الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          أولا: الخلافة الاقتدائية:

          فخلافة الإنسان في الأرض ليست خلافة مطلقة، بل هي "خلافة اقتدائية" بالله تعالى، غايتها: تحقيق "مقصد العبادة في الأرض" وفق مراد الله وحده في أمره ونهيه، في جميع الأمور دقيقها وجليلها؛ ومن ثم فإن صفاته تعالى من: العدل، والعلم، والقدرة، والرحمة بالمستضعفين، والانتقام من الجبارين.... وكذلك أمره سبحانه في "فهم مقاصد الحياة" و "فقه حركتها ومحركاتها"، و "إقامة الحق والعدل" و "نصرة المستضعفين في الأرض"، و "بث التوحيد [ ص: 37 ] وإخضاع كل سعي في الحياة لما يوجبه" كل ذلك قيم تتحكم في مجتمع الخلافة، وأهداف للإنسان الخليفة، ينبغي له تحقيقها، وأن يخضع لها في تعامله مع الخالق، وفي تعامله مع الخلق؛ وفي هذا المعنى يقول الإمام الشاطبي: "فالمطلوب منه (أي: الإنسان الخليفة) أن يكون قائما مقام من استخلفه يجري أحكامه ومقاصده مجاريها" [1] ، وهذا يقتضي أن يكون المسلم في سعيه الحضاري لقيادة الكون، وإعماره اجتماعيا وطبيعيا، محكوما بقيم (الاستخلاف) التي تؤطر الإنسان بفلسفة تكريم كلية مستوعبة، والكون والطبيعة بفلسفة تسخير وإعمار لخير الإنسانية.

          فالإنسان، في تحريكه للحياة، ليس مخولا أن يتحرك فيها بهواه، الذي كثيرا ما يجمح إلى الفساد، أو باجتهاد منفصل عن توجيه الله الذي استخلفه واسترعاه، بل "يكون في كل منشط مادي أو معنوي متجها إلى الله تعالى، يستجلي مراده ويتحراه، ويبتغي مرضاته، ويجد في الفوز بها. وبهذا المعنى تكون حركة الإنسان على الأرض، في كل اتجاهاتها الفردية والجماعية، المادية والمعنوية، حركة عبادة لله تعالى...إن هذا المعنى يعطي إذن للتحضر الإسلامي بعدا خاصا به، يميزه عن سـائر أنماط التحضر الأخرى؛ إذ هو يدرجه جملة في إطار العبودية لله، فهو، إذن، في كل عناصره ومظاهره، مسيرة نحو الله تعالى، وهو تبعا لذلك يقـاس في ارتقائه وهبوطه بمقياس الاقتراب من الله والبعـد منه.. ولا نعلم أن حضارة أخرى تشارك الحضارة الإسلامية في هذا المعنى" [2] . [ ص: 38 ]

          ومعنى ذلك: أن العمران وبناء الكيان الحضاري يستمد قواعده الإيمانية الأخلاقية، والثقافية العرفانية، والجمالية الفنية، والتقنية المادية من هذه الرؤية الكلية الثابتة؛ فالله عز وجل، في البناء الحضاري الإسلامي، هو هدف الإنسانية جميعها، وغاية لتحركها الحضاري الصالح على الأرض، تسير بالمعاناة والجهد إليه سبحانه، محاولة، في سعيها، التخلق بمعاني أسمائه وصفاته [3] ، والتحلي بكمالاتها على قدر الإمكان [4] ؛ باعتبارها قيما تتحكم في مجتمع الخلافة، وأهدافا للإنسان الخليفةـ وكلما اقترب خطوة نحو هذا الهدف، وحقق شيئا منه انفتحت أمامه آفاق أرحب، وازداد عزيمة وجذوة لمواصلة الطريق؛ لأن الإنسان المحدود لا يمكن أن يصل إلى الله المطلق، ولكنه كلما توغل في الطريق إليه اهتدى إلى جديد، وامتد به السبيل سعيا نحو المزيد، في شعور دائم بالافتقار إلى الخالق على أن يـلاقيه، فلا يرى شيئا إلا ويرى الحق فيه، ولا يعرف شيئا إلا ويعرفه به، مما يمد الحركة الحضارية للإنسان بوقود لا ينفد، وهي تسير في طريق: أوله "الله سبحانه" المحيي، وآخره "الله سبحانه" المميت. [ ص: 39 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية