الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          الخاتمة

          القيم الحضارية في الإسلام

          من إشكالية القراءة إلى إشكالية التفعيل

          - القيم والواقع: خطأ القراءة، وخذلان التفعيل:

          لا أبعد إذا قلت: إن هذا الكتاب قائم في كل بنائه على الإجابة عن سؤال واحد، ألا وهو: كيف نحرك الحياة، انتفاعا واستثمارا، بحركات يحبها خالق الحياة، ووفق مراده في أمره ونهيه؟ والإجابة عن هذا السؤال تقتضي أمرين، يشيران إلى طبيعة "الإشكالية" التي تعيشها الأمة الإسلامية اليوم:

          أولهما: ضرورة قراءة حركة الحياة، في مسيرتها وصيرورتها، بـ"أبجديات" إسلامية مأصولة، قادرة على تحديد عوامل "النهوض" و "السقوط"، والوقوف على مواطن "الإصابة" و "الانحراف"، والتعرف إلى أسبابهما، من خلال قيم الوحي المعصومة.

          إذ إن جـزءا كبيرا من "كلالتنا الحضـارية" - أو "عطـالتنا الحضـارية" أو "انحسارنا الحضاري"- اليوم، يعود إلى أن كثيرا من القراءات -في خضم استعجال التقدم الحضاري- إنما تتم بعيدا عن قيم الوحي، إما جهلا به، وإما سوء فهم للتعامل معه، وإما جنوحا عنه، فتتخذ من قيم الحضارة الغربية، وكلياتها، وحداثتها، ومصطلحاتها، معيارا للقراءة والتمثل، ومقياسا للمقاربة والمحاكاة، ومن ثم محاكمة حركتنا في الحياة بقيم غير قيمنا، استتباعا وتنميطا، أو تخريبا وتدليسا، وتزداد الإشـكالية خطورة حينما يصار إلى تقرير أن الطريق الوحيد لخروج الأمة مما تعانيه هو التمثل بقيم الآخرين، ومحاولة إيجاد الحلول في أوعيتهم الفكرية، وأنساقهم المعرفية، [ ص: 202 ] وسعيهم في تحريك الحياة، احتجاجا بعدم صلاحية قيمنا الإسلامية لاحتكام الواقع إليها، أو احتجاجا بأن "مشروع الحداثة الإسلامي" هو بعينه "مشروع الحداثة الغربي" بعد إضافة بعض القيم إليه!! [1] ، فلم تزدد الأمة بذلك إلا تخلفا وتراجعا، وهدرا لطاقاتها، وعجزا عن تمثل إمكاناتها، وعناصر القوة فيها، حتى أصبحت لا هي بمستوى إسلامها، ولا هي بمستوى عصرها. فالواقع خير شاهد على أن إسقاط قيم الإسـلام من "القراءة" و "البناء الحضاري" للأمة، لم "يهمش" وجود الأمة فحسب، بل قد "هشمه" أيضا!!

          وثانيهما: ضرورة تفعيل قيم الإسلام في حياة المسلم "الإيمان الحي"، بمعنى: تحويل النظرية إلى ممارسة، والفكر إلى فعل، والقيم إلى برامج، وتقديم المعيار العملي لتحكيم قيم الإسلام في الواقع، وتقويم سلوك المجتمع الإسلامي بها، وتحقيق مقاصد الدين من خلال أصولها ومتطلباتها، فيكون إيمان المسلم، وكذلك الأمة المسلمة، بقيم الوحي إيمانا حيا يصدقه العمل، وقولا يصدقه الفعـل. باختصار: لا يكون هذا التفعيل إلا إذا كان كل سعي للمسلم في "تحريك الحياة" على وفق القيم العملية لدينه، والتقيد بها في التعامل مع حركة الحياة والأحياء، باعتبارها: "إطارا مرجعيا" بحيث تصبح قيم الإسلام، وعطاءات الوحي، روحا سارية في أفكار الأمة وأفعالها معا، وعيا وسعيا، تحريكا وتشغيلا، تفاعلا معها وفعلا بها.

          وهذا التفعيل هو ما عبر عنه ابن خلدون بـ"التكييف" عند بيانه لحقيقة "التوحيد" في قوله: "إن المعتبر في هذا التوحيد، ليس هو الإيمان فقط الذي هو [ ص: 203 ] تصديق حكمي؛ فإن ذلك من حديث النفس، وإنما الكمال فيه حصول صفة منه تتكيف بها النفس" [2] فـ"تكيف" النفس بالتوحيد، معناه: تفعيلها لقيمه، وانطلاقها في "تحريك الحياة" من خلال مقتضياته، استخلافا في الأرض، وتزكية للنفس، وتعميرا للأرض، وشهادة على الخلق.

          القيم وآليات التفعيل:

          لا شك أن هذا الواقع الذي نلاحظه في حياة الأمة الإسلامية، في تعاملها مع القيم التي تحرك الحياة، هو واقع، يتسم بـ"التهافت" من ناحية قراءة هذه القيم -في كثير من جوانبها- بـ"أبجدية" غريبة عن الإسلام ومنهجه في تأطير سعي المسلم وتعامله مع الحياة والأحياء، كما أنه واقع يتسم بـ"الانفصال" من ناحية تهميش العلاقة بين قيم الوحي المعصومة التي يؤمن بها المسلم، وسعيه في "تحريك الحياة".

          وقد أدى هـذا "التهافت" وذاك "الانفصال" إلى أن ترسبت في ثقافة الأمة المسلمة كثير من الآفات، التي اعتنى بفحصها وتحليلها الأستاذ مالك بن نبي، في سياق أبحاثه عن (مشكلات الحضارة)، وعدها من المعوقات الخطيرة الكامنة في المجتمع الإسلامي، والتي لا تزال تعترض بشدة سبيل استعادة المسلمين لعافيتهم، ونهوضهم لأداء دورهم وشهودهم الحضاري. لقد عمل مالك بن نبي، رحمه الله، على تحليل كثير من آثار هذا "التهافت" وذاك "الانفصال"، وأطلق عليها "الأفكار الميتة" و "المميتة" في ثقافة المجتمعات الإسلامية، انطلاقا من نظريته الكبرى "Grand Theory" عن "القابلية للاستعمار" نظرا لبعدها عن قيم دينها، والتي من خلالها يمكنها "تحريك الحياة" واستعادة "شهودها الحضاري" كما بين، رحمه الله، أنه إذا كان تطبيق قيم الإسلام في "تحريك الحياة" واجبا حتمي الأداء، فإن أداء ذلك [ ص: 204 ] الواجب لا يمكن أن يتحقق ضربة لازب، بل لا بد من التمهيد له بخطوات وفعاليات كثيرة، ولا يكفي الحديث عن هذه القيم وفوائدها، ووجوب تطبيقها، فهذا لا يكفي لإنجاح تجربة الإسلام في "تحريك الحياة" في هـذا العصر الذي تطورت مؤسساته ودقت تخصصاتها، وتعقدت وظائفها، وتشابكت علاقاتها مع بعضها بعضا.

          ومن ثم فنحن في حاجة إلى بذل جهد فكري اجتهادي ضخم يحرك الأمة لإعادة الاعتبار للقيم الإسلامية، ولتجاوز ذلك الواقع في "تهافته" و "انفصاله"، واسترجاع "هوية الأمة الحضارية"، وذلك بجعل قيم الإسلام في "الاستخلاف" و "التزكية" و "الاستقامة في العمران" روحا سارية في كل سعي للأمة نحو تحريك الحياة، بكل امتداداتها التي تشكل كل عناصر الفاعليات والتفاعل الحضاري بين المسلم والكون، وذلك من خلال محاولة ذات أبعاد ثلاثة تتكامل؛ لإقامة قيم الإسلام في الحياة، وتفعيلها في الواقع، تنـزيلا، وحراسة، وتنمية، على النحو التالي:

          أولا: تنـزيل القيم في حياة المسلم [3] :

          بمعنى: ربط القيم بالواقع، من أجل تحقيق مناطاتها في واقعاته، وهذا يقتضي: "التأسيس القيمي" لكل جانب من جوانب حياة المسلم، والعمل على أن يخرج المسلم من النظر المجرد في القيم، ويدخل مباشرة في العمل بها، وتحقيقها في سلوكه، انتظاما ومواظبة، حالا ومآلا [4] ، بحيث تسري قيم الإسلام سريانا في كل حركة من حركات حياته، وبحيث يصير تنـزيل القيم في حياته، وتقويم حركته في البناء والعمران من خلالها، وصفا راسخا، لا ينفك عن سعيه في "تحريك [ ص: 205 ] الحياة" قولا أو عملا، إشارة أو حالا، فلا يبقى جانب من جوانب حياة الإنسان المسلم خارجا عن مراعاة قيم الإسلام فيه.

          وهذا يقتضي الاستعانة بذوي العلم، وأهل الفكر، على وضع برامج "توضيحية" و "توجيهية" و "إعلامية" محكمة، في إبداع: "وسائل" و "أدوات" و "أوعية" عملية؛ لإذكاء "الشعور القيمي" عند المسلمين، أفرادا وجماعات، والاعتماد في ذلك على مراكز الدراسات والبحوث لتغذية هذه البرامج بالمعلومات والتحليلات اللازمة، ووضع الخطط التي تعين على تربية الأمة كلها، حكاما ومحكومين، على معاني هذه القيم، وبعث روحها في وعيها، بحيث تترجم إلى حركة دائمة، ومتراكمة، وفاعلة، ومؤثرة، فتخرج هذه القيم من حيز "المبدأ" إلى حيز "الممارسة" على أن يراعى في بناء هذه البرامج:

          1- الحاجة إلى تجديد [5] "الخطاب العقدي":

          فـ"العقيدة" في الحقيقة، هي المحرك الحضاري الأهم، بما تؤديه من وظيفة محورية في تشكيل"الأمة"؛ ولكي يتأتى للمسلمين الخروج من وضع "الانهزامية الحضارية"، و "تغييب قيم الإسلام" عن سعيهم في "تحريك الحياة" لابد من تجديد [ ص: 206 ] مفهوم "العقيدة" بإخراجه مما علق في أذهان المسلمين، في عصور الجمود والانفصال، باعتبارها حديثا عن الله، وصفاته، والنبوة، والوحي، وأصول الإيمان، وانحسار مفهومها في "الغيبيات" فقط، إلى مفهوم أرحب وأوسع يعتبر العقيدة هي: الرؤية التأسيسية الإسلامية، للإيمان بالله بكل مقتضياته، ولحركة الحياة بكل تفاعلاتها ومحركاتها، ولحركة الإنسان في الواقع، ولطبيعة الكون وأصول التعامل الحضاري فيه ومعه، ولغايات الخالق والمخلوقين في كافة نواحي الحياة (المبدأ والغاية).

          وبذلك تصبح "العقيدة" مرجعية كل سلوك في الحياة، وفاعلية التحرك في شتى مجالات النشاط البشري، ولها تأثيراتها في مجرى الأحداث في حياة الأمة، فيكون سعي المسلم، وكذلك الأمة المسلمة، في "تحريك الحياة" في إطارها، وبترشيد منها، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) (الأنعام:162-163 )، أي: يكون البعد العقدي للمسلم حركة فاعلة في حيـاته بكل أبعادها، وليس مجرد اعتقاد إيماني بارد، أو شقشقة كلامية، أو تصديقات ذهنية مجردة، منفصلة عن حركة الإنسان في الحياة، وحدود حركته، وعناصر وظيفته واستخلافه..

          وفي هذا الإطار من "مرجعية" العقيدة لكل حركة المسلم في الحياة، يعتبر الحديث عن القيم المحركة للحياة: "الاستخلاف"، و "التزكية" و "الاستعمار الإيماني للأرض"، و "فقه السنن"، و "الشهود الحضاري للأمة".... إلخ يعتبر كل ذلك من صميم العقيدة الإسلامية، ومن المفردات التي ينبغي إدخالها في "الخطاب العقدي" [6] ؛ حتى يشعر المسـلم أنه إذا أخل بتفعيـل تلك القيم في حياته، جهلا [ ص: 207 ] أو تقصيرا، فقد أخل بواجب من واجبات عقيدته، ومتطلب من متطلباتها، وأهمل مفردة من مفرداتها! وليس ثمة شك في أن اعتبار القيم المحركة للحياة، من صميم عقيدة المسلم، ومفردة من مفردات "الخطاب العقدي"، وتعميق وعي المسلم بذلك، له أثره الكبير في تحقيق عناصر الوصل بين "الواقع الكوني" و "الواقع الإنساني" مما يدفع المسلم للبحث عن "آليات" لتنـزيل قيم الإسلام- والتي هي وفق هذا المفهوم جزء من عقيدته- على واقعه، والدفاع عن وجودها، والعمل وفق مقتضياتها في "تحريك الحياة"، كما أن له أثره الكبير في "تحرر" المسلم من كل القيم والمفاهيم المتوارثة من عصور "الجمود الحضاري" والتي تدعو إلى "كلالة النفس" و "الزهد" في تعمير الحياة، و "الانسحاب" من تحقيق معنى الخلافة في الأرض، والشهادة على الخلق، و "الاستكانة" إلى الكسل، و "التعايش" مع الذل، و "الخضوع" للهوى والشهوات. كما "تحرره" من كل القيم التي يراد فرضها عليه، وتعمل على: "استلابه" وذوبانه في حضارة (الآخر) التي تمثل قيم الحضارة الغالبة، في إطار الحديث عن "عولمة القيم" و "القيم الكونية"، وفي سياق الحديث عن تزكية النسق القيمي الغربي، وتزكية سياقاته الفلسفية -بماديتها المحضة، ورؤيتها العلمانية، التي تتجه صوب "موت الإله" و "موت الإنسان" بل "وموت الطبيعة" أيضا- وتهميش الأنساق القيمية الأخرى، استتباعا وتنميطا، أو تخريبا وتدليسا.

          2- الحاجة إلى تجديد "الخطاب الفقهي":

          فلابد من إنتاج "خطاب فقهي" يكون من مفرداته التأصيل لفقه يعنى بقضايا الأمة كيانا وبناء واستمرارا، والنظر في واقعها حالا ومآلا، وتحقق جوهرها ومناط خيريتها وفاعليتها، والتفكير بإيجاد الأوعية الشرعية لحركة الأمة ومعالجة مشكلاتها، ووضع الضوابط لبناء مؤسساتها، فقه يرتبط بالحياة في وجودها، وبالإنسان في فاعليته، وبالعمران في هيكله، فقه يعنى بـ"عوامل البناء" و "عوامل [ ص: 208 ] قيام الحضارات وانهيارها"، "وسنن التداول" و "الإبدال" الحضاري، وكذلك بـ"سنن التدافع" و "التوازن" و "العدل" الكوني، فقه يوجه "السلوك الحضاري" للمسلم في عمارة الأرض، والسير في مناكبها، ومراعاة سنن الله في بنائها، والتعامل مع المستقبل استشرافا وائتمانا، فقه يكون من مفرداته العناية بالدخول الواعي والذكي، في هموم الإنسان ومشاكله، محليا (من قبيل ما يعانيه المسلم اليوم من "وهن" و "بوار" و "استلاب" في مسعاه الحضاري...إلخ) وكونيا (من قبيل الأطروحات التي تدور حول: العولمة، والحداثة، وحقوق الإنسان، ومشكلات البيئة، والأمن الدولي، والنظام العالمي، ومركزية الإنسان الغربي وعالمية قيمه، ونهاية التاريخ، وصدام الحضارات، وحروب الثقافات...إلخ ) فينبغي أن يكون كل ذلك من مفردات خطابنا الفقهي؛ لمعرفتها أولا، ثم الاجتهاد ثانيا، لوجدان حلول وظيفية وعملية لها، انطلاقا من قيم الإسلام في: الخلافة في الأرض، والتعمير فيها، وقيم التعامل مع مفردات الكون وعطاءاتها، حفظا وانتفاعا واستثمارا، ووفق رؤية الإسلام ومقاصد شرعته في "تحريك الحياة" و "حفظ: الدين والنفس والنسل والعقل والمال"، وإصلاح الأرض وعمارتها، وتزجية معاش الناس فيها، وتحقيق التمكين عليها، وتعبيد الفعل البشري لله سبحانه، بحيث تكون جميع فعاليات الكون متجهة إلى الله، صحة في المقاصد، وسلامة في الوسائل، وبصرا بالمآلات.

          كما لابد من إنتاج "خطاب فقهي" يكيف هذه القيم التي تمثل روح حضارتنا الإسلامية، على أنها دين، وأن التمثل بها، وترجمتها إلى سلوك، والحركة بمقتضاها هو "مناط الشرعية"، وأن حملها في حركة الحياة، والالتزام بها، والسعي إلى ترجمتها إلى برامج، وإيجاد "الآليات" لتنـزيلها على الواقع، والتبصر الواعي بمآلات تنـزيلها، واتخاذها منهجا في "تحريك الحياة" من الفروض الواجبة على الأمة، وأن التفريط في تمثلها في حركة الحياة حرام، والدفاع عنها جهاد، [ ص: 209 ] وحراستها مسؤولية، يقول الإمام القرافي: "أحوال الأمة، والنظر في مصالح الملة، فإنه من أعم فروض الكفايات" [7] وكون تشغيل "القيم المحركة للحياة" وتفعيلها من "الفروض الكفائية" مما يعطي قيمة أكثر فاعلية لتلك "القيم" في الممارسة والصيانة والحماية؛ إذ إن مصطلح "فروض الكفاية" في بنائه الفقهي، يعني: التضامن والتكافل بين جميع أبناء الأمة؛ ليعين غير القادر، القادرين على تحقيق مراد الشارع ومقاصده في ذلك الفرض، وإلا أثمت الأمة جميعها؛ لأنه في الحقيقة "واجب على الكل سقط بفعل البعض"!! ولذلك كان القيام به له من الأجر والثواب عند الله أكثر من غيره من "الفروض"، يقول الإمـام الجويني: "القيام بما هو من فروض الكفايات أحرى بإحراز الدرجات، وأعلى من فنون القربات من فرائض الأعيان؛ فإن ما تعين على المتعبد المكلف لو تركه، ولم يقابل أمر الشارع فيه بالارتسام والقيام، اختص المأثم به، ولو أقامه فهو المثاب، ولو فرض تعطيل فرض من فروض الكفايات لعم المأثم على الكافة، على اختلاف الرتب والدرجات، والقائم به كاف نفسه، وكافة المخاطبين الحرج والعقاب، وآمل أفضل الثواب، ولا يهون قدر من يحل محل المسلمين أجمعين في القيام بمهم من مهمات الدين" [8] . إن الشعور بهذه "الفرضية" هو الذي يجدد للإنسان، في كل يوم، حياته، من خلال تجديد طاقاته، وتحويلها إلى قوة فاعلة متجددة، تلاحق كل خطوات "الواقع" من أجل تركيزها على "قيم الإسلام"، وبذلك يتم تحويل "الفروض الكفائية" إلى محركات اجتماعية، ومحرضات نفسية؛ لأداء الرسالة و "تحريك الحياة" استخلافا وتزكية واستعمارا للأرض، وفق قيم الإسلام. [ ص: 210 ]

          3- الحاجة إلى تجديد "الخطاب القيمي":

          فالمتأمل في "خطابنا القيمي" يدرك أن هناك قصورا واضحا في مفرداته ووظيفته؛ لأنه خطاب يعنى، في جزء كبير منه، بالمفردات التي توجه سلوك الإنسان نحو "الآخرة" مع إغفال تام للمفردات التي توجه سلوك الإنسان في "تحريك الحياة الدنيا" مع انسحاب تام عن تقويم ما يجري في العالم الآن من سعي "في تحريك الحياة" ومحاكمته إلى "منظومة القيم" الإسلامية، التي تعبر عن رؤية الإسلام للإنسان والكون والحياة. ومن ثم فنحن في حاجة، من أجل تنـزيل قيم الإسلام الحضارية وتفعيلها في حياة المسلم، إلى تجديد "خطابنا القيمي" وذلك وفق "آليات" ثلاث:

          أولها: "إعادة الاعتبار" في "خطابنا القيمي" للمفردات التي تعبر عن القيم المحركة للحياة: "الاستخلاف"، و "التزكية"، و "الاستعمار الإيماني للأرض"، و "الاستقامة في التعامل مع مفردات الكون، حفظا و انتفاعا واستثمارا"، وبيان أن هذه القيم تقدم "للمسلم رؤية" لـ"تحريك الحياة" وفق مراد الله في أمره ونهيه، ولابد من مراعاتها؛ وصلا لحركة الدنيا بالآخرة؛ حيث يجعل المسلم من الكون ساحته الحضارية، يحقق فيها قيم "الاستخلاف"، و "إعمار الأرض"، و "بناء الدنيا للآخرة" وهو ما يشير إليه قوله تعالى: ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ) (الانشقاق:6 )، فهذا "الكدح الحضاري" الموصول بالله، ينبغي أن يكون من مرتكزات "خطابنا القيمي".

          ثانيها: "تفكيك" "منظومة قيم الحداثة" الغربية، ونقدها بجلها ودقها، وتمييز ما فيها من "وجوه الحق" و "وجوه الضلال"، ومحاكمتها من خلال: "قيم الوحي المعصومة"، والنظر في عواقبها ومآلاتها في "تحريك الحياة"، وبيان آفاتها الفلسفية التي تنمو فيها وتستند إليها، وخاصة آفتي: "الانقطاع عن الغيب"، و "البعد عن قيم [ ص: 211 ] الوحي المعصومة"، باعتبار أن الإنسان هو "مرجعية" ذاته، ومعيار قيمه. والاستفادة في هذا النقد، والتفكيك، بالدراسات التي قامت في الغرب نفسه، وهي كثيرة، والتي تتحدث عن "انتهاء الحداثة"، و "فشل قيمها"، و "عدميتها"، و "لا إنسانيتها"، وضرورة "تجاوز منظومتها القيمية"، كما تتحدث عن أزمتها المعرفية في العلوم الطبيعية، وخلل تعاملها مع مفردات الكون وعطاءاتها، إضافة إلى أن "المراجعات" الجديدة في "علم النفس" و "علم اللغة" تبين الخلل المعرفي في كثير من "النظريات المعرفية" التي أقامتها "الحداثة الغربية" [9] .

          فهذا التفكيك والنقد لابد من أن يكون من مفردات "خطابنا القيمي" ثم الانطلاق في هذا الخطاب إلى بيان الفروق بين قيم الحداثة الغربية، القائمة على: "المادية المنفصلة عن كل قيمة" و "الاستئثار" و "افتراس الحياة" وقيم الإسلام، التي تتحكم في سعي الإنسان في "التعامل مع الحياة والأحياء" من خلال مفاهيم: "الاستخلاف"، و "التزكية"، و "الاستعمار الإيماني للأرض"، و "الاستقامة في التعامل مع مفردات الكون وعطاءاتها".

          إذ لا شك أن في هذا النقد لقيم الحداثة الغربية، وبيان أزماتها في "تحريك الحياة" حالا ومآلا، ومعايرتها بقيم الإسلام، سبيلا من أهم السبل لــ"التحرر القيمي" أي: وقاية المسلم من "الارتماء" في أحضان الحداثة الغربية، والوقوع في "تحيزاتها"، والتخلص من الإحساس بــ"مركزية" الغرب وقيمه، بحيث تستلبه استلابا، بل يكون حرا في تعامله مع قيم هذه الحضارة، سواء أكان ذلك التعامل في جانب "الإفادة والاستصحاب" لما فيها من خير نافع، أم كان في جانب [ ص: 212 ] "الاعتبار والتنائي" لما فيها من ضر وفساد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى إن في هذه "المعايرة" بثا لروح العزة والاستعلاء والقوة في نفس المسلم؛ وتحريكا لعناصر الوعي بما يمتلكه من القيم العليا المزكية للإنسان، والبانية للعمران، والمفاهيم الراشدة في "تحريك الحياة" كما أقرها الوحي المعصوم، في أبعادها الإنسانية، والكونية، والتراحمية، فيستشعر في نفسه القدرة على "البعث الحضاري"، والقدرة على "استئناف العطاء"، ويتمكن المسلم من أداء دوره في تزكية الحياة، وترقية أحوال الأمة، و "الإسهام في تقويم المسار" الذي أخذ يسلكه "النظام العالمي" الجديد، بدلا من "عقلية الوهن"، و "الانهزام النفسي" الذي تعيشه أمتنا اليوم.

          ثالثها: "تقويم المشكلات والمتغيرات العالمية" ومساءلتها ومحاكمتها بقيم الإسلام، ومقاصده، في "تحريك الحياة"، وخاصة "مشكلة البيئة"، و "علاقة الإنسان بالأرض" وما تعانيه الأرض اليوم من: "التلويث"، و "التخريب"، و "العبث"، وفقدان "الرشد والتوازن"، وسيادة "منطق القوة"، و "الجشع" في التعامل مع معطيات الكون (من خلال عملية غزو إمبريالية للكون تتم لحساب الإنسان الغربي وحده، وإن كان يتأثر بنتائجها كل سكان الأرض!!) ذلك المنطق الذي يسحق "الآن الغابات، والمحيطات، والغلاف الجوي، والمياه العذبة المتجددة، والريح والمطر، والتنوع الثري للحياة ذاتها" حتى أصبحت البشرية اليوم، أكثر فاعلية وقدرة في مجالات التدمير منها مجتمعة في كل العصور التي مضت، وكانت النتيجة أن بدأت الأرض تموت!! بالإضافة إلى ما يسود العالم الآن من علاقات، تحكمها مقولات من نحو: "نهاية التاريخ" و "صراع الحضارات" و "النظام العالمي الجديد"... إلخ وهي مقـولات تحمل في طياتها ما يمكن أن نسميه بـ"صناعة العدو" و "البغي الحضاري" الذي يعمل على "استلاب الآخر" من قيمه وذاته، استتباعا وتنميطا، أو تخريبا وتدليسا. [ ص: 213 ]

          وفي هذا الإطار يبرز أن "منظومة القيم" في الإسلام، تمتلك برنامجا كاملا، وقادرا على أن يسهم بقوة في علاج كثير من مشكلات الحضارة الإنسانية المعاصرة، التي تنكبت طريق الوحي، وتمركزت حول ذاتها، تدمرها ومن حولها، إنسانا وطبيعة، فالإسلام قادر على إحلال عامل "الرشد" في مسير الحضارة الإنسانية، بدل عامل "البغي"، وما أحوجها إلى ذلك!! من خلال قيمه التي تقوم على: "التوازن والتجرد"، و "أداء الحقوق"، و "مراعاة الحرمات ورفيع الأذواق"، و "أخلاق البذل والإيثار"، و "اصطناع المعروف"، و "ابتغاء الفضل وبذله"، و "التعارف"، و "التراحم"، و "محاربة الطغيان الحضاري" و "الاستئثار العمراني"، وكذلك قيم الائتمان الكوني وما تحمله من معان ودلالات مستبطنة في تعاليم الوحي قرآنا وسنة، من حيث وجوب التزام الإنسان، ماديا وأخلاقيا، نحو كل الموجودات والأشياء في الكون، فيما له هو منها، وما لها هي منه، وما يضيفه هذا المفهوم من وعي حضاري في "تحريك الحياة" تحريكا يقوم على: "الزهد والإيثار الكوني" "تقللا" و "اعتدالا" في التعامل مع مقدرات الكون، وموارده، تعامل القيم الراعي المحكوم بمقاصد الشرع، لا تعامل الشهواني المستهتر، المحكوم بمقتضيات الشهوة.

          ثمة إذن يقين في أن تضمين هذه القيم في خطابنا، وتشغيلها في الإجابة عن الأسئلة التي يطرحها واقع العالم الآن، وتفعيلها في مواجهة المشكلات التي يعاني منها إنسان "منظومة الحداثة الغربية" لا يمثل إمكانا لنقد قيم (الآخر) في "تحريك الحياة" بعد أن أدخلت "منظومة الحداثة" الغربية الإنسان في أزمة مع الكون ومستقبله، فحسب، بل يقدم أيضا نقدا لواقع المسلمين، ومدى تفريطهم حينما غيبوا في خطابهم ، بوعي أو من دون وعي، هذه القيم التي تقدم رؤية معرفية "شاملة" و "راشدة" لـ"تحريك الحياة".

          وهكذا، فإن هذه "الآليات" الثلاث: "إعادة الاعتبار لقيم تحريك الحياة في الإسلام"، و "نقد قيم الحداثة الغربية"، و "تقويم الأحداث العالمية بقيم [ ص: 214 ] الإسلام، ومحاكمتها إليها" مما يجب العناية به، وإدخاله، في مفردات "خطابنا القيمي"؛ إذ إنها "آليات" تمكننا من "الوعي بالذات" وما نملكه من قيم قادرة على "تحريك الحياة" بمنهجية "راشدة"، كما تمكننا من "رؤية الآخر"، و "ترتيب علاقتنا به"، و "وعينا" بما يملكه من قيم تحمل "انحرافات كثيرة" في منهجها نحو "تحريك الحياة"، مما يدفع المسلم إلى العمل جاهدا على تنـزيل هذه القيم في واقعه، بل والعمل على "تكوين رأي عام كوني" لصالح قيم الإسلام؛ حتى نبقي على قيمنا، وعسى أن نصحح، يوما، ما فسد من قيمهم.

          ثانيا: حراسة القيم:

          وهي "آلية" ذات أهمية كبيرة، في عمـلية "تفعيل" القيـم الإسـلامية؛ إذ لا يكفي في تفعيل القيم في حياة المسلم "تنـزيلها" على واقعـه، فحسب، بل لابد من "حراسة" هذا التنـزيل، والدفاع عنه، وحمايته مما يطرأ عليه من "آفات" وخاصة آفتي:

          - "الجمود"، إذ قد تكتفي الأمة بالقيـم التي بذلت جهدا في تنـزيلها، فلا تتطلع إلى تجديد "آليات" هذا التنـزيل، ولا تقويمه بالنظر في واقعه، والتدبر في عواقبه ومآلاته، فتبقى عاجزة عن إيجاد "البرامج" الجديدة، والاجتهاد في "تطبيقها"، مما قد يصيب هذه القيم بـ"الجمود"، و "انطفاء الفاعلية"، و "العجز عن النمو والاستمرار".

          - "الانفصال"، إذ متى ما طال جمود الأمة على قيمها، أدى ذلك إلى انفصال واقعها المتجدد، وحاضرها المعيش عن تلك القيم "الانفصـام النكد" كما حدث للأمة من قبل، حينما جمدت على قيمها، ولم تجتهد في تجديد "آليات" تنـزيلها، ولم تعمل على تنميتها، حتى آل أمر الأمة إلى ما نحن عليه اليوم من "غياب للقيم" أو "انحراف في الممارسة"!! [ ص: 215 ]

          و "الجمود" و "الانفصال" آفتان، توقفان حركية القيم، وتفقدانها فعاليتها في الفكر والروح والحركة، وتعطلان "آليات" وتجنب ذلك اقتضى حركة واعية، وتتطلب فقها ومراقبة، في "منهاجية" تقوم على أمرين، هما:

          1- "فقه الواقع الحضاري" الذي يحتوي الوجود الدنيوي للأمة، بكل أسئلته، وسماته، وبكل امتداداته التاريخية والمستقبلية، وبكل تنوعاته، بالغة التعقيد والتركيب والتشابه، والاجتهاد في تطوير "آليات" يتم من خلالها تفعيل قيم الإسلام في تقويم ذلك الواقع، وتزكيته، والارتقاء به إلى "الحياة الطيبة" والاجتهاد في تنـزيل هذه القيم تنـزيلا صحيحا، بـ"نفس مقاصدي" يروم الموازنة بين الأفعال، والترجيح بين المصالح والمفاسد، وفي ضوء وعي شديد بوجوب "اعتبار الواقع لا تحكيمه، ورده الرد الجميل إلى قيم الإسلام" [10] ، ووجوب "اعتبار الأولويات واستصحابها في عملية تنـزيل القيم"، ووجوب "اعتبـار مآلات تنـزيل هـذه القيم وعواقبهـا" حتى لا تجلب مفسـدة عوض المصلحة المقصودة، أو تفوت مصلحة أكبر من أجل مصلحة أدنى!! إننا نستطيع أن نقرر في يقين: إن واقـعا لا يتـم تفعـيل القيم فيه، أو الارتقاء به إليها، يفرز جملة من الممارسات، إما تفرض الأمر الواقع، وتوحي بالاستسلام له مهما كان ظالما، وإما تفرض الادعاء بعدم صلاحية هذه القيم لاحتكام الواقع إليها، وتوحي بضرورة جلب قيم غيرها، وهذا يعني: أن "حراسة القيم" في حياة المسلم، تقتضي اجتهادا مفتوحا على "الواقع" حـالا واستقبالا؛ إذ هو اجتهاد [ ص: 216 ] لا يمكن أن ينقطع، بل يظل مستمرا إلى يوم الدين، كما تقتضي اجتهادا مستمرا في إبداع "الآليات" التي يتم من خلالها تفعيل القيم في هذا الواقع، ثم تبقى، بعد ذلك، قضية معالجة الواقع وتزكيته, وتنـزيل القيم بكل ما تحتاج إليه، مجال سجال وحوار وتشاور وتعاون بين طبقات الأمة وقادة الرأي والخبرة فيها، في كل مجالات: النظر والعمل والمهن والحرف والخدمات، وجميع وجوه الارتفاق والمصالح.

          2- "فقه التوجه إلى السلوك الحضاري" للأمة، ومراقبته، وتوجيه انحرافاته، ورده إلى المعيار، والمثابرة على هذا التوجه، وهذه المراقبة، فمما لا شك فيه أن "معاودة إخراج الأمة" و "استرداد فاعليتها" و "شهودها الحضاري" منوط بالتوجه نحو سلوكها ومراقبته، ومعايرته بقيم دينها، وهذا يقتضي أن تكون الأمة المسلمة، في حالة مراقبة دائمة لذاتها، ولأعمالها، في حركة ذات اتجاهين متوازيين متكاملين، حركة في داخل الأمة نفسها من أجل تنميتها وتطهيرها والصعود بها في مراتب الكمال ومدارج الخير، وحركة في الكون، من أجل النظر في مفرداته وعطاءاتها؛ لاستثمارها والتفاعل معها، وهذا يعني:

          - "تعميق الإحساس بالمسؤولية"، مسؤولية المسلم عن الأمة بل عن الإنسانية كلها، وكذلك مسؤولية الأمة عن الفرد، بل عن الإنسانية كلها، وعن وجوب "تنـزيل هذه القيم" في الحياة، وذلك من خلال: الاجتهاد في إيجاد "الآليات" و "البرامج" الفردية والمؤسساتية، والتي من خلالها يتم تنـزيل هذه القيم في حياة الفرد والأمة. والاجتهاد في إيجاد "الآليات"، و "وسائل الرقابة العامة"، و "تطوير الأساليب والأوعية الشرعية" التي "تصوب المسيرة" وتمنع من الاختلال في "تنـزيل هذه القيم". وهذا ما يجعل النفس أبدا قلقة متحفزة لبذل جهد مع الباذلين، وفي حالة الاستنفار والاستعداد للدفاع عن هذه القيم، [ ص: 217 ] وحراستها، والوعي المستمر بتجديد "برامج" و "آليات" تنـزيلها، بما يحفظ كيانها، ويعمل على استمرارها.

          - "ضرورة المناصحة والمراجعة"، أمرا بالمعروف، ونهيا عن المنكر، وتحديدا لمواطن الخلل والتقصير، ووقوفا على الانحرافات التي تقع فيها الأمة في أثناء سعيها لـ"تحريك الحياة" وما يقتضيه ذلك من "التفاعل" و "الحوار المفتوح" و "التجديد المستمر" الذي ينفي "نوابت السوء" ويعيد للقيم عطاءها، وتفعيلها؛ وغياب هذه المناصحة من أهم عوامل "عطالتنا الحضارية" ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم ) [11] . ومعلوم أن "التوجه إلى السلوك" و "مراقبته" على هذا النحو، يجعل الأمة دائمة الاندفاع في "تحريك الحياة" وفق قيم: "الاستخلاف" و "التزكية" و "الاستعمار الإيماني للأرض" اندفاعا فاعلا لا يدخله "الوهن" و "الفتور"، أو "الجمود" و "الانفصال".

          ثالثا: تنمية القيم:

          فليس أقدر على "تنـزيل القيم"، و "حراستها" في حياة المسلم، من "تنمية هذه القيم" إنتاجا وإبداعا، من خلال ربط قيمنا بواقعنا الحي، والتعرف على مدى قدرتنا على إبداع جديد القيم التي يتطلبها راهن هذا الواقع، وعلى استنباط القيم التي نواجه بها مصاعب مستقبلنا، وبذل الجهد في تحقيقها والتحقق بها، وهذا يحتاج إلى أمرين: [ ص: 218 ]

          - الكف عن الاستمرار في الحديث عن استيراد "قيم النموذج الغربي"، وتكرار ما قال به بعض علمائنا ومفكرينا من أن "مشروع الحداثة الإسلامي" هو بعينه مشروع "الحداثة الغربية" بعد إضافة بعض القيم إليه، بعد أن توهم هؤلاء أن "الحداثة الغربية" واقع لا يزول، وأنـها نافعة لا ضرر منها، وكاملة لا نقص فيها!! وكذلك الكف عن البحث عن (الآخر) بقيمه ومقولاته، في قيمنا ومقولاتنا؛ لتأكيد أنها موجودة في الإسلام، بل وسبق الإسلام إليها، وكأنه "المعيار" لكل حركات الحياة، وكأننا لا نجد صورتنا إلا فيه!! بل أصبح من المتعين على مفكرينا وعلمائنا، بعد أزمة "الحداثة الغربية"، أن يأتوا بمشروعهم "الحداثي" وفق رؤية الإسلام الشاملة، ومقاصده التي تربط الإنسان بخالقه، من جهة، وتربط الإنسان بالكون ومفرداته من جهة ثانية، وبأخيه الإنسان من جهة ثالثة، ومن هنا يأتي الحديث عن الإنتـاج والإبداع، بدلا من التلقي والتقـليد؛ إذ لا تنمية بغير تميز، ولا إبداع بغير خصوصية.

          - الانخراط الواعي في قضايا الأمة، بل في قضايا الإنسانية كلها، والعمل على إبداع قيم جديدة، تعالج هذه القضايا وفق رؤية الإسلام، ومقاصده في "تحريك الحياة" حالا ومآلا، بل أن نعيد إبداع قيم نافعة تم تناسيها (مثل قيم: الزهد والإيثار الكوني، والتعارف والتراحم، والائتمان على المستقبل...إلخ) وتأكيد على ضرورة بناء مفاهيم قيمية مستقاة من الوحي، قرآنا وسنة، واعتبار "منظومة المفاهيم الإسلامية"- بعد أن حاول الكثيرون تنحية الإسلام عن كونه مصدرا تأسيسيا في بناء المفاهيم- تشكل "القبلة الفكرية"، إن صح التعبير، التي يجب التوجه إليها، فالوحي يعد مصدرا هائلا لمفاهيم تشكل نماذج معيارية [ ص: 219 ] وقياسية، تتميز بكونها "منظومة" متكاملة للحكم على الأشياء والوقائع والمستقبل، فعلى سبيل المثال، نجد من القيم التي يتعين إبداعها اليوم في "تحريك الحياة"، ونشر الوعي بمفاهيمها، على مستوى البشرية كلها، قيم: "التسخير الكوني"، و "التكريم الإنساني"، و "السعي الحي"، و "الحركة المسؤولة"، و "التزكية"، و "مراعاة حق النفس، بتمام التخلق وتمام التعقل وتمام التعبد" و "مراعاة حق الغير، عدلا وإحسانا وتراحما ومجاهدة"، و "العلم النافع"، و "العمل الصالح"، و "ابتغاء الفضل"، و "الاستقامة في التعامل مع مفردات الكون، حفظا وانتفاعا واستثمارا"، و "القوامة الكونية"، و "الإيثار الكوني"، و "الائتمان على المستقبل"، و "الرشد"، و "البغي"، و "الوهن"، و "التدبر والاعتبار"، و "الابتلاء الحضاري"، و "التدافع"، و "التذكير بأيام الله"....إلخ .

          فمثل هـذه القيم -والتي لا نجد لها مثيلا في القيم الكونية المزعومة- يمكن أن تكون بمنـزلة "المقاصد الإنسانية" الكبرى، التي ينبغي أن يسترشد بها العالم في سعيه نحو "تحريك الحياة"، والتي إن فعلها لأدى ذلك إلى دفع "الآفات" التي دخلت على اختياراته الحضارية، من جهة، ولأدى إلى تغيير حركة الحياة على وجه الأرض، صـلاحا في الحال، وفلاحا في المآل، من جهة ثانية. وهذا يدفعنا إلى أن ننشـئ من المفـاهيم الحضـارية ما لم تنشئـه الحضارة الغربية، ونوفر لها "المشروعية" عن طريق إسنادها إلى أدلة صحيحة من ثقافتنا الإسلامية، وإشاعتها في مجالنا التداولي، وأن نوفر لها "الإنتاجية" عن طريق تفعيلها، ومحاكمة حركة الحياة والأحياء من منظورها، واستخراج نتائج مثمرة منها، وبيان نفعها في تحريك الحياة. [ ص: 220 ]

          وبعد،

          فقد آن الأوان لكي نعيد الاعتبار إلى قيم الإسلام، وتفعيلها في حياتنا، تنـزيلا، وحراسة، وتنمية، وأن نصوغ، في ضوء هذه القيم، خطابا إسلاميا يكون على مستوى سؤالات الإنسان المعاصر، وأن نخوض معركة في بناء مفاهيم حضارية وفق رؤية ديننا في "تحريك الحياة" من خلال قيم: "الاستخلاف"، و "التزكية"، و "الاستقامة في التعامل مع مفردات الكون وعطاءاتها"، وتحويل هذه القيم إلى "مفردات شرعية" تحكم الواقع الإنساني، أفرادا وجماعات. وهذه هي "الحداثة" الجديدة التي يمكن أن يقدمها الإسلام للبشرية كلها، حداثة تهدف إلى "ترقية الوجود"؛ إذ إنها تبلغ النهاية في وصل الإنسان بربه، تعبدا وتعقلا وتخلقا، كما تبلغ الكمال في وصل الإنسان بأخيه الإنسان، تعارفا وتراحما وإحسانا. كما تبلغ المنتهى في التعامل مع مفردات الكون، انتفاعا واستثمارا وائتمانا، فلا تتصارع مع الكون، ولا تتسلط عليه، وإنما تخاطبه، بل تتوادد معه وتراحمه، حتى يبوح لها بأخباره وأسراره!! وبذلك، وحده، تحقق الأمة "شهودها الحضاري" لا أن نترك قيمنا تعاني غربة الزمان والمكان، ثم نجعل الإشـكال فيها، والحقيقة أن هذا إشـكال المسلم، لا إشكال قيمه، وقديما قالت العرب في كلامها: "من رام التفلت، طال منه التلفت، ويوشك أن ترهقه المتاهات، وتتلفه العوائق"!! وصدق الله إذ يقول: ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون ) (الأنفال:24).

          ولله الأمر من قبل ومن بعد. [ ص: 221 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية