، فحسب، بعيدا عن أية غائية إنسـانية، فلا يرتبط بقـاعدة الحكمة (لماذا)، ولا بقاعدة المآل (وماذا بعد).

          إن البعد الغـائي للاستعمـار الإيماني للأرض من أصـوله، إذن، الجمع، في كل سعي، بين الدنيا والآخرة، بين حاجيات المادة ومقتضيات الروح، في سياق تتكامل فيه الرؤى، فيربط بين مقاصد الأشيـاء والقيم المتحـكمة فيها، من جهة، وبين الحركة في الـكون، استخـلافا وتعميرا وإصلاحا، ومآلاتها من جهـة أخرى، أي: أنه استعمار يمارس كافة أوجه الحياة الدنيا من منظور أخروي، أو بعبارة أدق: منظور ممتد، يصل ما بين الحياة الدنيا والآخرة، وهذا يترتب عليه أمران:

          أ- تحقيق التوازن وإقامة العدل في الأرض؛ فالذي ينطلق في تحريك الحياة، استخلافا واستعمارا، وفق منهج الله في أمره ونهيه، وتنفيذا لمراده فيها، وإجراء لأحكامه عليها، ومن مبدأ أن لحياته غاية، ولوجوده معنى مستقبلي، يتجاوز به لحظته الراهنة إلى أمد مقبل، مدركا أن النعيم المقيم في آخرته مرتبط بما يقدمه من أعمال في الدنيا، الذي ينطلق من ذلك كله تتوازن فيه عناصر المادة مع عناصر الروح، فيعمل لترقية الروح ورفعها، في الوقت الذي يعمل فيه على حفظ الحياة [ ص: 120 ] وامتدادها، كما يتوازن فيه عنصر العقل مع عنصر الأحاسيس والعواطف، فينطلق في عالم الأشواق وعالم النوازع بلا تفريط ولا إفراط، كما يتوازن فيه البعد الفردي مع البعد الجماعي، في قصد وتناسق واعتدال، وهذا كله يدفع إلى التوازن في النمو، والإعمار، واستغلال مسخرات الله في الكون، فلا يعتبر معدلات "الاستهلاك" هي النقطة المرجعية التي يستخدمها في الحكم على الأمور وفق المفهوم المادي الغربي السائد للتقدم حيث مبدأ: "ندرة الموارد ولا نهائية الحاجات"، بل مرجعيته هي مقدار تحقيقه لقيم الإسلام التي تقوم على التوازن في كل شيء، وإقامة العدل بتحقيق التوازن بين كل الأجيال حيث مبدأ: "لا نهائية الموارد وضبط الحاجات"، فلا يسعى جيل بعينه للتمتع والاستفادة، أو الاستئثار بكل طاقات الكون، على حساب آخر، بل يقوم كل جيل بمزيد من الواجبات التي تحفظ حياة الجيل الآخر، وفقا لمفهوم "الأمة" الذي جعله الله رباطا جامعا لعموم المسلمين، على امتداد الزمان والمكان، ومؤصلا لعناصر الحركة الواعية في الحضارة الإسلامية ( وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ) (المؤمنون:52) ، فليس الوجود الجماعي داخل الأمة تكتلا من أجل تحصيل مزيد من الحقوق، إنما تجمعا من أجل القيام بمزيد من الواجبات، والاتصاف بقيم التزكية، فيكون ارتباط الواحد بأبناء أمته، ممن يعاصره أو ممن يأتي بعده، ارتباط تراحم وإحسان [5] !! وهذا بخلاف من يعيش لحظته، منقطعا عن آخرته، فيكون [ ص: 121 ] همه في تحقيق مطالب يومه، وإشباع غرائزه، فيفقد أية دوافع تدفعه للتوازن في التعامل مع نفسه، أو مع الأشياء، كما هي حركة الحياة الآن [6] .

          ب- تحقيق الحياة الطيبة؛ إذ لا شك في أن الاستعمار الإيماني للأرض، بهذه الغائية، يؤدي في النهاية، إلى "الحياة الطيبة" التي يهبها الله لمن كان مستهديا بهديه، يقول تعالى: ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) (النحل:97) ، و "الحياة الطيبة" لا تعني: "مجتمعات الاستهلاك" أو "مجتمعات إنتاج الوفرة" أو "مجتمعات تجاوز الحاجات" كما في المنظور المادي، بل هي، في المنظور الإسلامي، حالة من السرور، والكمال يشعر بها الفرد في حياته اليومية، نتيجة استمتاعه بخـيرات الحياة عـلى الدوام، فلا حـيرة ولا قلق، ولا شرود ولا ضلال، وذلك من خلال حركة حضارية تقوم على: "نفع العلم" و "كمال العقل" و "سعادة الأبد" و "التحكم في أهواء الذات وإصلاح أحوالها" و "التوازن في الانتفاع بالأشياء" و "النظر في الأفعال بعين من يتعظ بأحوالها وأطوارها، ويأخذ العبرة من مآلاتها".

          يقول الإمام ابن القيم: و "الحياة الطيبة" هي "حياة القلب ونعيمه، وبهجته وسروره، بالإيمان، ومعرفة الله، ومحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه؛ فإنه لا حياة [ ص: 122 ] أطيب من حياة صاحبها، ولا نعيم فوق نعيمه إلا نعيم الجنة، كما كان بعض العارفين يقول: إنه لتمر بي أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب. وقال غـيره: إنه ليمر بالقلب أوقات يرقص فيها طربا. وإذا كانت حياة القلب حياة طيبة تبعته حياة الجوارح؛ فإنه ملكها، ولهذا جعل الله "المعيشة الضنك" لمن أعرض عن ذكره، وهي عكس "الحياة الطيبة" [7] .

          فـ الحياة الطيبة "هذا المفهوم مرتبطة بغائية الإيمان بالله، وتحريك الحياة وفق منهجه في أمره ونهيه، وهي غاية الاستعمار الإيماني في الأرض، إذ فيها الاتصال بالله والثقة به، والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه، كما أن فيها الصحة والهدوء والرضا والبركة، وسكن البيوت ومودات القلوب، وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الضمير وآثاره في الحياة؛ ففي الوقت الذي تقف فيه" نظريات التنمية السياسية المعاصـرة عند تحقيق مجتمـع "الاستهلاك" الوفير، أو دولة "الرفاهية" غـاية لعمـلية التنمية، يعتبر الإسلام تحقيق"الحياة الطيبة" - وهي البديل المعتدل للرفاهية- عائدا، أو نتيجة، أو أثرا لتحقيق العبادة الشاملة لله وحده في جميع نواحي الحياة، سعيا للوصول إلى الجنة" [8] .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية