الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          مقدمة

          الحمد لله رب العالمين، وصلاة الله وسلامه على رسوله الأمين، وعلى صحابته وآله أجمعين، وبعد:

          فمما لا شك فيه أن الأمة الإسلامية، عاشت، وما تزال، ردحا من الزمن في فراغ "حضاري" استدعى (الآخر) بمفاهيمه، وأنساقه المعرفية، وحداثته في "تحريك الحياة"، مع ما تبعه من تغييب، أو تجاهل، أو إهمال لقيم الإسلام، ومقولاته، ومفاهيمه، التي تضبط هذه الحركة حالا ومآلا، فأصبحت الأمة مدعوة، دائما -في إطار الجدلية القائمة في حياتنا الثقافية بين "التراث" و "الحداثة"- إلى التخلي عن قيمها وأنساقها المعرفية، والتعلق بقيم الآخرين وأنساقهم المعرفية، تحت زعم التجديد والتحديث!!

          ولكن مع تنامي حركة الإحباط النفسي تجاه كل الإخفاقات التي منيت بها الأمة على مختلف الصعد، ويقظة الأمة الإسلامية، وانبعاثها الإسلامي الجديد، ومع انحسار القناع عن الغرب، وفشل المناهج الغربية، و تهافت "النموذج الحداثي" الغربي، بماديته المنفصلة عن كل قيمة، وبعقلانيته المنقطعة عن كل غيب، وما ترتب على ذلك من "أزمات" في التعامل مع الإنسان والكون من حوله، استدعت التساؤل، من داخل منظومة الحداثة نفسها، عن مدى إمكانية الحديث عن منظومة قيمية أخرى "تحرك الحياة" بعيدا عن الحداثة الحالية، وأزماتها، وتطرفاتها في التعامل مع الإنسان ومع الأشياء (بدءا من المحيط/المجال الصغير، بأزهاره وثماره، وانتهاء إلى الكون/الفضاء الكبير، ببحاره [ ص: 13 ] وأفلاكه وطبيعته وكل شيء فيه)، مع ذلك كله أخذ سؤال عريض يطرح نفسه بقوة في حياة الأمة الإسلامية، وهو: كيف "نحرك الحياة" وفق قيمنا نحن وأنساقنا المعرفية، وانطلاقا من مرجعيتنا ومقولاتنا الحضارية؟ أو بمعنى آخر: كيف نحرك الحياة وفق مراد خالق الحياة، سبحانه، في أمره ونهيه؟

          وقد أخذ موضوع السؤال يجذب إليه كثيرا من أقلام الباحثين والمفكرين، فظهرت، خلال العقود الأخيرة، دراسات متفاوتة القيمة، برؤى ومداخل متنوعة، برزت في ثناياها آراء متعارضة حول: "قيم الإسلام" و "أنساقه المعرفية" التي "يحرك الحياة" من خلالها، وواقع الأمة الإسلامية واحتياجاتها، وما تعيشه من "انحسار وكلالة حضارية"، وما أثاره ذلك من انتقادات وتساؤلات حول ما يمكن أن تقدمه هذه "القيم" من "معايير" و "أطر مرجعية"، تعالج مشاكل أمتنا، ومشاكل الإنسانية من حولها، ومعالجة التحولات الجارية والمستقبلية. هـذا ولا تزال هـذه الدراسات تحتاج إلى مراجعة وتخصيب وإنضاج؛ حتى يتوافر للأمة الإسلامية رصيد وافر واف من العلم النظري، الذي يساعد في إعادة بناء "المفاهيم" و "القيم" التي يحرك الإسلام الحياة من خلالها، وتطوير "آليات" تفعيلها في واقع الحياة.

          وفي هذا السياق تأتي هذه الدراسة، لا لتثبت أن الإسلام يملك في أنساقه المعرفية أنموذجا قيميا ذا طبيعة خاصة في "تحريك الحياة" يهدف إلى "ترقية الوجود"، ويبلغ الغاية في وصل الإنسان بربه، تعبدا وتعقلا وتخلقا، كما يبلغ الكمال في وصل الإنسان بأخيه الإنسان، تعارفا وتراحما وإحسانا، كما يبلغ المنتهى في التعامل مع مفردات الكون، انتفاعا واستثمارا وائتمانا، وأن ما تعانيه [ ص: 14 ] الأمة الآن من "انحسار حضاري" بل "كلالة حضارية" إنما هو راجع إلى تخليها عن هذا النموذج، وعجزها عن تفعيله، وتطوير "آليات" تنـزيله على واقعها، فلا تأتي هذه الدراسة لتثبت ذلك فحسب، بل لتثبت، من خلال التحليل والمقارنة وبناء المفاهيم والمقولات الحضارية، أننا نملك نموذجا قيميا في "تحريك الحياة" يمثل "خطابا حداثيا" جديدا، تحتاجه البشرية كلها، إذا فعلناه في حياتنا، ثم أحسنا تقديمه، والتعريف به؛ فالإسلام يملك منظومة قيمية ليست ضرورة لشهودنا الحضاري من جديد، بل وأيضا، ضرورة لحداثة إنسانية جديدة، وإن كانت من جذور حضارة غير غربية [1] !!

          وتنطلق هذه الدراسة من افتراضية مفادها: أنه إذا اعتبرنا أن الحداثة "مشروع" يحرك الحياة من خلال رؤية للكون والإنسان وتعامله مع عالم الأشياء، وأن هناك "حداثة" غير إسلامية، فلابد من أن تكون هناك "حداثة" إسلامية، لها مقولاتها ومفاهيمها الخاصة بها في "تحريك الحياة"، ونابعة من "رؤية" الإسلام المتميزة للإنسان والكون والحياة، بل إننا نرى، من وجهة نظرنا، أن وجود هذه "الحداثة الإسلامية" في "تحريك الحياة" وكونها "حداثة" للإنسانية جميعا، نرى ذلك أمرا لازما بالإسلام، مرتبطا به أشد الارتباط باعتباره الدين الخاتم؛ ومن ثم فهو ليس "مشروع" ترقية للوجود [ ص: 15 ] الإسلامي فحسب، بل للإنسانية كلها على امتداد أزمانها [2] ، يعمل على "ترقية وجودها"، والارتقاء بها في "مدارج الكمال" مادة وروحا، خلقا وخلقا، حالا ومآلا، وهو مقتضى قوله تعالى: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) (البقرة: 143) فـ"الشهادة" معنى يقتضي كون الأمة، من خلال إسلامها وأنساقه المعرفية وقيمه في "تحريك الحياة"، هي المرجع والميزان، الذي تتطلع إليه البشرية، حينما تفقد "المعنى"، وتضل "المقصد"، وتبتعد عن "المرجعية"!!

          وقد حاولت في هذه الدراسة استخدام بعض المفاهيم، التي أراها تعبر عن رؤية إسلامية واضحة في "تحريك الحياة" وجرى التعريف بها حين استخدمت لأول مرة، والاستدلال على صحة بنائها، من نحو: "المثل الأعلى"، و "الاستخلاف"، و "الخلافة الاقتدائية"، و "السعي الحي"، "والتزكية"، و "الاستعمار الإيماني للأرض"، و "تحصيل المعية الإلهية"، و "ترسيخ الذات الإنسانية"، و "الكدح الحضاري" ، و "الاستقامة الحضارية"، و "الكلالة الحضارية"، و "التخلف الكوني"، و "الحياة الطيبة"، و "الائتمان الكوني"، و "القوامة الكونية"، و "البعد السنني"، و "الائتمان على المستقبل". [ ص: 16 ]

          هذا، وقد جاءت مكونات الدراسة مرتبة ترتيبا منطقيا، بحيث تنساب باتجاه اختبار الفروض التي قام عليها البحث، فتسلسلت في: "مقدمة" تناولت التعريف بالبحث، و "تمهيد" خصصته لتحرير عنوان الدراسة، فجاء بعنوان "القيم الحضارية في الإسلام..الدلالة وبناء المفهوم"، ثم جاء الفصل الأول "الاستخلاف وتحصيل المعيـة الإلهية" وقد كان محوره: قيمة "الاستخلاف" وما تقوم عليه هذه القيمة في "المنظور الإسلامي" من: "عمارة الأرض"، و "عبادة الرب"، و "القيام بين الناس بالحق والعدل، والإحسـان والفضل".

          أما الفصل الثاني، فكان بعنوان: "التزكية وترسيخ الذات الإنسانية" وكانت مهمته بيان منهجية الإسلام في ترقية الإنسان من خلال قيمة: "التزكية" ومحوريتها في مجتمع الاستخلاف، وهي قيمة تقوم على محورين: أحدهما: "مراعاة حق النفس"، وثانيهما: "مراعاة حق الغير"، والتزكية بهذا منهج إسلامي أصيل وفريد، وقيمة مركزية في "ترسيخ الذات الإنسانية" و "ضبط حركتها في الحياة" وفق منهج الله في أمره ونهيه.

          أما الفصل الثالث: "الاستقامة والاستعمار الإيماني للأرض"، فقد جرى فيه بيان أن "عمارة الأرض هي صنعة المؤمن" حيث المقصد العام للشريعة الإسلامية: إصلاح الأرض وعمارتها، وتزجية معاش الناس فيها، وتحقيق التمكين عليها، من خلال أبعاد أربعة: "البعد الإيماني" و "البعد الغائي" و "البعد الأخلاقي" و "البعد السنني" وما يتولد عنها من قيم فرعية تضبط حركة الإنسان في تعامله مع الحياة والأحياء، هو الذي يحقق معنى "الاستقامة" الحضارية التي هي المقصد الأساس لـ"تحريك الحياة" في الإسلام. [ ص: 17 ]

          ثم كانت الخاتمة، وكانت بعنوان: "القيم الحضارية في الإسلام، من إشكالية القراءة إلى إشكالية التفعيل" وفيها تمت مناقشة: القيم الإسلامية والواقع: من خطأ القراءة إلى خذلان التفعيل، وضرورة تفعيل هذه القيم في حياة المسلم، ورد الاعتبار إليها، تنـزيلا وحراسة وتنمية، وضرورة الاجتهاد في تطوير "آليات" هذا التفعيل، وما يتطلبه ذلك من: "تجديد" في خطابنا: العقدي، والفقهي، والقيمي.

          وبعـد،

          فهـذا مجـرد مشـروع لقراءة "القيم الحضارية في الإسلام"، وقد حـاولت فيه التأسيس لهذه القيم والتأصيل لها، وبناء المفاهيم الحضارية من خلالها، والباحثون مدعوون إلى مواصلة المسير، ترسيخا لهذا المنظور الإسلامي في "تحريك الحياة" وإبداعا لـ"آليات" تفعيله، و "تشغيل" مفاهيمه؛ إيمانا منا بأن الاجتهاد العلمي رحم تتوالد، وسنة من سنن العلم النافع.

          والله الموفق. [ ص: 18 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية