الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          ثالثا: البعد الأخلاقي:

          والمراد بالبعد الأخلاقي هنا: جملة القيم (المقاصد) والمعايير (الوسائل) التي تحيط بهذا الاستعمار وتوجهه، فالمسلم في سعيه الحضاري، وتحريكه للحياة، ينبغي أن ينطلق من الفهم المعنوي للحياة، والإحساس الخلقي بها؛ فكل سعيه فيها يكون محكوما بقيم الإسلام الحاكمة والضابطة لكل حركاته، في غاياته التي يرمي إلى [ ص: 123 ] تحقيقها، وفي الطريقة التي يتخذها لذلك؛ إذ هو ليس بالسائب، كما تقدم، بل محكوم ولابد بقيم الوحي، ذلك... أو التخبط!!

          ويعد تعبير: (الحلال، والحرام وما بينهما من مراتب الندب والاستحسان والكراهية) في الإسلام خير تجسيد للقيم والمثل التي تضبط حركة المسلم في تعمير الأرض، وتحريك الحياة؛ لأن قصة الحلال والحرام في الإسلام تمتد إلى جميع النشاطات الإنسانية، وألوان السلوك: سلوك الحاكم والمحكوم، وسلوك البائع والمشتري، وسلوك المستأجر والأجير، وسلوك العامل والمتعطل، وسلوك الإنسان مع الأشياء وكل مظاهر الحياة "فكل وحدة من وحدات هذا السلوك هي إما حرام وإما حلال، وبالتالي هي إما عدل وإما ظلم، لأن الإسلام إن كان يشتمل على نص يمنع عن سلوك معين سلبي أو إيجابي فهذا السلوك حرام، وإلا فهو حلال" [1] .

          فالمسلم مطالب في كل سعيه لتحريك الحياة، بحفظ الحقوق، ومراعاة الأخلاق، وفقا للمبدأ الإسلامي العام: "أن لكل خلق حقا أو حقوقا تخصه" أوجبها الذي خلقه، وسخر له هذا الكون بكل ما فيه؛ ومن ثم تصير الضوابط الأخلاقية، والقيم الحاكمة، شرعا منـزلا، وعبادات شرعية، يجب أن تنبع عن دافع نفسي نير، يدفع الإنسان إلى تحريك الحياة، واستعمارها وفق منهج الله في أمره ونهيه، وقيمه الحاكمة الضابطة؛ طلبا بذلك رضا الله تعالى، والقرب منه.

          وهذه الضوابط والقيم الحاكمة مجملة في قوله تعالى: ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ) [ ص: 124 ] (القصص: 77)، فهي ضوابط أربعة تمثل "قيما" تتحكم في سعي المسلم في "تحريك الحياة": "ابتغاء الدار الآخرة" و "أخذ النصيب من الدنيا"، و "الإحسان في حركة الحياة"، و "عدم الفساد في الأرض".

          ويمكن تقسيم هذه القيم إلى: قيم تؤطر حركة الإنسان في عمارة الأرض عموما، وإلى قيم تضبط نظرته إلى الأشياء، وحركة تعامله معها، على النحو التالي:

          أ- القيم الأخلاقية، التي تضبط حركة الإنسان في عمارة الكون عموما، وهي قيم يتلقاها كل مسلم عادة من الإسلام، ويتكيف بها نفسيا وروحيا، ويحدد سعيه وتحريكه للحياة وفقا لآدابها، فيكون في سعيه تابعا لها وموجها بها، ويمكن إجمالها في قيمتين جامعتين:

          أولاهما: تحصيل "العلم النافع"، و "العمل الصالح"، فليس، في الإسلام، سعي نحو مطلق "العلم" أو مطلق "العمل" لكي يتحكم الإنسان في الظواهر، ويشبع رغباته وملذاته، بل لابد من تقييد الأول بالنفع، والثاني بالصلاح الذي يجلب الرزق الطيب، والعمل المتقبل، كما جاء ( عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا صلى الصبح حين يسلم: اللهم إني أسألك علما نافعا، ورزقا طيبا، وعملا متقبلا ) [2] ، ولا تجد آية في القرآن الكريم تذكر الإيمان إلا وتربطه بالعمل الصالح: ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) (البقرة:82)...

          و "العلم النافع" هو ما كان باعثا على العمل، وفق منهج الله في أمره ونهيه، فلا يطلب المسلم العلم لذاته، بل لما يثمره من المنافع، ولا يقتصر على العلم بظاهر [ ص: 125 ] الأشياء، بل يتطلع أبدا إلى العلم بباطنها أو آجلها، ومن خلاله يتحكم الإنسان في أهواء الذات وإصلاح أحوالها، أو كما يقول الإمام الشاطبي: "هو العلم الباعث على العمل، الذي لا يخلي صاحبه جاريا مع هواه كيفما كان، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه، الحامل له على قوانينه طوعا أو كرها" [3] ، فهو العلم الذي يحقق الحفاظ على الوجود، والصلاحية والفعـالية والاستمـرارية للحياة، ومـا عدا ذلك ليس إلا عطالة حضارية، وفق قوله تعالى: ( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) (الرعد:17).

          و "العمل الصالح" هو ما كان مؤديا إلى صلاح البشرية في الحال، وفلاحها في المآل؛ فهو أصل هادف إلى عمران الإنسان في كل تكويناته وعلاقاته بما يهدف إلى ترقية الوجود في جميع المجالات الحضارية؛ وهذا يتحقق وجوده من خلال [4] :

          - النظر في حكمة الفعل قبل سببه، أي: النظر في المقاصد ومدى تحقيق الفعل لها، فإن وافق مقاصد الشرع، وغاياته الكلية، عمل به، وإن خـالفها ترك؛ إذ "قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقا لقصده في التشريع.. والمطلوب من المكلف أن يجري على ذلك في أفعاله، وألا يقصد خلاف ما قصد الشارع" [5] .

          - والنظر في مآل الفعل قبل حاله، إذ يجب في الشرعة "اعتبار المآل في تحصيل المصالح، أو درء المفاسد" [6] ، أي: استشراف الأثر المترتب على هذا الفعل [ ص: 126 ] في المستقبل، فإن كان مآله حسنا فعل، وإن كان قبيحا بأن أدى إلى مفسدة ظاهرة، أو يؤدي إلى مناقضة مقصد شرعي، فهو باطل مردود باتفاق الجميع، حتى ولو بدا نافعا في الحال والظاهر؛ إذ إن الظاهر لا يعبر عن الحقيقة كلها، قال تعالى: ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ) (الأنعام:116 )، وقال سبحانه، فيمن يقتصرون على الظواهر: ( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ) (الروم:7).

          - ثم إن صلاح العمـل، وفق الرؤية الإسـلامية وأصولها، لا يقتصر على ما يجلبه من صلاح في الدنيا وحدها، بل يكون في تواصل الدنيا والآخرة معا؛ ومن ثم فإنه لا يحكم على الفعل بالصلاح بناء على ماله من الظواهر والآثار الدنيوية، حتى يكون على بينة من آثاره الأخروية؛ بناء على أن كل عمل المسلم، حتى ولو كان معاشيا، إنما هو تعبد لله تعالى، وهذا هو معـنى "الاستخلاف" وما أراده الإمام القرافي بقوله: "لا يوجد حـق العبد إلا وفيه حـق الله تعالى" [7] ، وما أكده الشاطبي بقوله، مبينا وجوب نية الامتثال لله في أمره ونهيه في كل حركات العبد؛ لأن "في الأعمال المكلف بها طلبا تعبديا على الجملة" [8] ؛ ومن ثم فالأفعال تعرف مصالحها ومفاسدها وتوزن، من حيث تقام الحياة الدنيا للآخرة، لا من حيث أهواء النفوس وشهواتها في جلب المصالح ودرء المفاسد.

          إن فهم هذه العلاقة بين وجوب تحصيل "العلم النافع" و "العمل الصالح" والسعي الحضاري في الأرض، يكمن في عبارة دقيقة ساقها الإمام ابن القيم، [ ص: 127 ] حينما وضح التفاعل في منهج الفقه الإسلامي بين الواجب (القيمة) والواقع، وأن كلا منهما يجب أن يتنـزل على الآخر، علما نافعا وعملا صالحا، فيقول: "فهاهنا نوعان من الفقه لابد للحاكم منهما، فقه في أحكام الحوادث الكلية، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس، يميز به بين الصادق والكاذب والمحق والمبطل، ثم يطابق بـين هذا وهذا، فيعـطي الواقع حكمـه من الواجب، ولا يجعل الواجب مخالفا للواقع، وإلا ضاع الواجب والواقع، بين تفلت من الواجب، وغربة من الواقع" [9] ، وبهذا يتبن أن مبدأ "العلم النافع" و "العمل الصالح" يقضي بأن "نجعل حدا للهرولة الشديدة إلى التطبيقات التقنية للعلم، بل يقضي بأن نراجع مدلول البحث العلمي نفسه، فنبقيه خادما للحاجات الموجودة، لا خـالقا لها حيث لا توجـد، وخاضعا لقانون المقاصد والمآلات، لا لمنطق الأسباب والأحوال وحده... فليس كل تطبيق نافعا، ولا كل بحث مشروعا، وتتجلى هذه الإعادة في تقرير تبعية الأسباب في الأشياء للحكم التي من ورائها، وتبعية أحوالها للمآلات التي تنتهي إليها، ومتى تقررت هذه التبعية للحكم والمآلات، صار بالإمكان الارتقاء من نطاق الإجراء الآلي، إلى رحاب العمل المقصدي" [10] ، فاستعمار الحياة، في المنظور الإسلامي، عملية، في أصل مقصودها، تتجه صوب النفع والصلاح؛ ومن ثم لا يمكن تحريكها إلى مناطق هي ضد هذا القصد الأصلي في العمران، إلى عناصـر "طغيان" أو "فساد" أو "تخريب" أو "خلل" أو غير ذلك مما هو مفض لتقويض الأصول العمرانية، حتى ولو بدا ذلك تحت دعوى التقدم التقني والبحث العلمي!! [ ص: 128 ]

          ثانيتهما: ابتغاء الفضل من الله، فالمسلم في سعيه الحضاري لا يعمل بمبدأ السوق القائم على العمل بلا قيد، والتنافس بلا شرط، والربح بلا حد، واعتبار المصلحة المادية الخالصة وفق المنظور الغربي السائد الآن، بل سعيه في تحريك الحياة مشروط بـ"ابتغاء الفضل من الله"، كما قال تعالى، آمرا بالسعي في الأرض: ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ) (الجمعة:10) ، وقـوله: ( وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ) (النحل:14).

          فـ"الفضل" ليس مطلق سعي في تعمير الأرض مجردا من الاعتبار الخلقي، بل هو السعي المشروط بالخير والإحسان [11] ، ثم إنه فضل من الله؛ تنبيها إلى أنه سبحانه هو المالك الحقيقي، فلا يدخـل الإنسان في سعيـه بغي ولا طغيان، ولا يتصرف الإنسان في سعيـه إلا بـما يقربه من حضـرة ربه المتفضل عليه، مما يضمن لسعيه: أمرين، الأول: "التوفيق الإلهي" أي التسديد إلى ما فيه المنفعة، فيكون السعي محفوظا بمقاصد الشرع، مـوجها بها، بعيدا عن مخاصمـة الشرع أو مجانبته، والثاني: "العون الرباني" الذي يجلب "دوام الإنتاجية" فترتفع إنتاجيته، وتكثر منفعته، ماديا كان أو معنويا، وتحصل البركة في السعي امتدادا في الزمان والمكان، وفي هذه الحال يصير سعي العبـد في تعمير الحياة، وتحريكها بمنهـج الله، عبادة كما هو شائع في القول المأثور [12] ، فيكون سعيه منتجا ومسددا ومؤيدا على الدوام، [ ص: 129 ] وفي هذه الحال، أيضا: "تغدو التجارة، لا تبادل سلع تستنفد قيمتها في الاستهلاك المادي كما هو الشأن في اقتصاد السوق، وإنما تبادل أفضال تعرج بالمستهلكين إلى الأفق الروحي، وهكذا يتبين أن مبدأ "ابتغاء الفضل".. يجعل القيم الأخلاقية والروحية في صلب عملية التنمية الاقتصـادية، بحيث لا تكون هذه التنمية نافعـة ولا مشروعة، أي لا تكون تزكية بحق إلا إذا سعت إلى تحقيق هذا المقصد الخلقي والروحي، ومتى خالفته وجب مراجعة النظر فيها، بل تركها إلى تنميـة أخرى؛ لأنها ليست مقصدا في ذاتها، وإنما وسيلة إلى مزيد التخلق" [13] .

          على أن "ابتغاء الفضل من الله"، في تعمير الحياة، يقتضي عدة أمور، تعرف في فقهنا الإسلامي بـ"آداب المكتسب" [14] ، وهي كلها ضوابط أساسية لأي نشاط حضاري فعال، ومدارها إلى "منع الظلم والاحتكار، وتزييف الحسابات وغش المعامل، وترويج البضاعة بالكذب والربا، وتطفيف المكيال والميزان، واللعب بالأسعار والتغابن، وسائر أنواع الفساد" [15] .

          ومن أبرز هذه الآداب:

          1- طلب الحلال، فيجتهد المسلم في سعيه وكسبه، وتحريكه الحياة، في تحري الحلال؛ إذ إنه من أهم ما يقرب العبد من ربه، عملا بقول رسول الله: ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: ( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ) [ ص: 130 ] (المؤمنون:51) ، وقال: ( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ) (البقرة:172) ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك ) [16] ، وقد نص علماؤنا على أن من أكل الحرام فقد قتل نفسه، وقتل أخاه؛ لأنه أطعمه إياه، وليس هذا من سبيل المؤمنين؛ فالقلب الصادق المتوجه إلى الله، والمستمسك بأمره ونهيه، لا يكسب إلا الطيب، وليس بينه وبين الخبيث نسب، ولك أن تتصور المجتمع المسلم، وقد قامت فيه حركة الأموال والتنمية وتوظيف الثروات على هذا الأساس الكريم، واجتنب أصحاب رؤوس الأموال مداخل الخبث والشبهة، وأقاموا حركة مـالهم على الكسب الطيب؛ ومن ثم جعل النبي صلى الله عليه وسلم التساهل في طلب الحلال من علامـات آخر الزمان، فقال: ( يأتي على الناس زمان، لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام ) [17] .

          2- إحسان السعي، وذلك بإتقان الصنعة، وصلاحها، وحسن بقائها، مع نهاية في تجويدها وإحكامها، وهي قيمة ذات بعد ذاتي، على معنى أن هذا "الإحسان الحضاري" ليس من مطلوبات الدين، باعتبار ما يتحقق به للإنسان من منفعة آنية ظاهرة فحسب، بل هو مقتضى من مقتضيات الأمر الإلهي؛ إذ العبد مسـؤول عن إحسان سعيه أمام ربه يوم القيامة، وهذا مقتضى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء ) [18] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تبارك وتعالى [ ص: 131 ] يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه ) [19] ، قال الإمـام المناوي: "أي يحكمه، كما جاء مصرحا به في رواية؛ وذلك لأن الإمداد الإلهي ينـزل على العامل بحسب عمله، فكل من كان عمله أتقن وأكمل فالحسنات تضاعف أكثر، وإذا أكثر العبد أحبه الله تعالى" [20] ، وقال أيضا في موضع آخر: "فعلى الصانع الذي استعمله الله في الصور والآلات والعدد مثلا أن يعمل بما علمه الله عمل إتقان وإحسان، بقصد نفع خلق الله الذي استعمله في ذلك، ولا يعمل على نية أنه إن لم يعمل ضاع، ولا على مقدار الأجرة ، بل على حسب إتقان ما تقتضيه الصنعة... فمتى قصر الصانع في العمل لنقص الأجرة، فقد كفر ما علمه الله، وربما سلب الإتقان" [21] ، وفي حديث ذي دلالة ولمسة حضارية رائعة في أهمية تجويد العمل وتحسينه باعتباره مقتضى إلهيا، بعيدا عن النفع الآني المشهود، يقول عاصم بن كليب الجرمي: "حدثني أبي كليب أنه شهد مع أبيه جنازة شهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا غلام أعقل وأفهم، فانتهى بالجنازة إلى القبر، ولم يمكن لها، قال: "فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( سووا لحد هذا، حتى ظن الناس أنه سنة، فالتفت إليهم، فقال: أما إن هذا لا ينفع الميت ولا يضره، ولكن الله يحب من العامل إذا عمل أن يحسن ) [22] ؛ لأن الفعل الحسن الصالح هو وحده القادر على تشييد وعمارة الحياة التي يريدها خالق الحياة والأحياء، وهذا الفقه من النمط العالي الذي ينبغي أن تربى عليه الأمة. [ ص: 132 ]

          3- السماحة والصدقة، فينبغي للمسلم في سعيه الحضاري، وتعميره الأرض، أن يكون سمحا، مكثرا من الصدقة؛ شكرا للمنعم الذي وهب، ورحمة بعباده الذين خـلق، وأن تكون نفسـه يقظة واعيـة في مباشرتها وتعاملها مع ما يفيض عليها ربها من نعم، حتى تزداد هذه النعم ثراء، ويزداد حسنها حسنا، ويزداد عطاؤها عطاء، وهذا معنى جيد وتوجيه بالغ الوعي في "تحريك الحياة"، فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( إن هذا المال خضرة حلوة، فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل، أو كما قال النبـي صلى الله عليه وسلم ، وإنه من يأخذه بغير حقـه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيدا عليه يوم القيامة ) [23] ، ووراء جملة المدح هذه، ( فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل ) معنى أنه: بئس المال صاحبا إذا ضيع فيه حق اليتيم والمسكين وابن السبيل، وكأنه سلاح ذو حدين "قال الشيخ أبو حامد: مثال المال مثال الحية التي فيها ترياق نافع، وسم ناقع، فإن أصابها المعزم الذي يعرف وجه الاحتراز من شرها، وطريق استخراج ترياقها النافع كانت نعمة، وإن أصابها السوادي الغبي فهي عليه بلاء مهلك" [24] ، وما أكثر السوادي الغبي في أيامنا هذه!! وإذا كان هذا الحديث يعلمنا "سخاوة العطاء" فإن هناك حديثا مكملا له، يعلمنا "سخاوة الأخذ" فعن حكيم بن حزام، رضي الله عنه، قال ( سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، اليد [ ص: 133 ] العليا خير من اليد السفلى ) [25] ، وكأن "السخاء" في التوجيه النبوي الشريف ملازم للمال، لمعطيه ولآخذه، وإذا تعاملنا مع الثروة بسخاء عطاء، وسخاء أخذ، أي: من غير استشراف، ولا تطلع، ولا حرص، كانت نعم الصاحب، وكانت موضع البركة، وهذا معنى: "بورك له فيه"، وقد قال علماؤنا [26] : إن البركة خلق من خلق الله، يعني حقيقة من حقائق خلقه سبحانه، يعمل بها الدرهم عمل الدينار، وبدونها لا يعمل الدينار عمل الدرهم، والكلام النبوي الشريف يقرن البركة بالسخاوة، وأن المال يسخو، أي: يزيد مع النفس السخية، التي لا تستشرف إليه، ولا تدعه يدب إلى جوهرها، فيجب أن يكون سعي الأمة في تحريك الحياة قائما على "السماحة في المعاملة، واستعمال معالي الأخلاق، وترك المشاحة، والحض على ترك التضييق على الناس في المطالبة، وأخذ العفو منهم" [27] ، وهذا المقصد، كما يقول العلامة الطاهر بن عاشور [28] ، من أشرف المقاصد التشريعية، ولقد كان مقدار الإصابة والخطأ فيه هو ميزان ارتقاء الأمم وتدهورها.

          فحينما يلتقي الأمران: "صواب التعامل مع الثروة" على الوجه الذي يجلب نفعها ويكف ضررها، ثم "ضبط إحساس النفس" وكف جماحها حتى لا تفترسها هذه "الخضرة الحلوة" ترى الثروة تنمو وتتكاثر، وتنفع وتكون ثروة برة بالمسكين واليتيم وابن السبيل؛ ومن ثم حرم الإسلام كل سعي في الحياة، يكون قائما على استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، أيا كان. [ ص: 134 ]

          - فحرم الربا، قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا ظهر الزنا والربا في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله ) [29] ، قال الإمام المناوي: "أي تسببـوا في وقوعـه بهم، ولم يقل العذاب، بل زاد الاسم زيادة في التهويل والزجر؛ وذلك لمخالفتهم ما اقتضته الحكمة الإلهية من حفظ الأنساب، وعدم اختلاط المياه، وأن الناس شركاء في النقد والمطعوم لا اختصاص لأحد به إلا بعقد لا تفاضل فيه" [30] .

          - وحـرم الغش في البيوع والصناـئع، وقال علماؤنا: من كثر ذلك منه فهو فاسق، لقـوله صلى الله عليه وسلم : ( من غشنا فليس منا ) [31] ، وقـال صلى الله عليه وسلم : ( من باع عيبا لم يبينه، لم يزل في مقت الله، ولم تزل الملائكة تلعنه ) [32] ؛ فاستعمارنا الإيماني للأرض لا يحل فيه الغش، ولا الكذب الذي يخلق لدى الإنسان وعيا زائفا وميلا لأشياء لا تمثل حاجة حقيقية لديه، ولا تحقق له أي نفع، ومن ثم فالدعاية الكاذبة لا مكان لها، قال أبو طالب المكي، رحمه الله: "ليتق البائع مدح السلعة وتنفيقها من خرف الكلام، وليحذر المشتري ذمها وعيبهـا بـما ليس فيها للخـداع، وأما الإيمان على ذلك فهو معصية وممحقة للكسب، وقد كان السلف يشددون في ذلك، قال أبو ذر: كنا نتحدث أن من نفر لا ينظر الله إليهم التاجر الفاجر، وكنا نعد من الفجور أن يمدح السلعة بما ليس فيها" [33] .

          - وحرم الاحتكار، الذي يعني انعدام التداول، وانحسار حيز الخيارات، وخضوع المجتمع لسلطة رأس المال وتوجيهاتها المطلقة، فجعل الإسلام منع الناس [ ص: 135 ] من تناول حاجياتهم، وحجزها عنهم، صدا عن سبيل الله، وتعطيلا لمقصد من مقاصد الشريعة في حفظ النفس وتوابعها، وحفظ العقل وارتباطاته، وحفظ المال وما هو في حكمه، فقال صلى الله عليه وسلم : ( لا يحتكر إلا خاطئ ) [34] ، وعن اليسع بن المغيرة قال: ( مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل بالسوق يبيع طعاما بسعر هو أرخص من سعر السوق، فقال: تبيع في سوقنا بسعر هو أرخص من سعرنا؟! قال: نعم. قال: صبرا واحتسابا؟ قال نعم. قال: أبشر؛ فإن الجالب إلى سوقنا كالمجاهد في سبيل الله، والمحتكر في سوقنا كالملحد في كتاب الله ) [35] .

          - وحرم بخس الناس أشياءهم، فقال تعالى: ( فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ) (الأعراف:85 )، قال القاضي أبو بكر بن العربي: "البخس في لسان العرب هو النقص بالتعييب والتزهيد، أو المخادعة عن القيمة، أو الاحتيال في التزيد في الكيل أو النقصان منه" [36] ، فالبخس قد يكون بالقول تهوينا واستنقاصا وإشاعة، وقد يكون بالفعل احتيالا أو نقصانا، وكل ذلك من أكل أموال الناس بالباطل.

          4- القصد والاعتدال، وهو الطابع الذي يضبط به الإسلام كل سعي للاستمتاع بطيبات الحياة الدنيا، والمعيار الذي تقيم به كل الحركات، والفقه العمراني الذي وجه الحضارة الإسلامية بأكملها، قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب [ ص: 136 ] المعتدين ) (المائدة:87) ويقول صلى الله عليه وسلم : ( من فقه الرجل رفقه (أي: قصده) في معيشته ) [37] ، فالمسلم كما هو مطالب بالتمتع بطيبات الحياة، مطالب كذلك بالاعتدال وعدم الاعتداء في التعامل مع طيبات الحياة انتفاعا واستثمارا، فيأتي سعيه معتدلا مقتصدا، بعيدا عن الإسراف والتبذير، واستهلاك ما هو أكثر من المباح، حتى لا تصير الإمكانات التي كان الشأن أن تكون مصدر خير وقوة وغلبة لنا سبيلا إلى الفساد والإفساد، الذي يحرم البشرية من بركات الأرض وخيراتها، وهذا ملحظ عجيب، قال تعالى: ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) (الأعراف:31 )، بل يأتي النهي عن الإسراف والتبذير في القرآن الكريم على صورة مروعة، حينما يقرن الله تعالى المبذرين بالشياطين، ويجعلهم إخوانا لهم، فيقول: ( إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا ) (الإسراء:27 )، ومن هذا المداد يأتي قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة، وقال ابن عباس: كل ما شئت، والبس واشرب ما شئت، ما أخطأتك اثنتان سرف أو مخيلة ) [38] ، وهذا النهي عن الإسراف يشمل الفرد والمجتمع، كما يشمل كل ثروة تتاح، فيجب أن تستغـل بعقل وحـكمة، وإلا كانت وبالا ونقمـة؛ إذ الإنفـاق الزائد، والتبذير في الشهـوات، غالبا ما يرجع بالضرر على حق النفس بتبديد طاقتها بلا مبرر، أو بتعويدها الطمع "فيخبث وهج الشوق والتطلع إلى العمل، ويقذف بالإنسان إلى التقاعس والكسل، ويفتح أمامه أبواب الشكوى والحسرة في حياته، حتى ليجعله يئن دوما، تحت مضض الشكوى والسأم، كما أنه [ ص: 137 ] يفسد إخلاصه، ويفتح دونه بابا للريا والتصنـع، فيكسر عزته، ويريـه طريق الاستجـداء والاستخذاء. أما "الاقتصاد، فإنه يثمر القناعة، والقناعة تنتج العزة، كما أنه يشحذ الشوق بالسعي والعمل، ويحث عليهما، ويسوق سوقا إلى الكد وبذل الجهد فيهما" [39] ، كمـا أن في الإسـراف اعتداء على حق الغير بحرمـانه مما ينتفع به، إن حالا للمعاصر، وإن مستقبلا للأجيال القادمة؛ ولذلك نسب إلى معاوية، رضي الله عنه: "كل سرف فبإزائه حق مضيع" [40] ، ونسب إلى أبي بكر، رضي الله عنه، أنه قال: "إني لأبغض أهل بيت ينفقـون رزق أيام في يوم واحد، وقيل: ما وقع تبذير في كثير إلا هدمه، ولا دخل تدبير في قليل إلا ثمره، وقيل: إنك إن أعطيت مالك في غير الحق يوشك أن يجيء الحق وليس عندك ما تعطي منه" [41] ، فهذا يشير على أن الفقر والحـرمان ليس نابعا من الطبيعة نفسـها، وإنما هو نتيجة سوء التوزيع والانحراف عن العلاقات الصالحة التي يجب أن تربط الأغنياء بالفقراء، وقد قيل بحق: "رفاهية المستكبرين ثمنها بؤس العـالمين" [42] ، و "ما جاع فقير إلا بما منع غني".

          5- فقه أولويات السعي وأصول العمران، فحركة المسلم في تعمير الحياة ينبغي أن تكون حركة واعية، وذلك بالسعي فيما يحقق إشباع حاجيات الأمة الأساسية، بدرجة من الكفاية، بحسب ظروف الزمان والمكان، وبحسب المقاصد [ ص: 138 ] الشرعية (حفظ الدين الذي هو الإطار المرجعي التأسيسي للأمة/ وحفظ النفس الفردية والجماعية/ وحفظ الكيان واستمراره في إطار العمارة الإنسانية وتنمية الموارد البشرية/ وحفـظ المال وما يقوم عليه من عمـليات التنمية والعمران/ وحفظ العقل وما يحمله من عنـاصر التكوين الثقافي وترسيـخ عناصر القيم المتعلقة به) وما لم يتوفر مستوى الكفاية، والحد الأدنى من الأشياء الضرورية، فلا يجوز توجيه هذه الطاقات القادرة على توفير ذلك إلى شيء آخر.

          فالعمل واستثمار طاقات الكون، في المنظور الإسلامي، يتم وفقا لأولويات الواقع، وأولويات الشرع في مقاصده ، فيضع الضروريات (ما لا تقوم حياة الفرد إلا به، ولا تستمر إلا بوجوده، بحيث إذا فقد لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وفوت حياة) قبل الحاجيات (جملة الحاجات الإنسانية في مستويات يسبقها مستوى الكفاف الإنساني) ثم ينظر إلى الكماليات (حركة الإحسان الحضارية، التي تحقق قدرا من الرفه غير المفضي إلى الإسراف والتبذير) إذ لا شك، كما يقول ابن خلدون: "أن الضروري أقدم من الحاجي والكمالي وسابق عليه؛ ولأن الضروري أصل والكمالي فرع ناشئ عنه، ولأن أول مطالب الإنسان الضروري، ولا ينتهي إلى الكمال والترف إلا إذا كان الضروري حاصلا" [43] .

          فيجب السعي في الكون انتفاعا واستثمارا، أولا فيما يحافظ على أصل وجود الأمة، وثانيا فيما يحافظ على فعلها وحركتها، وثالثا فيما يحافظ على إحسانها وإبداعها، وهذا ما أقره علماؤنا؛ عند شرح قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما من مسلـم يغرس غرسـا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، [ ص: 139 ] إلا كان له به صدقة ) إذ اختلفوا: أي الأعمال يكون بها الأجر أكثر؟ ثم قال الإمام العيني: "يختلف الحال في ذلك باختلاف حاجة الناس، فحيث كان الناس محتاجين إلى الأقوات أكثر، كانت الزراعة أفضل للتوسعة على الناس، وحيث كانوا محتاجين إلى المتجر لانقطاع الطرق، كانت التجارة أفضل، وحيث كانوا محتاجين إلى الصنائع أشد كانت الصنعة أفضل وهذا حسن" [44] ، وهذا من الفقه العالي الذي تحتاج إليه أمتنا في سعيها الحضاري أشد الاحتياج؛ إذ كثير من ثروات الأمة تبدد هنا وهناك فيما لا طائل تحته، وتهدر طاقاتها فيما لا يعود بالنفع الحقيقي عليها، ثم تطلب المعونات بعد ذلك تتكفف الناس!!

          ولا شك في أن "فقه أولويات السعي" من "أصول الفقه الحضاري" الذي يقتضي متطلبات عدة، ويعتمد على منظومة من المستلزمات، ومناطق التفكير والتدبير، وإدراك الواقع، وفهم حركته وامتداداته التاريخية والمستقبلية، بجانب القدرة على رسم خارطة أولويات، يقدم فيها ما حقه التقديـم، ويؤخر ما حقه التأخير، وفقا لقاعدة المراتب المقاصدية: الضروري، فالحاجي، فالتحسيني، وليس للتحسينات أن تتقدم على الحاجيات، أو الحاجيات على الضروريات في مختلف جوانب الحياة، كما يتم فيها الموازنة بين المقاصد المتزاحمة؛ ليختار منها الأولى، والذي يعم نفعه، وتتعدد مصالحه، مثل: المقارنة بين ما يحقق الرفاهية من بعض الصناعات، وما يقتضيه ذلك من إضرار بالبيئة، وتدمير لموارد الحياة، وحينئذ تكون الأولية، وفق المنظور الإسلامي للحفاظ على البيئة، وموارد الحياة، بل يحرم أي سعي يخالف ذلك، كما سيأتي بيانه. [ ص: 140 ]

          وهذا ليس تهوينا من الأفعال أو بعضها، ولكن وزنا لها؛ لضبط عملية الأولويات في الأفعال، في مختلف جوانب الحياة... ذلك أو التخبـط، بل الضياع!! إذ من نافلة القول تأكيد أن الاختلال في ميزان الأولويات يورث خللا في السعي الحضاري، وضعفا في تسخير الكون وتوجيهه حسب الحاجات ووفق القيم، وهذا إما أن يؤدي إلى "الفوضوية" في الممارسة والعمل؛ إذ تسير الأمة في تحريك الحياة على غير هدى، وإما إلى "التقليد والتبعيـة" (للغير)، فتقدم ما يقـدمه هو، وتؤخر ما يراه هو مستحقا للتأخـير، لا لحاجة تدفعها إليها، ولكن لمجرد التقليد، وإما أن يؤدي في النهاية إلى "الاسترقاقية" بأن تصير الأمة في سعيها الحضاري عبدة لسعي غيرها، الذي يستحوذ على إرادتها، ويغيب وعيها، ويشل فاعليتها الحضارية، فلا تبتغي "الفضل" بل تبتغي ما عند (الغير)، وهو ما نلاحظه في كثير من سعينا الحضاري المعاصر، حيث "أصبح لفظ العبودية يقدم في المجتمع المعاصر في صورة لفظ من ألفاظ الحرية، بحيث أضحى الأفراد لا يشاركون في تحديد حاجاتهم الحقيقية، وإنما تفرض عليهم الحاجات، حسب متطلبات المشروع الإنتاجي، وبحسب التكييف الذهني الذي يتعرضون له عن طريق وسائل الإعلام، حتى أصبح الإنسان يساوي الاستهلاك والعمل، وأصبح المكر ذكاء، واللانهائي كما، والنمو غاية كمية في الإنتاج والاستهلاك" [45] .

          والإسلام بهذه القيم والآداب لا يخنق حرية الإنسان في سعيه الحضاري لتعمير الحياة، كما يظن، وإنما يهذب تلك الحركة، ويضبط نظامها، ويحفظها من [ ص: 141 ] التفاسد والتهالك، ويخضعها للرفق والرحمة؛ إذ ( ليس المؤمن من يشبع وجاره جائع إلى جنبه ) [46] ، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكما قال في حديث آخر: ( من احتكر طعاما أربعين ليلة فقد برئ من الله تعالى، وبرئ الله تعالى منه. وأيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله تعالى ) [47] ، فيستعلي الإنسان بذلك، في سعيه، عن الأنانية والأثرة، وفقا لقاعدة الإسـلام الكبرى: ( لا ضرر ولا ضرار ) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [48] . فلا "ضرر" للذات، ولا "ضرار" للخارج عنها، بمراعاة "حقوق النفس" و "حقوق الغير" وهذه قاعدة كبرى أغلق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم منافذ الضرر والفساد أمام المسلمين.كما أن الإسلام بذلك يعطي "للربح" مفهوما أرحب من مدلوله في المذاهب المادية الخالصة التي يسير عليها إنسان الحضارة الغربية في حياته فلا يرى غاية وراءها، إذ في الإسلام ليس "الربح" ولا "نمو الثروة" هو الهدف الأصيل، وإن كان مما يستهدفه، بل الهدف الأصيل هو التقرب من الله، ونيل رضاه، والفوز بجنته "ابتغاء الفضل منه"؛ ومن ثم يقيم للمثل الأخلاقية العليا المقام الأول في قبول أية حركة.

          وبهذا الهدف الأصيل تصبح كثير من النشاطات (كالصدقة، والعفو، والإحسان إلى الناس، وبذل الفضل لهم، وترك استغلالهم) التي تعتبر خسارة بمنظار غير إسلامي، ربحا ما بعده ربح، فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( إن هذا المال خضرة حلوة ، فنعم [ ص: 142 ] صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل ) [49] ، وقال أيضا: ( ما نقص مال عبد من صدقة ) [50] ، بل يبارك الله له في الدنيا ما يجبر نقصه الحسي، ويثيبه عليها في الآخرة، كما جاء في الحديث المتفق عليه [51] : عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قـال: "قـال رسـول صلى الله عليه وسلم : ( من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل ) يقول العلامة ابن حجر: "الصدقة نتاج العمل، وأحوج ما يكون النتاج إلى التربية إذا كان فطيما، فإذا أحسن العناية به انتهى إلى حد الكمال، وكذلك عمل بن آدم، لاسيما الصدقة؛ فإن العبد إذا تصدق من كسب طيب لا يزال نظر الله إليها يكسبها نعت الكمال حتى تنتهي بالتضعيف إلى نصاب تقع المناسـبة بينه وبين ما قدم نسبة ما بين التمرة إلى الجبل" [52] ، وعن أنس بن مالك، قال: ( كان أخوان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكان أحدهما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم والآخر يحترف، فشكى المحترف أخاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لعلك ترزق به ) [53] .

          وحينما يكون "تحريك الحياة" مؤطرا بعقيدة الخلافة، وما تقتضيه من "تزكية النفس"، و "التعمير الإيماني في الأرض"، لا يصبح القيد الذي يقرب من الرب، في حقيقته قيدا، بل هو، في إطار المنظومة القيمية الإسلامية، ضابط لصلاح [ ص: 143 ] الحال بتحقيق الخلافة وفق منهج الله في أمره ونهيه، و زاد إلى فلاح المآل حيث الجنة ونعيمها!! وعلى هذا الأساس قد يصبح "الربح" و "الثروة" أحيانا خسارة، عند المحسن اليقظ الواعي، إذا حال دون الظفر برضا الله، والتقرب من حضـرته سبحـانه، كما قد يصبح ترك ذلك ربحا في الحقيقة، إذا أدى إلى قرب العبد من مولاه، وكسب الآخرة.

          أما النظرة المادية الخالصة التي لا تملك سوى مقياس الربح والخسارة في الدنيا، فيتهددها شبح الفقر دائما، وتفزع بمجرد التفكير في تسخير الملكية الخاصة لأغراض أعم وأوسع من دوافع الشره والأنانية؛ لأن شبح الفقر المرعب، والخسارة الآنية، يبدو لها من وراء هذا اللون من التفكير، وقد نسب القرآن هذه النظرة المادية الضيقة إلى الشيطان، فقال: ( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم ) (البقرة:268).

          ب- القيم التي تضبط علاقة الإنسان بالأشياء، والبيئة المحيطة به:

          إذا كانت الحضارة هي: ثمرة التفاعل بين الإنسان في سعيه لتحريك الحياة، وعالم الأشياء، فقد جاءت حقائق الوحي لتؤطر حركة المسلم في هذا السعي الحضاري، وتهذبها، وتقومها، وتحدد كيفية تعامله مع الكون المحيط به، بكل مكوناته المتنوعة، الحية وغير الحية، المادية والروحية، المشاهدة والغيبية، والخاضعة لتسخيره، فيكون هذا التعامل تعاملا إيجابيا فاعلا، وفق مسلمات ثلاث، تمثل تأصيلا إسلاميا فريدا، وفقها حضاريا مميزا، للتعامل مع الكون بكل ما فيه، استثمارا وانتفاعا: [ ص: 144 ]

          أولا: وحدة الإنسان والكون (العلاقة الوجودية) [54] ، باعتبار الإنسان جزءا من رحم كوني واسع، وأنه عنصر في موكب كبير من التسبيح، ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ) (الأنعام:38 )، فالإسلام يقيم علاقة بين الإنسان ومكونات هذا الكون وموجوداته، تقوم على وحدة [55] :

          - في الأصل؛ إذ جميع الكون بكل ما فيه من إنس، وكل ظواهر الوجود هي من خلق الله تعالى، ومن المشمولين برعايته وتدبيره، ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم * الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون * والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون * والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ) (الزخرف:9-12).

          - وفي الوظيفة؛ ففي مشهد كوني عظيم يصور لنا القرآن الوظيفة الحقيقية للكون بكل أطيافه وألوانه، وهي عبادة الله: ( تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ) (الإسراء: 44)، فالكون بكل ما فيه من مخلوقات "كل حصاة وكل [ ص: 145 ] حجر، كل حبة وكل ورقة، كل زهرة وكل ثمرة، كل نبتة وكل شجرة، كل حشرة وكل زاحفة، كل حيوان وكل إنسان،كل دابة على الأرض، وكل سابحة في الماء والهواء، ومعها سكان السماء، كلها تسبح الله وتتوجه إليه في علاه" [56] .

          - وفي المصير؛ فالكل مخلوق لله، ومرجعه إلى الله، يتساوى في ذلك الإنسان مع كل مفردات الكون، وإن اختلف عنها فيما بعد ذلك من مسؤولية وحساب. قال تعالى ( ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون ) (القصص:88).

          - وفي الافتقار، فقد خلق الله عز وجل الكون مفتقرا إليه سبحانه وتعالى، في الكينونة، وفي الحركة، وفي المصير: خلقا وتدبيرا، وسيطرة وحكما. ومفتقرا بعضه إلى بعض، يحتاج كل شيء فيـه إلى الآخـر، فليس في الكون موجـود، كائنا من كان، لا يحتاج إلى دفع شيء عنه، أوجلبه له؛ ومن ثم كانت العلاقة متبادلة بين كل أفراد الكون، يمد كل منها الآخر، ويحوطه بعطائه، يقول الإمام المناوي، في ملحظ دقيق، عند حديثه عن الزكاة ووجوب أدائها: "واعلم بأن الوجود كله متعبد لله بالزكاة ، انظر إلى الأرض التي هي أقرب الأشياء إليك، تجدها تعطي أقرب الخلق إليها، وهم من على ظهرها، جميـع بركاتـها لا تبخل عليهم بشيء مما عندها، وكذا النبات يعطي ما عنده، وكذا الحيوان والسماء والأفلاك، الكل متعاون بعضه لبعض، لا يدخر شيئا مما عنده في طاعة الله؛ لأن الوجود كله فقير بعضه إلى بعض، قد لزم الفقر وشملته الحاجة" [57] . [ ص: 146 ]

          وتأسيسا على هذه المسلمة "وحدة الإنسان والكون" تكون علاقة الإنسان بالكون وما فيه من أشياء، في المنظور الإسلامي، هي علاقة ذات بعد وجداني وروحي، ممتلئة بوشائج الأخوة والقربى، وما يتجلى فيها من معاني الحب والود، والرأفة والرحمة، بعيدا عن أي معنى من معاني العداوة والصراع، والقهر والسيطرة!! فيشعر بوشائج بينه وبين الكون، حتى كأنه يملك روحانية مثل روحانيته، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في جبل أحد، وهو ليس إلا رمزا لعالم الأشياء كله : ( جبل يحبنا ونحبه ) [58] ، ويقول صلى الله عليه وسلم : ( أكرموا عمتكم؛ فإنها خلقت من فضلة طينة أبيكم آدم ) [59] .

          وأي تصور للعلاقة بين الإنسان والكون خارج هذه "الوحدة" وبعيدا عن "وشائج القربى" لابد أن يؤول، ولا شك، إلى فساد، وهذا ما نراه الآن من علاقة غير سوية بين الإنسان والكون، ابتداء من التصور الفلسفي لهذه العلاقة، وانتهاء بالتعامل السلوكي الشاذ مع الكون، وهي علاقة قائمة في مجملها، على التحدي والصراع، والنـزوع الجـامع للسيـطرة على الكون وما فيه من أشياء، وفق منظور "براجماتي" يمعن في استنـزاف خيرات الأرض ومقدراتها، وفي سياق نـزاع إلى "تسليع" كل شيء يقوم على الهدم والتدمير، ويوجه الرغبة في إشباع الشهوات، بناء على نمط إنتاج استغلالي عنيف، وهو العنف الذي يعكس أكبر ضعف إنساني في التاريخ، حتى أصبح الكون يوشك أن يمتنع عن العطـاء!! وهذا ما أقره فلاسفة الغرب، ومفكروه، في تناولهم الأزمة البيئية الحالية، وما يعانيه كوكب الأرض من طغيان الإنسان، وعدائه لعالم الأشياء، وعلى رأس هـؤلاء [ ص: 147 ] آل جور، نائب الرئيس الأمريكي الأسبق، في كتابه: "الأرض في الميزان" الذي أداره كله على: اعتبار أن السبب الأصلي في الأزمة الكونية التي يشهدها العالم الآن هو علاقة الانفصال، والجفوة بل الصراع، القائمة بين الإنسان وعالم الأشياء، ومحاولة تكييف الكون للإرادة البشرية، وهو المنطق المعاصر لحضـارة العـالم، كما يقول آل جـور. [60] وفي عبارة ذات دلالة موحية، يقول بيلت: "إذا كان القرن التاسع عشر قد قتل الإله، وقتل القرن العشرون الإنسان، فقد بقي على القرن الحادي والعشرين أن يقتل الطبيعة!!" [61] ، وهـذا أمر حتمي في المناهـج التي تقطـع ما وصل الله من وشيجة بين الناس والكون الذي يعيشون به وفيه!!

          أما إذا كانت علاقة القربى هي التي تتحكم في علاقة الإنسان بما حوله من الأشياء، كما قرر الإسلام، فإن هذا يقتضي تصرفا أخلاقيا بين الإنسان والكون، يكون كتصرف الإنسان مع أخيه الإنسان، عدلا وتراحما وإحسانا، وفقا للمبدأ [ ص: 148 ] الإسلامي: "أن لكل خلق حقا أو حقوقا تخصه"!! وهذا ما لحظه علمـاء الإسلام، فقد تقدم في شرح حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( من لا يرحم لا يرحم ) [62] ، أن العلامة ابن حجر، قال: "قال ابن بطال: فيه الحض على استعمال الرحمة لجميع الخلق، فيدخل المؤمن والكافر، والبهائم المملوك منها وغير المملوك" [63] . ومن أبرز روائع حضارتنا الإسلامية في ذلك، ما عرف بـ"وقف الكلاب الضالة" وهو "وقف في عدة جهات، ينفق من ريعه على إطعام الكلاب التي ليس لها صاحب؛ استنقاذا لها من عذاب الجوع، حتى تستريح بالموت، أو الاقتناء" [64] ، ومن ذلك أيضا: "الوقف الذي كان مخصصا لجحافل الحمام، التي استوطنت أروقة وزوايا جـامع الزيتونة بتونـس، وقد كانت أيضا، تخصـص دوريات راتبة، تحت راية ما يعرف بنظام الحسبة، تجوب المدن الإسلامية والبوادي؛ لتمنع الناس من تحميل الدواب أكثر من طاقتها، ومن الاعتداء عليها بالضرب والتجويع" [65] ، وإذا علم أن هـذه الأوقاف هـي عمل شعبي، وليس حكوميا تبين مدى الوعي الحضاري الذي بلغه المسلمون أيام شهودهم الحضاري، بل وصل الأمر في حضارتنا أن قرر الفقه الإسلامي جملة من الحقوق للبهائم والحيوانات على الإنسان، مما يعد من نوادر الحضارات!! يقول العز بن عبد السلام، في كتابه "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" [66] : "حقوق البهائم والحيوان على الإنسان، وذلك: أن ينفق عليها [ ص: 149 ] نفقة مثلها ولو زمنت أو مرضت بحيث لا ينتفع بـها، وألا يحمـلها ما لا تطيق، ولا يجمع بينها وبين ما يؤذيها من جنسها أو من غير جنسـها، بكر، أو نطح، أو جرح، وأن يحسن ذبحها إذا ذبحها، ولا يمزق جلدها، ولا يكسر عظمها حتى تبرد وتزول حياتها، وأن لا يذبح أولادها بمرأى منها، وأن يفردها، ويحسن مباركها وأعطانها، وأن يجمع بين ذكورها وإناثها في إبان إتيانها، وأن لا يحذف صيدها ولا يرميه بما يكسر عظمه أو يرديه بما لا يحلل لحمه".

          فلم تكن العـلاقة، يوما، بين المسـلم والكون، علاقة عداء أو طغيـان، أو مغالبة وعنف، بل كانت علاقة قربى وأخوة، بل ضربا من ضروب العبادة لله تعالى، والقرب منه، باعتبار الكون، بكل ما فيه من أشياء، مظهرا من مظاهر الإبداع الإلهي المتجلي في دقة صنعه، وجمال منظره، وحسن تقديره، و بليغ الحكمة في تفاصيل جزئياته، وكليات السنن الجارية عليه[67] . وهذا هو مقتضى قوله تعالى: ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير ) (العنكبوت:20) ، وقوله: ( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) (يونس:101) ، وقوله: ( أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون ) (الأعراف:185 )، وغير ذلك من الآيات التي فيها حث على النظر والاستدلال، والتفكر في صنع الله وخلقه وتدبيره، وكان ذلك [ ص: 150 ] هو الدافع لكل علماء المسلمين في حسن تعاملهم مع الكون، وبليغ إصغائهم لعالم الأشياء فيه، يقول الجاحظ، في كتابه "الحيوان" بعد أن أنهى حديثه عن الكلب وما جاء من مناظرة بينه وبين الديك: "فليس لقدر الكلب والديك في أنفسهما، وأثمانهما، ومناظرهما، ومحلهما من صدور العامة، أسلفنا هذا الكلام، وابتدأنا بهذا القول، ولسنا نقف على أثمانهما من الفضة والذهب، ولا إلى أقدارهمـا عند الناس، وإنمـا ننـظر فيما وضع الله عز وجل فيهما من الدلالة عـليه، وعلى إتقـان صنعه، وعـلى عجيب تدبيره، وعـلى لطيف حكمته" [68] .

          ثانيا: التسخير (العلاقة الوظيفية) [69] ، وهذا هو الأصل الثاني، في ضبط علاقة الإنسان بالكون، فإذا كانت هناك وحدة بين الإنسان والكون، وفق المنظور الإسلامي، أصلا وغاية ومصيرا، فإن هناك تميزا قيميا للإنسان في إطار هذه الوحدة، وهو تسخير الله الكون للإنسان، انتفاعا واستثمارا، باعتباره خليفة في الأرض، ومهمة الكون أن يستجيب للإنسان؛ لأداء المهمة الحضارية التي جعل الكون مسرحا لها، وهي تعمير الأرض وتحريكها وفق منهج الله في أمره ونهيه، ووفق سننه وقوانينه الثابتة، قال تعالى: ( الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار * وسخر [ ص: 151 ] لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار * وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ) (إبراهيم:32-34) ، فإن هذه الآيات الكريمة، وغيرها كثير، تقرر أن الكون كله، بكل ما فيه من عالم الأشياء، مهيأ في أصل صنعته من قبل صانعه تهيئة مقدرة، بحيث يستجيب للإنسان، بقدر، فيما خص به من مهمة في الحياة، إذا ما اتجه الإنسان بكل ما أوتيه من فكر وقدرات إلى ذلك، فكل "ما في السماوات من شمس وقمر ونجم وسحاب، وما في الأرض من دابة وشجر وماء وبحر وفلك، وغير ذلك من المنافع، يجري ذلك كله لمنافعكم ومصالحكم، لغذائكم وأقواتكم وأرزاقكم وملاذكم، تتمتعون ببعض ذلك كله، وتنتفعون بجميعه" [70] .

          وهذا الأصل "التسخير" الذي يضبط علاقة الإنسان بالكون، يشير، في بنائه، إلى أمور ثلاثة:

          - أن الإنسان لا يملك من ذلك الكون، على وجه الحقيقـة، أي شـيء، إنما هو مستخلف فيه، ووكيل من قبل الله الذي يملك الكون وجميع ما فيه ومن فيه، وهو المعنى المستبطن في قوله تعالى: ( ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير ) (آل عمران :189)، وقوله تعالى: ( آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ) (الحديد:7) ، فـكل إنفاق في الكون، إنما هو إنفاق مما استخلف الله فيه العبد، ومعنى ذلك: أن الإنسان ليس سيد هذا [ ص: 152 ] الكون، وإنما هو سيد فيه، وسيادته في الكون إنما هي نعمة أنعم بها عليه سيد هذا الوجود، وهو الله تعالى، وفضل إلهي لمعونة الإنسان في حركته الحضارية؛ تكريما له، وتمكينا من القيام بمهام الاستخلاف في عمارة الكون، والعبودية لخالقه. وبذلك يزيف الإسلام، بكل اطمئنان وثقة، تلك العلاقة التي تقوم بين الإنسان والكون، في النموذج الغربي التائه، والتي تنطلق من أن الإنسان يسود الطبيعة، ويملك الأرض وما عليها، وأن الطبيعة أمة للإنسان، وليست أما له، وكانت النتيجة أن بدأت الأرض تموت!! إذ أصبح في تحريكه للحياة "إما محاولا غزو طبيعة معادية والسيطرة عليها، وإما ساعيا وراء نعيم مادي مثالي على الأرض" [71] .

          - أن تسخير الله الكون للإنسان ليس مجانيا، بحيث يمكن للإنسان أن ينتفع بمفردات الكون ومعطياتها بلا سعي منه، بل هو تسخير، في غالبه، مرتبط بحركة الإنسان في الكون، وسعيه في الانتفاع بمقدراته، وتعامل الإنسان مع الأرض بضروب مختلفة من التعمير، لا تكون له ثمرة إلا بما تقدم له هي من عطاء؛ ومن ثم كان من القيم التي يربي عليها الوحي المسلم: أن تعمير الأرض والبناء فيها، وفق منهج الله، عبادة يجب على المسلم أداؤها، ويثاب على فعلها، ويأثم بتركها، وهذا هو مقتضى مفهوم "الاستخلاف"، قال تعالى: ( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ) (الملك:15) ، فقوله تعالى: ( فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ) دعوة إلى الفعل الدؤوب، والحركة المستمرة في الاستفادة من خيرات الأرض، وعطاءات الكون، [ ص: 153 ] ووفق هـذا التـصور يعتبر الإنسـان الذي لا يفجر ينابيع الأرض، ولا يستغل طاقات الكون المسخرة له، عاصيا لله، ناكلا عن الوظيفة التي خلقه الله لها، ومعطلا لرزق الله الموهوب للعباد، يسأل عنه الإنسان يوم القيامة، ففي الحديث: ( يؤتى بالعبد يوم القيامة، فيقول الله له: ألم أجعل لك سمعا وبصرا ومالا وولدا، وسخرت لك الأنعام والحرث، وتركتك ترأس وتربع؟ فكنت تظن أنك ملاقي يومك هذا؟ فيقول: لا. فيقـول له: اليوم أنساك كما نسيتني ) [72] ، وفي هذا إشارة إلى أن التقصير في الانتفاع بما سخر الله تعالى صفة من يكذب بلقائه تعالى، ولا يهتدي إلى وحدانيته!! ومن ثـم قال عمر ابن الخطاب، رضي الله عنه: "لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق، يقول: اللهم ارزقني؛ فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة" [73] ، إذ قاعدة الإسلام في ذلك: "ليس العبادة أن تصف قدميك، وغيرك يقوت لك، ولكن ابدأ برغيفيك، أولا، ثم تعبد" [74] .

          - أن هذا التسخير ليس مطلقا، بإطلاق يد الإنسان في الكون، بلا ضوابط، بل هو تسخير مضفور بالواجب، المنوط بالإنسان في تعمير الحياة، والسعي في الكون، انتفاعا واستثمارا، واستخدام المسخرات لتحقيق الخلافة وفق منهج الله، وكل حركة في الحياة لاستخدام "مسخرات" الله على غير منهاجه، بالإفساد والإتلاف، تعد عصيانا لله، وغصبا لمسخراته!! و "التسخير" بذلك المفهوم، يعد قوة ضابطة في مجال السلوك، وقيدا صارما يفرض على الإنسان، في تعامله مع الكون [ ص: 154 ] وعالم الأشياء، الالتزام بمنهج الخالق الذي سخرها له، والذي إن شاء، انتزعها منه في أية لحظة ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا * ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا * إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا ) (النساء:131-133) ، فيجب على الإنسان أن يلتزم في تعامله مع المسخرات بمنهج الله تعالى، وذلك "يتم من خلال منظومة مفاهيمية، تمثل ضـابطا، ومحـددا لكيفية الاستفادة من البيئة أو المسخرات، وهذه المنظومة تشتمل على مفاهيم، مثل: التوحيد، الخلافة، الأمانة، الحلال، الحرام، العدل، الاعتدال. وذلك في إطار الإيمان بأن هذه المسخرات مخلوقات، تسبح بحمد الله وتعبده، وتشكل أمما كاملة مثل الأمم البشرية؛ ومن ثم فإن على الإنسان أن يراعي حقوقها، كأمر أخلاقي من ناحية، وكأمر تشريعي من ناحية أخرى" [75] .

          ثالثا: الائتمان الكوني (العلاقة الارتفاقية) [76] ، وهذا أصل الأصول، والقيمة الجامعة التي تتحكم في كل سعي المسلم، وتعامله مع الحياة والأحياء؛ فالإنسان، وفق المنظور الإسلامي، إذ سخر الله له الكون، واستخلفه فيه، فهو مؤتمن عليه، وعلاقته بالكون، في جوهرها، ليست علاقة مالك بمملوك، وإنما هي علاقة أمين على أمانة استؤمن عليها، وفق مفهوم التسخير، ومقتضيات الاستخلاف. [ ص: 155 ]

          و "الائتمان الكوني" مفهوم حاولنا تركيبه؛ لما يحمله من معان ودلالات مستبطنة في تعاليم الوحي، قرآنا وسنة، من حيث وجوب التزام الإنسان، ماديا وأخلاقيا، نحو كل الموجودات والأشياء في الكون، فيما له هو منها، وما لها هي منه، ولما يضيفه هذا المفهوم من وعي حضاري في "تحريك الحياة"، ذلك أن المسلم، وفق هذا المفهوم، ليس مطالبا باستشراف الكون، رؤية وتخطيطا فقط، بل هو مؤتمن على الكون، حاضرا، ومستقبلا أيضا!! ولعل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل، وفي رواية: فليغرسها ) [77] ، خير دليل على أن المسلم مؤتمن على مستقبل هذا الكون، يقول الإمام المناوي في شرح الحديث، بعد أن ذكر خفاء الحكمة منه على بعض من الأئمة الأعلام: "والحاصل: أنه مبالغة في الحث على غرس الأشجار وحفر الأنهار؛ لتبقى هذه الدار عامرة إلى آخر أمدها المحدود المعدود المعلوم عند خالقها، فكما غرس لك غيرك فانتفعـت به، فاغرس لمن يجيء بعـدك لينتفع، وإن لم يبق من الدنيا إلا صبابة" [78] .

          وهذا المفهوم "الائتمان الكوني" في بنائه الإسلامي، بما يفيده من "حفظ الحقوق" و "مراعاة الأخلاق" يقوم على أبعاد ثلاثة في غاية الأهمية، تمثل قيما تليق بعالم صادر عن الله، ومتجه إلى الله، وصائر إلى الله في نهاية المطاف، وهذه الأبعاد:

          1- التفاعل الإيجابي مع مفردات الكون ومعطياته، تفاعلا يكون للقيم الأخلاقية فيه النصيب الوفير في توجيه حركة الإنسان في تعامله مع الكون المؤتمن عليه، انتفاعا بالمقدرات المودعة فيه، ورفقا به، وحفاظا له من أن يناله فساد، [ ص: 156 ] وبعيدا عن أي معنى من معاني القهر والصراع "بحيث تنتفي منه معاني الاستهتار واللامبالاة، كما تنتفي معاني الأنانية والأثرة، ومعاني الحقد والتسلط والاحتقار" [79] ، وهذا التفاعل الإيجابي يقتضي "الاستثمار النافع" و "العمل الصالح" اللذين هما أساس كل الفاعليات الحضارية في الإسلام، وقاعدة الإسلام الكبرى في ذلك، قوله تعالى: ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا ... ) (الأعراف:56 )، وقوله عز وجل: ( وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ) (الأعراف:142).

          وفي سياق هذا البعد "التفاعل الإيجابي مع مفردات الكون ومعطياته":

          - نهى الإسلام عن تعطيل أي من ثروات الكون، وسحبها عن مجالات الانتفاع والاستثمار، واعتبر الإسلام فكرة تعطيل هذه الثروات أو إهمالها، لونا من ألوان الجحود، وكفرانا بالنعمة التي أنعم الله بها على عباده، يقول تعالى في معرض إبطال مزاعم أهل الجاهلية، فيما حرموه من اللباس والطعام: ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ) (الأعراف:32).

          - اعتبر الإسـلام أن الأرض لمن يزرعها ويقوم باستثمـار منافعـها، وهو ما يعرف في الفقه الإسلامي بـ"إحياء الموات" أي: خدمة الأرض وبناؤها، فقد جاء في صحيح البخاري: "باب من أحيا أرضا مواتا، ورأى ذلك علي في أرض الخراب بالكوفة موات، وقال عمر: من أحيا أرضا ميتة فهي له، ويروى عن [ ص: 157 ] عمـرو بن عوف عن النبـي" [80] ، قال ابن حـجر:" "المـوات" الأرض الـتي لم تعمر، شبهت العمارة بالحياة، وتعطيلها بفقد الحياة، و "إحياء الموات" أن يعمد الشخـص لأرض لا يعلم تقـدم ملك عليها لأحد، فيحييها بالسقي، أو الزرع، أو الغرس، أو البناء، فتصير بذلك ملكه، سواء كانت فيما قرب من العمران أم بعد، سواء أذن له الإمام في ذلك أم لم يأذن. وهذا قول الجمهور" [81] ، وفي هذا يقـول الإمـام ابن حزم: "كل أرض لا مالك لها، ولا يعرف أنها عمرت في الإسلام، فهي لمن سبق إليها وأحياها" [82] .

          - جعل صلى الله عليه وسلم تعطيل ثروات الأرض، أو إهمالها، سببا في نـزعها من صاحبها، فقال صلى الله عليه وسلم : ( من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يزرعها فليزرعها أخاه ) [83] ، ومن ذلك ما ورد أن رسـول الله صلى الله عليه وسلم أقطـع بلال بن الحـارث أرضـا، فاحتـجرها ولم يعمرها، فلما كانت خلافة عمر، رضي الله عنه، قال له: "يا بلال، إنك استقطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضا طويلة عريضة فقطعهـا لك، وإن رسـول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يمنع شيئا يسأله، وأنت لا تطيق ما فـي يديك. فقال: أجل. فقـال: فانظر ما قويت عليه منها فأمسكه، وما لم تطق وما لم تقو عليه فادفعه إلينا نقسمه بين المسلمين، فقال: لا أفعل، هذا شيء أقطعنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: والله لتفعلن، فأخذ منه ما عجز عن عمارته، فقسمه بين المسلمين" [ ص: 158 ] [84] .

          - ومن ثم نهى الإسلام عن "الحمى" وهو اكتناز أرض وحيازتها بالقـوة، بلا أية حـركة لإحيائها واستثمـارها، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمى، فقال: ( لا حمى إلا لله ورسوله ) [85] . وفي حديث ذي دلالة موحية على منع كل حركة في الحياة تؤدي إلى تعطيل ثرواتها، أو منع نمائها، يقول عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إخصاء الخيل والبهائم، وقال ابن عمر: فيها نماء الخلق ) [86] ، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لمضيفه الأنصاري الذي أراد إكرامه بذبح شاة: ( إياك والحلوب ) [87] ، لما في ذلك من قطع للانتفاع بحليبها، مع أن في ذبح غير الحلوب ما يغني عن ذبحها، وفي ذلك كله، دلالة على أنه لا يجوز أن تعطل معطيات الكون عن: "دورها الإيجابي في الإنتاج، بل يجب أن تظل دائما عاملا قويا يساهم في رخاء الإنسان، ويسر الحياة، فإذا حال الحق الخاص دون قيامها بهذا الدور، ألغي هذا الحق، وكيفت بالشكل الذي يتيح لها الإنتاج"[88] .

          2- القوامة وضرورتها في تنظيم علاقة الإنسان بالكون المسخر له، وهذا هو البعد الثاني في مفهوم "الائتمان الكوني" فعـلاقة الإنسان بالكون وما فيه من عالم الأشياء، وفق المنظور الإسلامي، هي علاقة "قوامة". [ ص: 159 ]

          و "القوامة" مفهوم إسلامي يدل في بنائه على "آداب سلوكية" تقوم على: "الرعاية والإشراف" و "المحافظة والإصلاح" و "اتقاء عناصر التهديم والتدمير" [89] ، ومن ذلك قوله تعالى: ( الرجال قوامون على النساء ) (النساء:34) ، قال ابن عطية في تفسيره: "قوام: فعال، بناء مبالغة، وهو من: القيام على الشيء، والاستبداد بالنظر فيه، وحفظه بالاجتهاد" [90] .

          ووفق هذا المفهوم "القوامة" فإن علاقة المسلم بالكون، باعتباره قيما عليه، مؤطرة بأصول وقيم، مشتقة من الفطرة الإنسانية في خيريتها، ومحددة بتعاليم الشريعة في مسالكها، على النحو التالي:

          - الرفق والرحمة، فالتراحم، في المنظور الإسلامي، لا يقوم بين الإنسان وأخيه الإنسان فحسب، بل يقوم أيضا بينهم وبين الأشياء من حولهم، فينبغي أن تكون أخلاق الإنسان مع الكون بكل مظاهره غاية الرحمة، رحمة الإنسان بأخيه الإنسان نوعا وقدرا؛ ليس حفظا لقيمة الوجود، واحتراما لوحدة الأصل، فحسب، بل أيضا لأن الكون لا ينفك يبادلنا هذه الرحمة، وقد غمرنا بعطاءاته ورحمـاته، وما يزال يغمرنا!! وقاعدة الإسلام الكبرى في ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) [91] ، قال العلامة المناوي: "بصيغة العموم، يشمل جميع أصناف الخلائق، فيرحم البر والفاجر، والناطق والمبهم، والوحش والطير" [92] ، وفي هذا السيـاق يأتي حديث عبد الرحمن [ ص: 160 ] ابن عبد الله عن أبيه، قال: ( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معهـا فرخان، فأخـذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تفرش، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من فجع هذه بولدها؟! ردوا ولدها إليها، ورأى قرية نمل قـد حرقناها، فقـال: من حرق هذه؟! قلنا: نحن. قال: إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار ) [93] ؛ ولهذا قرر علماؤنا أن "الرفق بالدواب في ركوبها والحمل عليها، وكذلك سائر الموجودات، واجب سنة، وهذه مسألة عظيمة الأجر والعقاب، وكذا تحميل الدواب أكثر مما تقدر عليه بحسب العادة، وغير ذلك. وذلك كله من نـزع الرحمة من القلوب" [94] .

          - المحافظة والحماية، فـ "قوامة" الإنسان على الكون تقتضي الاجتهاد في نماء مفرداته، وتثميرها، وإيصال المنافع إليه، وصيانته، والحفاظ عليه من كل حركة تعبث بمعطياته، أو تستهتر بمقدراته، أو تعطل منافعه، وقد قرر علماء الإسلام "أن مقصد الشريعة من التشريع: حفظ نظام العالم، وضبط تصرف الناس فيه، على وجه يعصم من التفاسد والتهالك" [95] ؛ ومن ثم جعل الإسلام تنمية الكون بالعطاء فيه من أوكد العبادات، حتى وإن قامت الساعة لا يتخلى عنها الإنسان، كما جاء في حديثه صلى الله عليه وسلم : ( إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل، وفي رواية: فليغرسها ) [96] ، كما جعل "إماطة الأذى عن الطريق" عبادة، وشعبـة من شعب الإيمـان، كما جاء في صحيح مسلم [97] ، عن [ ص: 161 ] أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ) وهذا يؤسس لفقه شغوف بـ"حسن المجاورة لنعم الله تعالى وحراستها".. ومن التوجيهات النبوية ذات الدلالة في هذا الشأن ما روته أم المؤمنـين عائشـة، رضي الله عنها، قـالت: ( دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فرأى كسرة ملقاة، فمشى إليها فأخذها فمسحها ثم أكلها، ثم قال: يا عائشة، أحسني جوار نعم الله؛ فإنها قل ما تزول عن أهل بيت، فكادت أن تعود إليهم ) [98] ، وقـوله صلى الله عليه وسلم ، فيما يرويـه أنس، رضي الله عنه: ( إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى، وليأكلها ولا يدعها للشيطان، ) وأمرنا أن نسلت القصعة (تتبع ما بقي فيها من الطعام) قال: ( فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة ) [99] ، فهذان الحديثان، وغيرهما كثير، يدلان على وجوب "حسن المجاورة لنـعم الله، من تعظيمها، وتعظيمها شكرها، والرمي بها من الاستخفاف بها، وذلك من الكفران، والكفور ممقوت مسلوب، فارتباط النعم في شكرها، وزوالها في كفرانها، ومن عظمها فقد ابتدأ في شكرها، ومن صغرها أو استخف بها فقد تعرض لزوالها" [100] .

          والمحافظة والحماية للكون وما فيه من عالم الأشياء يأتي وفق القاعدة الإسلامية الكبرى: ( لا ضرر ولا ضرار ) وفروعها (الضرر يزال قدر الإمكان، ويتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، [ ص: 162 ] والضرر لا يزال بالضرر، وارتكاب أخف الضررين، وما جاز لعذر بطل بزواله) والتي تضبط كل تحركات المسلم في الحياة، بكل تنوعاتها وامتداداتها، لا يستثنى من ذلك مجال، وفي مجال التعامل مع الكون قد تحولت إلى أصول وقواعد تجب مراعاتها ضمن عناصر الفلسفة الكامنة فيها، حتى تكون حركة الإنسان في الكون حركة واعية، وفاعلة، وذات بصيرة؛ ومن ثم:

          - نهى الإسلام عن "إضاعة المال" وهو رمز لإهمال معطيات الكون، وعدم حمايتها، وترك المحافظة عليها، فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله حرم عليكم: عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال ) [101] ، وأظهر ما قيل في بيان "إضاعة المال" أن المراد به: سوء قيام الإنسـان على ما يملـكه، بأن يتركه من غـير حفـظ له فيضيـع، أو يتركه حتى يفسد، أو يرضى بوضعه في غير حقه [102] ، وكان عمر، رضي الله عنه، دائم القول، في لفتة تعد من أصـول الفقه الحضاري: "لا يقل شيء مع الإصـلاح، ولا يبقى شيء مع الفساد" [103] ، قال الإمام الطاهر بن عاشور، مبينا الحكمة من وجوب حفظ أموال الأمة وصيانتها من العبث: "والمقصد الشرعي أن تكون أموال الأمة عدة لها، وقوة لابتناء أساس مجدها، والحفاظ على مكانتها؛ حتى تكون مرهوبة الجانب، مرموقة بعين الاعتبار، غير محتاجة إلى من قد يستغل حاجتها، فيبتز منافعها، ويدخلها تحت نير سلطانه" [104] . [ ص: 163 ]

          - كما نـهى الإسـلام عن استخـدام معطيات الكون في غير ما هي له، أو إتيانها في غير مآتيها، مما يعطل منافعها، ويبدد مقدراتها في غير وجه، ففي إشـارة تمثل أصلا جامعا من أصول الفقه الحضاري في الإسلام، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( بينما رجل راكب على بقرة، التفتت إليه، فقالت: لم أخلق لهذا؛ خلقت للحراثة ) [105] ، وفي رواية: ( بينا رجل يسوق بقرة، قد حمل عليها، فالتفتت إليه، فكلمته، فقالت: إني لم أخلق لهذا ولكني خلقت للحرث ) [106] ، فهذا من أصول الفقه الحضاري في الإسلام؛ حيث يأمر بالانتفاع بمفردات الكون من حيث ما ركبت عليه من سنن يكون بها عطاؤها، قال العلامة ابن حجر: "استدل به على أن الدواب لا تستعمل إلا فيما جرت العادة باستعمالها فيه" [107] ، إذ لو عوملت الأشياء من غير وجهها فإنها لا تعطي شيئا، بل أحيانا تنتقم لنفسها فتعطي ضرا من حيث أريد منها النفع.

          - وكذلك نهى الإسلام عن أي حركة تؤدي إلى إتلاف مقدرات الكون بغـير حق، فيقول صلى الله عليه وسلم : ( من قتل عصفورا فما فوقها بغير حقها، سأل الله عز وجل عنها يوم القيامة، قيل: يا رسول الله، فما حقها؟ قال: حقها أن تذبحها فتأكلها، ولا تقطع رأسها فيرمى بها، ) وفي رواية: ( من قتل عصفورا عبثا عج إلى الله عز وجل يوم القيامة، يقول: يا رب، إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني لمنفعة ) [108] ، وفي سنن أبي داود [ ص: 164 ] عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار ) فـ"الشارع" كما يقول ابن القيم: "يسد الطريق إلى المفاسد بكل ممكن" [109] .

          - الزهد أو "الإيثار الكوني" وليس المراد هنا الزهد بمفهومه السلبي، الذي يعنى به: الاستقالة من دور التعمير في الكون، والهروب من السعي الحضاري في الحياة، فهذا مناقض لمقاصد الإسلام في "الاستخلاف" و "الاستعمار الإيماني للأرض" بل المراد: "الزهد الإيجابي" القائم على"التقلل" و "الاعتدال" في التعامل مع مقدرات الكون، وموارده، تعامل القيم الراعي المحكوم بمقاصد الشرع، لا تعامل الشهواني المستهتر، المحكوم بمقتضيـات الشهوة. فينتفع بعطـاءات الـكون وفق ما تقتضيه وظيفته الاستخلافية من جهة، وتتحمله مقدرات الكون من جهة ثانية، ووفق رؤية لا تكون فيها هذه الحياة الدنيا هي كل الحيـاة، لا من حيث الوجود، ولا من حيث الأثر المترتب على الدور الوظيفي، وإنما ستتلوها حياة أخرى بعـدها أعلى منها شأنا من جهة ثالثة، مما يضمن الحفاظ على مقدرات الكون ومعطياته، وتواصل عطائها، وسيرورة نموها وإثمارها.

          فمفهوم: "الزهد" أو "الإيثار الكوني" في المنظومة الإسلامية، مناقض تماما لمفهوم التقدم المستمر واللانهائي، في منظومة الحضارة الغربية، القائمة على "الاستنـزاف" المدمر لموارد الحياة، والنهب الأهوج المرهق لخيرات الأرض ومواردها، والتبذير المتلف لما لا يعوض منها، بدافع الأنانية والأثرة، وتضخم الذات، بل بدافع اللعب واتباع الهوى في إنتاج واستهلاك لا يقوم على مقاصد محددة، ولا يبالي إن كان فيه منفعة للإنسانية، أو لم تكن فيها، بل لا يراعي إن [ ص: 165 ] كانت تتحمله مقدرات الكون أم لا، وفق رؤية تؤمن بأن هـذه الحياة هـي كل الحياة، ينتهي بانتهائها كل وجود للإنسان، وينتهي أيضا كل أثر لدوره الوظيفي فيها، فلا يبقى إذن إلا أن تكون العلاقة بالكون وما فيه من عالم الأشياء هي علاقة استهلاك بالقدر الأكبر من الاستهلاك، وذلك لإشباع الشهوات في أقصى حد ممكن من الإشباع، كما نرى في النموذج الغربي التائه، المسيطر على الحياة، وهو نموذج انتهى إلى نوع جديد من "الإدمان" [110] .

          فـ"الزهد" أو "الإيثار الكوني" مفهوم حضاري إسلامي، ليست الحضارة العالمية بأصـوليتها المادية بأقل احتياجا إليه من الحضارة الإسـلامية، بعد أن ارتفعت صيحـات تنبئ بأن العالم قد استنفد طاقات الحياة بصورة قد لا تدع للمستقبل شيئا؛ ومن ثم لا يحتاج العالم اليوم إلى شيء حاجته إلى أن يحيي هذا المفهوم، وأن يخرج الإنسان، في سعيه الحضاري، من طلب حظوظ السيادة على [ ص: 166 ] الكون، إلى أداء حقوق العبودية لسيد الكون سبحانه، فيكون انتفاعه به، وفق منهج الله في أمره ونهيه، والمنظومة الإسلامية في ذلك يمكن أن تشكل نقطة انطلاق للوقوف ضد "السعار الاستهلاكي" و "التكالب على كل شيء" الذي ثبت أنه سيودي بالعالم!!

          وقد تراوحت تعاليم الإسلام في ذلك، بين أمرين، يضبطان الكم والكيف، هما:

          أولا: الدعوة إلى الانتفاع [111] بمعطيات الكون وفق الحاجة، وعلى مقتضى التقلل والاعتدال، مما يحفظ توازنه، ويصون كفاءته في إعالة الحياة، قال تعالى، في صفات عباد الرحمن: ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) (الفرقان: 67) و ( قواما ) أي: معتدلا في النفقة "فأدب الشرع فيها: ألا يفرط الإنسان حتى يضيع حقا آخر أو عيالا ونحو هذا، وألا يضيق أيضا ويقتر حتى يجيع العيال ويفرط في الشح. والحسن في ذلك هو القوام، أي: المعتدل. والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله وخفة ظهره وصبره وجلده على [ ص: 167 ] الكسب، أو ضد هذه الخصال، وخير الأمور أوسطها" [112] ، وهو مقتضى قوله تعالى: ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ) (الإسراء:29 )، ومن مـداد ذلك قـوله صلى الله عليه وسلم : ( ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، حسب الآدمي لقيمات يقمن صلبه، فإن غلبت الآدمي نفسه، فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس ) [113] ؛ ومن ثم كان من دعائه صلى الله عليه وسلم : ( اللهم ارزق آل محمد قوتا ) [114] ، وكان يقول صلى الله عليه وسلم : ( قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنعه الله بما آتاه ) [115] ، قال العلامة ابن حجـر: "والكفاف: الكفاية بلا زيـادة ولا نقصان، وقال القرطبي: هو ما يكف عن الحاجات، ويدفع الضرورات، ولا يلحق بأهل الترفهات. ومعنى الحديث: أن من اتصف بتلك الصفات حصل على مطلوبه، وظفر بمرغوبه في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : ( اللهم ارزق آل محمد قوتا ) أي: اكفهم من القوت بما لا يرهقهم إلى ذل المسألة، ولا يكون فيه فضول تبعث على الترفه، والتبسط في الدنيا" [116] ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن "الأمن" و "العافية" و "الكفاية" هي جماع أمور الدنيا، فقال: ( من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ) [117] . [ ص: 168 ]

          ثانيا: النهي عن الإسراف والتبذير [118] ، فالمسلم إذا كان مطالبا، في إطار قوامته على الكون، واستنفاعه بمقدراته، بالقصد والاعتدال، فهو مطالب أيضا، في إطار هذه القوامة، بعدم الإسراف والتبذير في التعامل مع عطاءاته، وذلك بألا يكثر مما لا خير فيه، وألا ينفقه في غير حقه، أو في غير ما تلبية لحاجة من حاجاته الحقيقية، بل يضيق منافذ الانتفاع بعطاءات الكون، وفق مقاصد الشرع، ناظرا إليها على أنها "نعمة لا يجوز إهدارها، مع تحديد حاجات الإنسان، والقضاء على المبالغة في الاستخدام والتلذذ بالأشياء، مما يضعف مفهوم "تعدد الحاجات" الذي روجت له وسائل الدعاية والإعلان، إلى حد جعل الإنسان في خدمة "الاستهلاك"، أي أن يكون "الاستهلاك" أصبح غاية أو نقطة جذب يسعى إليها الإنسان، رغم أنه قد لا يكون محتاجا إليها" [119] ، وذلك كله وفق قاعدة الإسلام الكبرى: ( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) (الأعراف:31)، وقد بين الإمام الطاهر بن عاشور الحكمة من نهي الإسلام عن "السرف" و "التبذير" بأن القصد والاعتدال ضامن للمرء في غالب الأحوال، بالنسبة إلى من هم أصحـاب كفاف "أما أهل الوفرة والثروة؛ فلأن ذلك الوفر آت من أبواب اتسعت لأحد فضاقت على آخر لا محالة؛ لأن الأموال محدودة، فذلك الوفر يجب أن يـكون محفوظا لإقامة أود المعـوزين، وأهل الحاجة، الذين يزداد عـددهم بمقدار وفرة [ ص: 169 ] الأمـوال التي بأيدي أهل الوفرة والجدة، فهو مرصود لإقامة مصالح العائلة والقبيلة وبالتالي لصالح الأمة" [120] .

          ومن ثم كان تهذيب النفس، وترويضها على التقلل والاعتدال، وعدم التبذير والسرف، في المأكل والمشرب والملبس والبنيان وسائر مظاهر الحياة، أصلا من أصول الفقه الحضاري في الإسلام، وشرطا من شروط تحريك الحياة في كل مظاهرها، ولعل من أبرز الدلالات على نـهي الإسلام عن "الإسراف" ما رواه ابن ماجه من حديث أنس بن مـالك، رضي الله عنه، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت ) [121] ، وكذلك ما رواه أيضا من طريق عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بسعد، وهو يتوضأ، فقال: ما هذا السرف يا سعد؟! فقال: أفي الوضوء إسراف ؟ قال: نعم، وإن كنت على نهر جار ) [122] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( وإن كنت على نهر جار ) يدل على أن نهي الإسلام عن "الإسراف" في التعامل مع موارد الحياة، إجراء إسـلامي ممتد في حياة المسلم، ولا يتعلق بـ"الوفرة في هذه الموارد أو بالقلة، ولا بالصفـة المـالية أو عدمها، وإنمـا كان إجراء عاما في كل الأحوال والأوضاع، سواء كانت الموارد وفيرة أو ضئيلة، أو كانت مالا أو ليست بمال، ومقياسه الوحيد هو حد الكفاية في قيام الإنسان بوظيفته التعمـيرية في يسر، وذلك هـو الحد الذي ينخرط به في دورة البيئة انخراطا لا يسبب لها إرهاقا، وهو حد "الاقتصاد" وما تجاوزه من استهلاك فهو "الإسراف" الذي جاء التغليظ في النهي عنه، والابتعاد منه" [123] . [ ص: 170 ]

          وهكذا فإن "القوامة" بمفهومها الإسلامي، القائم على "الرفق والرحمة" و "المحافظة والحماية" و "الزهد والإيثار الكوني" تعطي بعدا جديدا في تعامل الإنسان مع معطيات الكون ومفرداته؛ مما يحفظ توازنها في الحال، ويبقي عطاءها للأجيال القادمة، فتبقى شريكا معطاء.

          وليست الحضارة العالمية بأصوليتها المادية الآن بحاجة إلى شيء مثل حاجتها إلى ترسيخ تلك القيمة فيها، بدلا من "منطق القوة" السائد في تعاملها مع معطيات الكون (من خلال عملية غزو إمبريالية للكون تتم لحساب الإنسان الغربي وحده، وإن كان يتأثر بنتائجها كل سكان الأرض!!) ذلك المنطق الذي يسحق "الآن الغابات، والمحيطات، والغلاف الجوي، والمياه العذبة المتجددة، والريح والمطر، والتنوع الثري للحياة ذاتها" [124] ؛ فالبشرية تحتاج اليوم إلى أن تتعلم كيف تقيم علاقة "قوامة" مع الكون، تحفظ له حرمته؛ حتى لا تعرض نفسها والكون من حولها للهلاك، بسفهها وتجاوزاتها الأخلاقية، واندفاعها النهم والشره وراء الاستهلاك، مما يهدد الحياة والبيئـة والأرض جميعا، وذلك ما أشار إليه آل جور - في معرض تحليله النقدي لما أفضت إليه الحضارة الغربية من أزمة بيئية، بفلسفتها المنفصلة عن كوكب الأرض- قال: "إن مستقبل الحضارة الإنسانية يتوقف على قوامتنا على البيئة، وبنفس الدرجة من الأهمية على قوامتنا على الحرية، وإن القوى الطـاغية التي تعـارض هـذه القوامة واحدة في الحالتين: ألا وهي الجشع، والاهتمام بالمصالح الشخصية، والتركيز على الاستغلال في المدى القصير على حساب سلامة النظام البيئي نفسه في المدى البعيد" [125] . [ ص: 171 ]

          3- المسؤولية والمحاسبة، وهذا هو البعد الثالث الذي يقوم عليه مفهوم "الائتمان الكوني"، بل يعد من القيم المحورية التي يدور عليها منهج الإسلام في "تحريك الحياة"؛ إذ الإنسان، وفق المنظور الإسلامي كما تقدم، ليس بالسائب، بل مسؤول مسؤولية كاملة، عن مصيره، ومصير الكون المؤتمن عليه، فهو يحمل مسؤولية استخدام مقدراته وعطاءاتها، وهذا الإحساس بالمسؤولية من شأنه أن يجعل الجميع يحافظون على الكون، بالقصد في الانتفاع، وبالصيانة من الخراب على حد سواء، وهذا هو المعنى المستبطن في قوله تعالى: ( يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم * فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) (الزلزلة:6-8)، كما أنه المعنى المستبطن في كل الآثار الشرعية التي أوردناها في نهي الإسلام عن أي حركة تؤدي إلى إتلاف مقدرات الكون بغـير حـق، مثل قـوله صلى الله عليه وسلم : ( من قتل عصفورا فما فوقـها بغـير حقهـا، سـأل الله عز وجـل عنها يوم القيـامة، قيل: يا رسـول الله، فما حقها؟ قال: حقها أن تذبحها فتأكلها، ولا تقطع رأسها فيرمى بها ) وفي رواية: ( من قتل عصفورا عبثا عج إلى الله عز وجل يوم القيامة، يقول: يا رب، إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني لمنفعة ) [126] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعا، فدخلت فيها النار... ) [127] .

          ثم إن هذه "المسؤولية" تقتضي المحاسبة والمجازاة، عن كيفية استخدام مفردات الكون وعطاءاتـها، واستغـلالها، وإعمار الكون بها، وفق منهج الله في [ ص: 172 ] أمره ونهيه، في وجوب "الانتفاع بنفع النافع، وإزالة ما في بعض النافع من الضر، وتجنب ضر الضار، بالتهذيب أو بالإزالة.. فإذا غير ذلك النظام، فأفسد الصالح، واستعمل الضار على ضره، أو استبقي مع إمكان إزالته، كان إفسادا بعد إصـلاح" [128] ، يتحمل الإنسان مسؤوليته، ويحاسب عليه، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا حق لابن آدم إلا في ثلاث: طعام يقيم صلبه، وثوب يواري عورته، وبيت يكنه، فما زاد فهو حساب ) [129] ، أي: أن الإنسان إذا أخذ قدر الحاجة من هذه الثلاث مثاب، وفيما زاد عليه، إن لم يعص الله متعرض للحساب، وإن عصى الله فهو متعرض للعقاب [130] ، ليس في الآخرة فحسب، بل يناله شقاء ما كسبت يداه في الدنيا، قبل أن يجازى على فساده في الآخرة.

          ومن الأمور المقررة أن هذه "المسؤولية" وما يترتب عليها من "محاسبة" تتعلق بالفرد وبالجماعة على حد سواء، فالحفاظ على الكون ومفرداته، والترفق بمعـطياته، لا يسأل ويحاسب عليه الفرد وحده، يل إنه يمتد إلى دائرة الجماعة والأمم، فهناك كتاب يحصي على الأمة عملها: ( وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون ) (الجاثية:28-29) ، كما كان هناك كتاب يحصي على الفرد عمله: ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا [ ص: 173 ] يلقاه منشورا * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) (الإسراء:13-14 )، فهذا كتاب لكل فرد، وذاك كتاب لكل أمة، وبين الكتابين فرق كبير، وهذا المفهوم يعطي قيمة أكثر فاعلية في الممارسة والصيانة والحماية لمفردات الكون ومعطياتها، فيكون الفرد مسؤولا في الحفاظ عليها أمام الأمة بل والإنسانية جميعا، كما أن الأمة مسؤولة عنها أمام الفرد بل والإنسانية جميعا!!

          إن مفهوم "المسؤولية" و "المحاسبة" عن الكون المؤتمن عليه الإنسان، التي ربى عليها الوحي المسلم، من القيم التي لابد من شيوعها بين العالم، في مقابل انعدام المسؤولية غير المسبوقة التي يشهدها العالم الآن في التعامل مع معطيات الكون وعطاءاتها، غرورا واستكبارا [131] ؛ إذ تمكن هذه القيمة الإنسان من مزيد المراقبة لأفعاله، وتعقب آثارها، والنظر في مآلاتها، فينهض إلى نقد نفسه، وتحمل مسؤولياته إزاء الأحياء والأشياء على الوجه الذي ينبغي، مؤديا حقوقها بما يحفظ كيانها، ويضمن استمرار عطائها، وديمومتها وتمتع الأجيال من بعده بها، فيأتي بكل فعل من أفعاله وهو يعي، على أكمل وجه، أن آثار فعله ومسؤوليته فيه، لا تقف عند جيله وذريته، بل تتعداهما، لا إلى الأجيال والذريات من بعده، وإنما إلى مستقبل يمتد إلى الأبد؛ ومن ثم يعلم أنه بتقصيره في أداء حقوق الكون، حماية وحفظا، إنما يقصر في أداء حقوق نفسه هو أولا، ثم في حقوق غيره ثانيا؛ إذ إن [ ص: 174 ] تبعات أفعاله الحالية غير محدودة الآثار في القادم من أجيال الإنسان، وفي المكنون من عالم الأشياء [132] !!

          وهكذا، فإن الإسلام بهذه الأصول الثلاثة التي تضبط علاقة الإنسان بالكون: "وحدة الإنسان مع الكون"، و "التسخير"، و "الائتمان الكوني" وما تولد عنها من جملة القيم، يؤسس لفقه "الاستمتاع بطيبات الحياة الدنيا"، كما يرتقي بالمسلم في منهجية تحريكه للحياة، وتعامله مع الكون وعالم الأشياء من حولنا، استنفاعا واستثمارا، إذ هي أصول كلها تقضي بإيجاد عالم تكون فيه العلاقات بين الأحياء والأشياء علاقات بين أقرباء، أقرباء فيما بينهم، وأقرباء من الرحمن الذي يتجلى عليهم، لا بقهره، وإنما برحمته، فيصير تعامله معها تعامل قوامـة وتراحم، لا تعامل عداء ومغالبة، فيؤدي حقوقها أداء القريب لحقوق قريبه [133] ؛ رفقا بها، وتلطفا في كيفية استثمارها، وحفاظا عليها وصيانة مقدراتها، وذلك بحفظها من الفساد أولا، وبالاقتصاد في الانتفاع بخيراتها ثانيا، وبتنميتها ثالثا، وفقا للمبدأ الإسلامي: "أن المخلوقات كلها، على تفاوتها، بعضها قريب لبعض"، و "أن لكل خلق حقا أو حقوقا تخصه" فيأتي فعل الإنسان الحضاري معها متصفا بـ"مشروعية المنطلقات" و "سلامة المآلات". [ ص: 175 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية