الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          الفصل الثاني

          التزكية وترسيخ الذات الإنسانية

          مفهوم التزكية ومحوريته في مجتمع الاستخلاف:

          "التزكية" من أصول القيم الحضارية في الإسلام التي يجب تعزيز الوعي بها؛ إذ إنها تمثل "كليات مرجعية" تعصم الفعل الحضاري للإنسان من الطغيان والاستكبار في الأرض، كما أنها تحمي الحضارات من الزوال السريع، والأفول المحتوم، و هي أولى الوسيلتين في عملية التغيير، وإنشاء مجتمع "الاستخلاف" [1] ، وأهمهما على الإطلاق؛ لأنها تمثل "منهجية" إسلامية في ترقية الذات الإنسانية وترسيخها، من خلال تربية الإنسان المنوط به أمر الخلافة في الأرض، ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد:11) ، فبتزكية النفس يتم تزكية الواقع، ومن ثم يعد التغيير الداخلي مقدمة ضرورية للتغيير الخارجي [2] ، الذي ينعكس على سعي الإنسان في "تحريك للحياة" وفق مراد الله في أمره ونهيه، فبحركة الإنسان الداخلية، من خلال حريته الملتزمة، يتحرك التاريخ، ويتطور الزمن، وتتغير مظاهر الحياة، ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى ) (النجم:39-41)؛ [ ص: 53 ] ومن ثم نستطيع القول: إن الحضارة الإسلامية "حضارة إنسانية" تعتمد على "حركة الإنسان" المهتدي بهدايات الخالق العظيم، وهي حركة في اتجاهين متوازيين متكاملين، حركة في داخل الإنسان نفسه من أجل تنميته وتطهيره والصعود به في مراتب الكمال ومدارج الخير، وحركة في الأرض والطبيعة لاستثمارهما والتفاعل معهما، بعيدا عن الرؤية الصادرة عن المادة، والتي تجعل الإنسان سلعة خاضعة لمقاييس الاستخدام والاستغلال، في دنيا منفصلة عن آخرة.

          ولأهمية هذه "التزكية" في التغيير، والفعل الحضاري للإنسان الخليفة، وجدنا الأحكام المكية، على حد تعبير الإمام الشاطبي: "مبنية على الإنصاف من النفس، وبذل المجهود في الامتثال بالنسبة إلى حقوق الله، أو حقوق الآدميين" [3] إذ كان ذلك، في بداية الإسلام، مطلبا أساسيا لبناء الإنسان الخليفة، ومقصدا ضروريا من مقاصد الشريعة ذاتها، بل هي ركن من الأركان الأربعة التي بعث النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم لتحقيقها وتكميلها، ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (الجمعة:2)؛ ولهذا عقد الإمام الراغب مبحثا في كتابه الذريعة إلى مكارم الشريعة [4] ، بعنوان: "كون طهارة النفس شرطا في صحة خلافة الله تعالى وكمال عبادته" قال فيه: "لا يصلح لخلافة الله تعالى، ولا يكمل لعبادته، وعمارة أرضه، إلا من كان طاهر النفس، قد أزيل رجسه ونجسه؛ فللنفس نجاسة، كما أن للبدن نجاسة.. إنما لم يصلح لخلافة الله تعالى إلا من كان طاهر النفس؛ لأن الخلافة هي الاقتداء به على قدر طاقة [ ص: 54 ] البشر في تحري الأفعال الإلهية، ومن لم يكن طاهر النفس لم يكن طاهر القول والفعل، فكل إناء بالذي فيه ينضح"، وهذا معناه: أن القيم التي تحقق مقصود الخلافة للأمة، وتحقق تقدمها هي تلك القيم التي تزكي الإنسان، وتزيد في تخلقه، ولا يجوز استبعاد ذلك في أي بناء حضاري؛ ومن ثم لا أبعد إذا قلت: إن الشريعة بأحكامها وتكويناتها المختلفة ومطلوباتها ليست إلا قيما جوهرية، وأن هذه القيم، في مجملها، راجعة إلى تزكية الإنسان في تعاملاته مع نفسه، وتعاملاته مع غيره، على وفق مقتضى قوله صلى الله عليه وسلم : ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) [5] ومن ثم كان المسلم مطالبا في سعيه الحضاري "دائما أن يمارس عملية العكوف على الذات؛ لتربيتها على أمر الله، وأخذها بشرع الله، ولا نعني بذلك ضربا من السلبية، والهروب من الحياة، وفقدان التوازن الاجتماعي، وذلك بالانسحاب من المجتمع، والانقطاع إلى الرياضيات الروحية في الكهوف والجبال، وممارسة الزهد الأعجمي بترك التعامل مع الحياة، وإنما نرى أن ميدان الذات وتزكيتها أكبر من ذلك بكثير، إنه الحياة بكل ما فيها من جوانب الخير والشر، إنها التربية الميدانية التي لا تتم إلا من خلال الممارسة والمعايشة الاجتماعية، والمعاناة اليومية والتحديات المحيطة، واستشعار هذه التحديات، وعدم الذوبان والسقوط أمامها، وإنما الصلابة والاستيعاب وحسن المواجهة، وإن اختلفت فيها مساحة الكر والفر حسب الظروف ومقتضى الحال، ذلك أن التربية الذاتية، أو العكوف على تربية الذات بهذا المعنى، هو الذي تفرد به الإسلام عن سائر الأديان، بزهدها ورهبانيتها وسلبياتها" [6] . [ ص: 55 ]

          بناء المفهوم:

          "التزكية" في البناء الحضاري الإسلامي، مفهوم يستجمع معاني: "النمو" و "الخيرية" معا، يقول الإمام الراغب مبينا معنى "تزكية النفس": "تنميتها بالخيرات والبركات" [7] ، فهو مفهوم ذو أبعاد قيمية تقوم على أمرين: أولهما: "التطهير"، أو "التخلية" للنفس من كل عوارض القدح، ونوازع الشر، وشوائب الكلالة، التي تتعاور عليها؛ وثانيهما: "الترسيخ"، أو "التحلية" بكل ما فيه "صفاء" النفس، و "بركتها" و "صلاحها"



          [8] .

          فالتزكية تخلية (من الرذائل) وتحلية (بالفضائل) بما يستوجب للنفس الصلاح في الدنيا، والفلاح في الآخرة، فاختار لها ما به كمالها، ودفع الرذائل عنها، ويقابلها مفهوم "التدسية" القائم على "الخفاء" و "الإغواء" و "الإفساد" للنفس بما يستوجب لها الخيبة في الدنيا، والخسران في الآخرة، ويجمع المفهومين قوله تعالى: ( ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ) (الشمس:7-10).

          وبالرجوع إلى الدلالات الأصلية لمفهوم "التزكية" [9] نجده قائما على مجموعة من الدلالات، نجملها فيما يأتي: [ ص: 56 ]

          1- أن "التزكية" بمفهومها الإسلامي متعلقة بـ"التكريم" الذي جعلت منه الشرعة الإسلامية أمرا إلهيا لا يرد عليه النقض، ولا تطوله عناصر الاختيار في التهاون فيه، ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) (الإسراء:70 )، فبمقتضى التكريم الواجب للإنسان عليه أن يسعى ليزكي نفسه، ويرتقي بها، ويطهرها من كل عوارض القدح التي تتنافى ومقتضيات هذا التكريم، أو تنسلخ به عن حقيقته الإنسانية، فعليه "أن يفعل الفعل الحضاري بما يقتضيه ذلك التكريم المرتبط به لا انفصـام له، والتكريم حركة فاعلة تجعـل الإنسان سيدا في الكون بفعله وتفاعله وتفعيلـه، لا عليه بالقهر والسيطرة في حركة غاضبة أو طاغية مستكبرة، هي على الضد من المقصود بالتكريم؛ فالتكريم حالة إنسانية ليست بالطغيان، أو الاستكبار، وليست بالإذعـان والخنوع والـذل، وليست بالتهور أو الطيش أو الهوى المحض، إنها حركة واعية فاعلة ذات بصيرة تفعل كل ما يقتضي زيادة تكريمها وكرامتها، دون إفراط يحدث حالة نوعية إنسانية أخرى تتسم بالطغيان والكبر والبطر، أو تفريط يحدث حالة من عقلية قطيع لا تعرف من سلوك سوى الإذعان... وفقدان التكريم هو بداية لفقد الإنسان ذاته، بل هو فقد لكل قيمة إنسانية يكون مدارها الاستخلاف، فإن قيم القوة والغطرسة تفقد الإنسان كل قيمة حقيقية وجوهرية في حق الذات والغير معا، [ ص: 57 ] وقيم الهوان والوهن تفقد الإنسان، كذلك، كل قيمة حقيقية وجوهرية في حق الذات والغير معا" [10] .

          2- أن "التزكية" تنبع من الذات الإنسانية، بل هي التي تظهرها -بخلاف "التدسية" التي تخفي حقيقة الذات الإنسانية- حيث يسعى الإنسان إلى تطهير نفسه من عوارض القدح، وترقية كيانه، وإصلاح وجوده الإنساني. فهو مفهوم يدفع الإنسان، في سعيه الحضاري، إلى الالتزام بالقيم النافعة الصالحة، من خلال: "مراعاة حق النفس" فيطهرها، وتصحيح السلوك، أصلا، ومقصدا، ووسيلة. والعمل على "مراعاة حق الغير" إنسانا وحيوانا ونباتا وجمادا، فيتأدب معه، دافعا عن نفسه كل القيم التي تفسد وجوده، ولا تتفق ومقتضيات ذاته الإنسانية، مما يؤكد تمايز النظرة الإسلامية للإنسان عنها في النموذج الغربي "الأعمى، الذي لا مقصدية إنسانية له" على حد قول غارودي [11] فالإنسان، في المنظور الإسلامي، بلا تزكية كلا إنسان، والأمة بلا تزكية كلا أمة!!

          3- أن "التزكية" عملية متجددة، دائمـة، لا تنتهي أبدا؛ فـ"التزكية" لا تعني أبدا أن إنسانا ما قد وصل إلى درجة لا منتهى بعدها، أو أنه وصل إلى الغاية القصوى في تطهير نفسه - بخلاف النموذج الإنسـاني الأكمل صلى الله عليه وسلم - وإنما دلالات "التزكية" و "التطهير" [12] تعني: التجدد، والمراجعة، والمراقبة، والتقويم، وهو ما يقتضي جهدا ارتقائيا دائما في رتب متعـددة؛ إذ "التزكية" لا تنفك عن عمل، والعمل لا ينتهي إلا بانتهاء الأجل؛ ومن ثم فلا نهاية لما يملك هذا الإنسان أن يصل إليه من تزكية النفس وتطهيرها، فهو دائم التنقل من حال [ ص: 58 ] زكي إلى حال أزكى منه، فلا يركن إلى كد، ولا يقف عند حد، حتى يلاقي ربه ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ) (الانشقاق:6).

          4- أن مفهوم "التزكية" وطبيعة القيم المتعلقة به، وما يقابله من مفهوم "التدسية" يجعل أمر الإنسان بين يديه؛ فيتحمل تبعة مصيره في الدنيا بالصلاح في عمله، والبركة في سعيه، أو الفساد في عمله، والخيبة في سعيه ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ) (الأعراف:96) كما يتحمل تبعة مصيره في الآخرة ثوابا أو عقابا، ( جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى ) (طه:76) ، مما يثير في حس الإنسان كل مشاعر اليقظة والتحرج والتقوى، وهو يعلم أن قدر الله فيه يتحقق من خلال تصرفه هو بنفسه، وهي تبعة ثقيلة لا ينبغي أن يغفل صاحبها أو يغفو!

          5- أن "التزكية" بهذا المفهوم تشعر الإنسان بالحاجة الدائمة، في حركة الحياة، للرجوع إلى "الموازين الإلهية" [13] الثابتة، واستحضارها في سعيه الحضاري، في تعامله مع نفسه، وتعامله مع غيره، فتقتضي التلازم بين "الحق" و "الواجب" بل تعتبر "الحق" قيمة خادمة على الدوام؛ ليظل الإنسـان على يقـين أن هواه لم يخدعه، ولم يضلله، فلا يقوده الهوى إلى المهلكة، ولا يحق عليه قدر الله فيمن يجعل "إلهه هواه"، وبذلك يظل قريبا من الله، يهتدي بهديه، [ ص: 59 ] ويستضيء بالنور الذي أمده به في متاهات الطريق، مستبطنا قيم التوحيد والربوبية، ليكون تجانس وتوافق بين اختياراته في "تحريك الحياة" وبين القدر الرباني السائر، ومعنى ذلك: أن "التزكية" في مفهومها الإسلامي لا يمكن أن تتم بعيدا عن الله، أو تتصف بها أية حركة لا تتم وفق مراد الله في أمره ونهيه [14] .

          فـ"التزكية" بهده الدلالات، وما هو في معناها، تعد بعدا محوريا في عملية التغيير، وإقامة مجتمع "الاستخلاف" حيث التفاعل مع معطيات الله في الكون ومسخراته، وحيث يكون العبد "ربانيا" في الدنيا يعمل من أجل الآخرة، فيحقق "كمال العمارة" في الأرض، ويستحق "الخلافة" عن الله، و "الشهادة" على الخلق، مهتديا بمنهج الله الموحى إليه، الذي يضبط الفعل الحضاري المتعلق بالإنسان، حقوقا وواجبات، سعيا ومسيرة، فكرا وحركة، وسائل وغايات، وذلك من خلال فعل "التزكية" الذي يعنى "بمراعاة حق النفس" و "بمراعاة حق الغير" ليصل الإنسان إلى درجة الكمال بـ"ترسيخ الذات الإنسانية" فيه، وتفصيل ذلك ما يلي:

          التالي السابق


          الخدمات العلمية