الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          الفصل الثالث

          الاستقامة والاستعمار الإيماني للأرض

          عمارة الأرض صنعة المؤمن:

          إذا كانت "التزكية" كما تقدم، هي الركن الأهم في عملية التغيير، وإنشاء مجتمع "الاستخلاف" بما تمثله من منهج إسلامي فريد في ترقية الإنسان في علاقته بربه، وبنفسه، وبأخيه الإنسان، وبعالم الأشياء من حوله، فإن "الاستعمار الإيماني للأرض" هو الركن المكمل لعملية "الاستخلاف" والقيمة الحضارية الكبرى في الإسلام التي تؤطر حركة الاستثمار في الكون، والتعامل مع الأشياء وفق منهج الله في أمره ونهيه؛ حيث المقصد العام للشريعة الإسلامية: إصلاح الأرض وعمارتها، وتزجية معاش الناس فيها، وتحقيق التمكين عليها، وتعبيد الفعل البشري لله سبحانه، بحيث تكون جميع فعاليات الكون متجهة إلى الله (عبادة كما شرع، وعمارة للأرض كما أمر) فمهمة الخلافة تقتضي التعمير في الأرض تعميرا ماديا بالمنشآت الصالحة، وبالصناعة والزراعة ومقتضياتهما، وتعميرا معنويا بإقامة العدل وإشاعة الإحسان بين الناس، يقول العلامة الطاهر بن عاشور: "إن من أكبر مقاصد الشريعة: الانتفاع بالثروة العامة بين أفراد الأمة على وجوه جامعة، بين رعي المنفعة العامة، ورعي الوجدان الخاص، وذلك بمراعاة العدل مع الذي كد لجمع المال وكسبه، ومراعاة الإحسان للذي بطأ به جهده. وهذا المقصد من أشرف المقاصد التشريعية" [1] ، ويقول الشيخ علال الفاسي: "المقصد العام [ ص: 99 ] للشريعة الإسلامية هو: عمارة الأرض، وحفظ نظام التعايش فيها، وصلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة، ومن صلاح في العقل وفي العمل، وإصلاح في الأرض، واستنباط لخيراتها، وتدبير لمنافع الجميع" [2] .

          وهذا "المقصد التشريعي" في الحضارة الإسلامية، يوضحه النهي النبوي عن: "كلالة النفـس" [3] ، يقـول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه، حتى يصيـب منهمـا جميعا؛ فإن الدنيا بلاغ إلى الآخرة، ولا تكونوا كلا على الناس ) [4] ، قال الإمام الزمخشري: "كل، أي: ثقل وعيال على من يلي أمره ويعوله" [5] ، فـ"الكل" من الناس، هو العاجز، الذي يثقل عليه الأمر، فلا ينبعث فيه، بل يتكل على غيره في تحقيق شؤون نفسه، وفي قوله صلى الله عليه وسلم : ( ولا تكونوا كلا على الناس ) لمسة حضارية في غاية الأهمية؛ إذ يشير إلى وجوب أن تشارك هذه الأمة في حركة الحياة مشاركة الأقوياء، ولا تكون عالة على غيرها، فتكون أداة طيعة في يد غيرها يوجهها إلى الوجه الذي يريده هو، وليس على الوجه الذي تريده هي، وهذا القول من علامات النبوة؛ إذ تتأمل حولك، فترى كيف ضاع بالغفـلة، وكلالة النفس، ما فتح علينا، فأفضت بنا كلالة [ ص: 100 ] النفس إلى ما أفضت بنا إليه، وطمع عدونا في بلادنا، وكاد لنا، وغفلنا بل كللنا، فكان ما كان!!

          فلا ينبغي للمؤمن أن يترك عمارة الأرض، فيصبح عالة على غيره، متكلا عليه، عاجزا عن نفع نفسه، متكاسلا في صنع حياته ومستقبله، منـزويا منكفئا على نفسه، فيتغلب عليه (الغير)، ويستلبه استلابا، فيفقد ذاته ومبرر بقائه؛ لما في ذلك من الوهن في النفس والمعاش، و "الانحسار الحضاري" للفرد والأمـة، بل ولما في ذلك من الوهن في العبادة نفسها!! إذ إن الفقر، في أغلب أحواله، يلهي عن العبادة، بالإضافة إلى أن كثيرا من عبادات الإسلام تحتاج إلى المال الذي هو عصب كل عمران، كالصدقة، والحج، والجهاد، والبر والإحسان إلى (الغير)؛ ومن ثم قال علماء الإسلام: "نعم العون على تقوى الله الغنى" [6] ، كما جاء في الحديث الشريف: ( بادروا بالأعمال سبعا، هل تنتظرون إلا فقرا منسيا؟ ) [7] أي: "جاعل صاحبه مدهوشا، ينسيه الطاعة؛ من الجوع والعري والتردد في طلب القوت" [8] ، إضافة إلى ما يجلبه الفقر من حرمان، وانحراف للنفوس، قد ينهدم معه بنيان الأمة ، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف ) [9] ؛ ومن ثم أوجب فقهاؤنا وجوب سعي الدولة نحو الغنى وكفاية الخلق، لما له من آثار إيجابية في أخلاقهم، وهذا ما بينه الإمام الماوردي، في تحليل نفسي [ ص: 101 ] يعد من الوثائق الفقهية عالية المستوى، في بيان طبيعة النفس الإنسانية ومحركاتـها، وأسباب انحطاطها أو مدارج سلامتها، يقول في بيان القواعد التي تقوم عليها الدولة: "خصب دائم، أي: الوفرة في نتاج الأرض، والممتلكات والأموال، فبها يقل في الناس الحسد، وينتفي عنهم تباغض العدم، وتتسع النفوس، وتكثر المواساة والتواصل، وذلك من أقوى الدواعي لصلاح الدولة وانتظام أحوالها؛ لأن الخصب يؤول إلى الغنى، والغنى يورث الأمانة والشجاعة" [10] .

          فهذا واضح في أن "اليسر المادي" الذي يحققه نمو الإنتاج، واستثمار موارد الحياة، هدف يسعى إليه مجتمع المتقين، وتفرضه النظرية التي يتبناها هذا المجتمع ويسير على ضوئها في الحياة، بعيدا عن أخلاقيات الفقر، ومقتضيات الحاجة والعوز؛ ولعل ذلك كان هو السر في كثرة تعوذه صلى الله عليه وسلم من "الكسل ورفاقه" كما يقول الصحابي الجليل أنس بن مالك، رضي الله عنه: ( كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نـزل، فكنت أسمعه يكثر أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين وغلبة الرجال ) [11] ، ولعل ذلك كان هو السر أيضا، في كثرة نهيه صلى الله عليه وسلم عن "التبطل وسؤال الناس" ودعوته إلى "السعي"، في ساحات الحضارة، و "الاحتطاب" من قيمها وأخلاقها وعلومها ومدنيتها ومعاشها، ففي صحيح البخاري: "عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله، فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلا فيسأله أعطاه أو منعه ) [12] [ ص: 102 ] ، وفيـه: "عـن عروة بن الزبير وسعيـد بن المسيب، ( أن حـكيم بن حزام، رضي الله عنه، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من اليد السفلى ) [13] ، وقوله عليه السلام: ( اليد العليا خير من اليد السفلى ) جملة بوركت في أمته صلى الله عليه وسلم ، وهي تزهد في المسألة، ومد اليد بالأخذ، ثم هي ترغب في الثروة، التي يتحقق فيها مد اليد بالعطاء، وحسب المال فضلا أن تكون اليد به أعلى.

          - مفهوم الاستعمار:

          واستعمار الأرض، بمفهومه الإسلامي، يعني: الحركة الحية في الأرض؛ لاستثمارها وتعميرها، واستغلال منافعها، وتسخير مرافقها، أي: عمارة الأرض، بمنهج العبودية لله تعالى، والتفاعل مع الكون، علما بقوانينه، واستثمارا لخيراته، وارتفاقا بمقدراته، في غير سرف ولا عبث ولا إخلال بنظامه الموزون [14] .

          فهو مفهوم في بنائه الإسلامي، يشير إلى أمرين:

          أولهما: أنه حركة موصولة بمفاهيم الإسلام عن الكون والحياة والأحياء، وطريقته في تفسير الأشياء، كما أنه مرتبط دائما وأبدا، ابتداء وانتهاء، بمنهج الله تدبرا واعتبارا، تحقيقا لخلافته، وسعيا لعبادته، وقربا من رضاه ومحبته، من خلال حركة عمرانية مؤسسة على الوحي، سائرة في صراط الله المستقيم، تقوم على [ ص: 103 ] "العلم النافع" و "العمل الصالح"، وتلغي من بنيتها الداخلية كل خصوصية تقوم على "الأنوية" و "الأنانية" و "الظلم" و "التعصب" و "العنصرية"، وقد جمع القرآن هذه المعاني في قوله تعالى: ( وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ) (هود:61) ، فـ"الاستعمار" للأرض وفق هذا المفهوم القرآني منظومة تحريك كاملة، وواسعة جدا، ينطلق من خلالها المؤمن؛ لكي ينسج علاقاته مع غيره، ومع الطبيعة والأشياء، من زراعة وصناعة وهندسة وبناء، وفق منهج الله في أمره ونهيه، وكل حركة في الأرض لا تكون وفق منهـج الله لا تكون "استعمـارا" لها، بل هي فساد فيها، والفساد، كما يقول الإمام أبو حيان الأندلسي في تفسيره: (ضد الصلاح، وهو معاندة الله في قوله: ( وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ) ) [15] ، وهـكذا يعلم المسـلم أن سعيـه في الحياة، وحركته في استثمار طاقات الكون، لا ينبغي أن يكون وسيلة لإتلافها، ولا أداة للتميز عن الآخرين في مظـاهر الحيـاة وزينتها، أو حرمانهم من التمتع بطيباتها، وإنما هو مسؤولية وخلافة ومشاركة.

          ثانيهما: أنه حركة مرتبطة بالعبادة بمفهومها الشامل، وفق المبدأ الإسلامي: "كل تصرف للعبد تحت قانون الشرع فهو عبادة" [16] ، وهو مبدأ يشمل جميع حركات الإنسان في الكون؛ ولذلك ربطت وظيفة العمران، في أحد أبعادها القرآنية، بعبادة الله: ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم [ ص: 104 ] الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ) (التوبة:18) ، فيكون سعي العبد في تعمير الأرض، عبادة ، وشعبة من شعب الإيمان البضع والسبعين، احسب منها إن شئت- بين الإيمان بالله والإقرار بوحدانيته، وإماطة الأذى عن الطريق [17] - كل حركة لتعمير الحياة، من التدبر في آفاق الكون، وسنن الحياة، ومحاربة الاستغلال، وإحسان البنيان، وتصريف الأموال، والكسب الحلال....وغير ذلك؛ فكل شعبة من شعب الحياة حين يعالجها الإسلام يمزج بينها وبين شعب الإيمان، ويصوغها في إطار من الصلة الدينية للإنسان بخالقه وآخرته!!.

          بل يعد الاستعمار الإيماني للأرض، والسعي في تحريكها بمنهج الله جهادا في سبيـل الله، وجزءا من معركة الأمة للاحتفاظ بوجودها وسيادتها وفق المفهوم العام من قوله تعالى: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ) [ ص: 105 ] (الأنفال:60) كما ورد عن ابن عباس، رضي الله عنهما، مرفوعا: ( طلب الحلال جهاد، وإن الله عز وجل يحب العبد المحترف ) [18] ، وفي رواية: ( طلب أو كسب الحلال فريضة بعد الفريضة ) [19] ، وفي رواية: ( طلب الحلال واجب على كل مسلم ) [20] ، وفي رواية: ( إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها الصلاة ولا الصيام ولا الحج ولا العمرة. قالوا: فما يكفرها يا رسول الله؟ قال "الهموم في طلب المعيشة ) [21] ، ولم يكن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم المرجعية والمرتكز الحضاري لهذه الأمة، من يميز بين الجهادين، جهاد الكسب وجهاد العدو، فقد جاء في ترجمة سعد بن معاذ، رضي الله عنه، ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من تبوك استقبلـه سعـد ابن معاذ الأنصاري، فقال: ما هذا الذي أرى بيدك؟ قال من أثر المر والمسحاة، أضرب وأنفق على عيالي، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم يده، وقال: هذه يد لا تمسها النار ) [22] ، قال الإمام السرخسي معلقا على ذلك، في لمسة حضارية في غاية الأهمية: "وفي هذا بيان أن المرء باكتساب ما لا بد له منه ينال من الدرجات أعلاها؛ وإنما ينال ذلك بإقامة الفريضة، ولأنه لا يتوصل إلى إقامة الفرض إلا به فحينئذ كان (أي: [ ص: 106 ] السعي في الحياة) فرضا بمنـزلة الطهارة لأداء الصلاة" [23] ، بل ذهب الإمام القرطبي إلى أن تحريك الحياة بالتجارة وكسب المال، والجهاد في درجة واحدة سواء، سوى الله بينهما في قوله تعالى: ( علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله ) (المزمل:20) ، قال القرطبي: "سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال، للنفقة على نفسه وعياله والإحسان والإفضال؛ فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنـزلة الجهاد؛ لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله" [24] ، بل ذهب الإمام محمد بن الحسن الشيباني إلى أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه "كان يقدم درجة الكسب على درجة الجهاد، فيقول: لأن أموت بين شعبتي رحلي أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله أحب إلي من أن أقتل مجاهدا في سبيل الله؛ لأن الله تعالى قدم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضله على المجاهدين بقوله تعالى: ( وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله ) [25] .

          وبذلك تكون حركة الحياة- عبر التفاعل مع الكون اعتبارا وتعميرا في خط العبودية لله تعالى- تأخذ، في المفهوم الإسلامي، صفة الواجب، ومفهوم العبادة، وتصير إرادة ربانية ينبغي أن يجري معها المسلم، وينحدر في تيارها، إعمالا لمقتضيات الإيمان بالله واليوم الآخر، وتفعيلا لمقاصد الشريعة في إعمار الكون، وتحقيقا لمهام [ ص: 107 ] استخلاف الإنسان في الأرض؛ باعتبار البناء العمراني، على تعدد أنماطه، مطلبا دينيا شأنه شأن سائر مطالب الدين، يحاسب المسلم عليه، إن استقال من عمارة الكون، فأخل بواجبات البناء والعمران فيه، قال الإمام الجصاص في بيان قوله تعالى: ( واستعمركم فيها ) ، يعني أمركم من عمارتها بما تحتاجون إليه، وفيه الدلالة على وجوب عمارة الأرض، للزراعة والغراس والأبنية" [26] .

          فاستعمار الأرض، واجب ديني، ومطلب من مطلوبات الإسلام، يجب على الفرد المسلم تحقيقه، فإذا هو أخل به، أو قصر في أدائه، فقد قصر في دينه، وأخل بالغاية التي من أجلها وجد وهي مهمة الخلافة في الأرض، ولعل ذلك هو أحد المعاني التي يشير إليها حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يعلمنا أبعاد الدور الحضاري وغايته ومداه، فيقول في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند [27] ، والإمام البخاري في الأدب المفرد [28] : ( إن قامت الساعة، وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل، ) وفي رواية: ( فليغرسها ) وفي حديث آخر يقول رسـول الله صلى الله عليه وسلم : ( من بنى بنيانا من غير ظلم ولا اعتداء، أو غرس غرسا في غير ظلم ولا اعتداء، كان له أجر جار (وفي رواية: كان له أجرا جاريا) ما انتفع به من خلق الله تبارك وتعالى ) [29] .

          فهذان الحديثان، وغيرهما كثير، يشيران إلى أن الدور الحضاري للمسلم في تعمير الأرض، واستثمار طاقات الكون، مستمر منذ لحظة الوعي الأولى وحتى ساعة [ ص: 108 ] الحساب، وأن الحركة الإسلامية في الأرض ينبغي أن تكون حركة إبداعية مستمرة؛ ترقيا في عبادة الله؛ إذ إن "غراسة الفسيلة في هذه الحالة ليست لغاية الارتزاق وتلبية الحاجة، وإنما هي استجابة لغاية التعمير في الأرض، التي هي غاية في ذاتها مطلوبة بالدين. إن من شأن هذا الوعي أن يدفع بالمسلم إلى آفاق الكون يباشرها بالفكر والعمل، بغاية الارتفاق التعميري باعتبار ذلك دينا، وليس هو مجـرد سـد حاجة أو تحقيق رفاه، فيكون الوازع الإيماني في التعمير المادي هو المحرك للنفوس كي تنفر في الانتفاع بالبر والبحر وما فيهما من خير، وفي بناء العمران على اختلافه، وفي إقامة التصنيع لإنتاج الكساء والآلة الميسرة للحياة ولطرق العمل للمزيد من الإنتاج. وحينما يكون المسـلم واقعا في نفسه أن ذلك كله إنما الإقدام عليه هو عبادة لله، فإنه سيكون نافرا إليه كما ينفر إلى سائر العبادات، فإذا نادى داعي العمل في أي مجال كان، لبى المسـلمون نداءه في نفير جماعي كما تراهم يلبون نداء الصلاة من يوم الجمعة" [30] .

          ويؤكد هذا المعنى- أن تعمير الأرض والبناء فيها وفق منهج الله عبادة يجب على المسلم أداؤها، ويثاب على فعلها، ويأثـم بتركها- نهي النبي صلى الله عليه وسلم فيما سبق عن "كلالة النفس" بقوله: ( ولا تكونوا كلا على الناس ) وكذلك ما جاء في صحيح البخـاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له به صدقة ) [31] ، ففي هذا [ ص: 109 ] الحديث الشريف دليل على أهمية العمل والسعي الحضاري والتعمير الإيماني للأرض، كما أن فيه دليلا على فساد ما يذهب إليه بعضهم من الركون والدعة والبعد عن عمران الحياة، بدعوى "الزهد" متذرعين في ذلك بأحاديث من نحو حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك ) [32] ، وحديث: ( ألا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالم أو متعلم ) [33] . والحقيقة أنهم فهموا معنى الزهد فهما سلبيا، وهو ترك إعمار الحياة، والسعي في الأرض، وهذا مناف لكل حقائق الإسلام، بل المراد من الزهد هنا كما هو واضح "الزهد الإيجابي" الذي يدعو المرء إلى إعمار الدنيا، [ ص: 110 ] والسعي فيها، وفق منهج الله في أمره ونهيه، ووفق قيم الإسلام الحاكمة والضابطة لسعي المسلم في الحياة، فلا يمتـلك المرء مخيلة و لا بطر، ولا يتحـكم فيه إسراف ولا ترف، ولا يغتر بالدنيا وزينتها فيسير فيها ظلما وطغيانا وفسادا، والذي من شأنه "أن يميت في النفس الاهتمام بالأعمال الصالحة، والمنافسة لاكتسابها، فينحدر به التوغل في الإقبال على اللذات إلى حضيض الإعراض عن الكمال النفساني، والاهتمام بالآداب الدينية" [34] ، بل يكون سيدا للدنيا لا عبدا لها، ومالكا للطيبات لا مملوكا لها، مسخرا الدنيا لنفسه وفق منهج ربه، وقد كان ذلك منهج نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، رضي الله عنهم أجمعين، فقد كان صلى الله عليه وسلم يأكل من طيبات هذه الحياة، ولكنه لم يجعلها شغله الشاغل، ولا محور همومه، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم دبر كل صلاة: ( اللهم أني أعوذ بك من الكفر والفقر ) [35] ، كما كان منه أيضا: ( وأعوذ بك من فتنة الدنيا ) [36] .

          فالمسلمون الذين يمارسون إعمار الأرض بوصفها جزءا من السماء التي يتطلـعون إليها، ويسـاهمون في تنمية الثروة باعتبـارهم خلفـاء عليها، أبعد ما يكونون عن "الزهد السلبي" الذي يقعد بالإنسان عن دوره في الخلافة، وأقرب ما يكونون إلى "الزهد الإيجابي" الذي يجعل منهم سادة للدنيا لا عبيدا لها، ويحصنهم ضد التحول إلى طواغيت لاستغلال الآخرين، ونهب خيراتهم، فيكون سعيهم الحضاري في الحياة مؤطرا بقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم [ ص: 111 ] أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون ) (المنافقون:9) ، وقوله: ( واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم ) (الأنفال:28 )، والحياة، وفق هذا المنهـج في السعي، إنما العـون على الآخـرة، ولا خـير فيمن لا يسعى إليها، أما حينما يبتعد السعي في تحريك الحياة عن منهج الله، وتتخذ وسيـلة للإفساد، أو تعد غاية الغايات، فهذا هو السعي الذي يبعد الإنسان عن ربه، ويخرجه عن وظيفة الخلافة في الدنيا؛ ومن ثم يجب الزهد فيها.

          ومن أجل أن ينتزع الإسلام من الفرد المسلم هذا التعلق الشديد بالدنيا وهمومها أعطى للدنيا حجمها الطبيعي، من حيث هي وسيلة إلى الحياة الآخرة، وليست هدفا في ذاتها، والدنيا حينما تتخذ هدفا يتعارض مع الآخرة، أي مع عملية البناء العظيمة التي تدعو إليها الآخرة وتحث عليها، تتحول من دار للتعبد والاستخلاف، إلى أرض للهو والفساد. وأما حينما تتخذ الدنيا طريقا للآخرة، أي: أداة ينمي الإنسان في إطار خيراتها وجوده الحقيقي وعلاقته بالله، وسعيه المستمر نحو المطلق في عملية البناء والإبداع والتجديد، فإن الدنيا تتحول في هذه النظرة العظيمة من كونها مسرحا للتنافس والتكالب على المال، إلى مسرح للبناء الصالح والإبداع المستمر، قال تعالى: ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ) (القصص:77). [ ص: 112 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية