الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          قيم الإسلام الحضارية (نحو إنسانية جديدة)

          الدكتور / محمد عبد الفتاح الخطيب

          ثالثا: البناء التنظيري لمفهوم: "القيم الحضارية في الإسلام":

          وتأسيسا على ذلك كله يمكن القول: إن مفهوم: "القيم الحضارية في الإسلام" في بنائه التنظيري، يطلق، ويراد به في هذه الدراسة: "المعايير والموازين الموجهة لحركة الإنسان، والضابطة والحاكمة للفعل الحضاري، بكل تنوعاته وامتداداته، وفق رؤية الإسلام ومقاصده في "تحريك الحياة" تحصيلا للمعية الإلهية، وترسيخا للذات الإنسانية، واستقامة في التعامل مع مفردات الكون وعطاءاتها، من خلال فقه شغوف بـ "التوازن والتجرد"، و "أداء الحقوق" و "مراعاة الحرمات ورفيع الأذواق"، و "أخلاق البذل و الإيثار"، و "اصطناع المعروف"، و "ابتغاء الفضل وبذله"، و "محاربة الطغيان الحضاري"، و "الاستئثار العمراني"، وبعيدا عن ألوان التضليل والبغي الحضاري، وأخلاقياته في تحريك الحياة".

          وهو بذلك يعد مفهوما "منظومة" [1] يحرك في إطاره مجموعة من الدلالات المحورية، أهمها:

          1- أن "القيم الحضارية في الإسلام" تمثل "المنطق الداخلي" الذي يشكل الأمة الإسلامية، وبه قامت حضارتها وتطورت، كما يشكل "الوقاية [ ص: 23 ] الحضارية" أي: القوة المانعة للمسلم من الذوبان في (الآخر)، فهذه القيم بمقدار ما تشكل قوة دافعة للنهوض، واستعادة الفاعـلية، في أيام "الشهود"، بمقدار ما تشكل قوة، ووقاية حضارية، مانعة من الذوبان، في أيام "الوهن". وأي تفكيك للحضارة الإسلامية من هذا "المنطق" يعد لونا من العبث، بل ويعد مدخلا من مداخل "الانهزام" و "الاستلاب" الحضاري، و "التبعية" لغيرنا!! كما أن أي تفلت في "تحريك الحياة" من هذا "المنطق" فكرا وحركة، يسلب عن هذا "التحريك" صفة الإسـلام؛ ومن ثم فإن أي "تحريك للأمة" يعمل على إعـادة الفاعلية لها، لابد أن يحتكم إلى هذا "المنطق" وتنـزيله على الواقع، وإلا فشلت محاولات هذا "التحريك" حالا أو مآلا، كما هو مشاهد!!

          2- أن "القيم الحضارية في الإسلام" تمثل "معيارا" و "إطارا مرجعيا" حاكما وضابطا لحركة المسلم في الحياة، فهي ليست "رؤية" تقرر ما يجب أن يكون فقط، ولكنها "رؤية" ذات صلة بالواقع، فلا يتسم الواقع بسمة الإسلام، ولا يأخذ مشروعيته منه، إلا إذا التزم بـ"المعيار" و "الإطار المرجعي" الذي يتم من خلاله "تحريك الحياة" في مسيرتها وصيرورتها. والإسلام، في هذا المجال، يقدم ثلاثة مفاهيم، تمثل قيمه الكبرى في تحريك الحياة، وهي: "الاستخلاف" الذي يحدد مسار هذه الحركة، وفق مراد الله في أمره ونهيه، و "التزكية" المتحكمة في وسائل هذه الحركة، بحيث يراعى فيها: "حق النفس" و "حق الغير"، و "الاستقامة" التي هي انضباط حركة المسلم في هذه الحياة وفق منهج الله وشرعته، فتكون حركته، علما وعملا، منطلقة من معارف الوحي، ومنضبطة بمقاصده، ومناهج الاستمداد منه، حتى تكون كل [ ص: 24 ] أقواله وأفعاله، وأحواله ونياته، واقعة لله، وبالله، وعلى أمر الله. فهي مفاهيم ثلاثة: "الاستخلاف" و "التزكية" و "الاستقامة" جميعها يشكل "منظومة" واحدة [2] ، ويمثل "قيما محورية" تؤصل السعي الحضاري للمسلم [3] ، كما يمثل "ضوابط أساسية" لاستمرار حضارته، في عطاء لا ينضب، وفاعلية لا تموت.

          3- أن "القيم الحضارية في الإسلام" تشكل "المقاصد الحركية للإسلام"، و "مصالحه في تحريك الحياة"؛ ولذلك يعبر عن هذه القيم في أصول الفقه الإسلامي، تارة بـ"المقاصد" (حفظ الدين الذي هو الإطار المرجعي التأسيسي للأمة/ وحفظ النفس الفردية والجماعية/ وحفظ الكيان واستمراره في إطار العمارة الإنسانية وتنمية الموارد البشرية/ وحفظ المال وما يقوم عليه من عمليات التنمية والعمران/ وحفظ العقل وما يحمله من عناصر التكوين الثقافي وترسيخ عناصر القيم المتعلقة به) وتارة أخرى، بــ"المصالح" (المنافع التي قصدها الشارع والتي يتحقق بها صلاح الإنسانية في الحال، وفلاحها في المآل، أي: سعادتها في الدارين، ابتداء وانتهاء)، فـ"المقاصد" و "المصالح"، بهذا المفهوم، ليستا إلا تجسيدا للقيم الإسلامية، وتحديدا لمجالات الإعمال لها.

          4- أن "القيم الحضارية في الإسلام" بدلالاتها الثلاثة السابقة، في إطار مفاهيم: "الاستخلاف"، و "التزكية"، و "الاستقامة"، وفي إطار "المقاصد" و [ ص: 25 ] "المصالح"، تشكل بمجموعها، روح شرعة الإسلام ومنهاجه، فهي مرتبطة بها وجودا وعدما؛ إذ من خلال هذه القيم يظهر تمايز الشرعة الإسلامية عن غيرها، كما أن ليس اتباع "الشرعة" في أوامرها ونواهيها إلا تجسيدا لهذه القيم، وتفعيلا لها، وهو المعنى المستبطن في قوله تعالى: ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات ... ) (المائدة:48).

          5- أن القيم لها مركزيتها في البناء الحضاري الإسلامي: فمن أصول البناء الحضاري في الإسلام: أن يدرك المسلم أنه ليس بالسائب، وأنه لا يكتشف طريقه عبر عقلانية محضة، وإنما هو محكوم، بعد نصوص القرآن الكريم، بالحديث النبوي، يخضع للصحيح منه، ولابد، ذلك... أو التخبط، كما قال مالك بن أنس، رحمه الله: "ما قلت الآثار في قوم إلا كثرت فيهم الأهواء" [4] ، ويجمع ذلك كله حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ) [5] أي: لا يكون العبد مؤمنا حتى يخرج عن داعية هواه؛ ليكون "عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارا" [6] ، وهو ما يشير إليه قوله: ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) (الأنعام:162)، فما من شيء-كما يقول الراغب الأصبهاني-: [ ص: 26 ] "إلا وإذا تعاطاه الإنسان على ما يقتضيه حكم الله تعالى، كان الإنسان في تعاطيه عابدا لله، مستحقا لثوابه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد: ( إنك لتؤجر في كل شيء حـتى اللقمة تضعهـا في في امرأتك ) [7] " ومخاطبتـه لسعد بذلك لما عرف منه أنه يراعي في أفعاله حكم الله تعالى. وعلى هذا الوجه قال صلى الله عليه وسلم : ( ما من مسلم غرس غرسا، ثم يؤكل منه شيئ إلا كان له صدقة ) [8] " [9] ؛ فليس في أفعال المسلم، إذن، ما لا حكم له في دينه، إما منصوصا عليه بذاته، أو قابلا للاستنبـاط مما هو منصـوص عليه، أي: لا ثغرة حكمية في أفعاله؛ إذ "لله تعالى في كل فعل يتحراه الإنسان عبادة، سـواء كان ذلك الفعل واجبا، أو ندبا، أو مباحا" [10] ، مما يؤكد أن الحضارة الإسلامية، منذ تأسيسها القرآني والنبوي، كانت حضارة قيم ومفاهيم، وليست حضارة صور وأشكال، غايتها تنمية الإنسان، في سعيه الحضاري، والارتقاء به في مراتب الكمال العقلي والخلقي، من خلال دعوتها إلى:

          - "تحصيل المعية الإلهية" بالانضباط بمعيار الدين، والعمل على "مقتضى الشرع الإلهي"، فيؤمن المسلم بوجود الألوهية وراء كل شيء، فيعلم أن الحق [ ص: 27 ] يخاطبه في كل شيء، وأن هذه المخاطبة مستمرة استمرار الحياة، فحيثما توجه وجد ربه، مراعيا أمره ونهيه. ويعلم أن رؤية الله له لا تنقطع؛ ومن ثم فهو في كل أعماله مطالب بأن يراقب نفسه، ويراقب ربه، فهو دائر بين "تلقي الخطاب" من الله في كل شؤون حياته، و "تحمل الرؤية" من الله في كل أعماله. والقيم، في إطار تلك المعية الإلهية، ترتقي من رتبة "الأوامر والنواهي" التي تقهر الإرادة، إلى رتبة "المعاني الجمالية" التي تملأ الوجدان، فتجد الإنسان من خلالها يتفنن في الإتيان بالخلق تفنن الحاذق الملهم، حتى يوشك أن يخرج الفرد، في إطار القيم الإسلامية، عن أفقه الإنساني إلى أفق يعلوه؛ حيث "وضع النفس تحت الحقوق" و "الثبات على أصول الشريعة، وكليات العقيدة وجزئياتها" ويتأسس على ذلك أن مرجع تلك "القيم" في التصور الإسلامي، إذن، ليس إلى "الرأي والهـوى" وليس إلى "العقـل البشري" بلا قـاعدة ولا ضابط، وليس إلى "المصلحة" كما يتصورها الناس غير محكومة بأصل من دين الله، وليس إلى أي اعتبار آخر، غير اعتبار واحد هو "الوحي" المعصوم، بما يضعه من ضوابط وموازين تتحكم في كل شأن من شؤون الحياة؛ فالمسلم لا يستفيد من الدين "مقاصده" فقط، بل يستفيد -أيضا- "وسائله" في البلوغ إليها!! وهذا يمنحها: صفة الثبات والرسوخ، وقدرتها على الإنتاج في كل زمان ومكان؛ لأنها قيم مقررة من الشارع الحكيم سبحانه، الذي يضمن "صحة المقاصد" و "نجاعة الوسائل" على الدوام، كما يمنحها صفة القبول والإلزام، والعمل بمقتضاها انتظاما ومواظبة، فممارسة المسلم لأي عمل، انطلاقا من هذه القيم، وتوظيفا لها، والتقيد بها في جميع جهاته الظاهرة والباطنة، إخلاصا [ ص: 28 ] وتقربا إلى الله، هي مناط الشرعية؛ إذ للإسلام في كل وجه من وجوه تلك القيم أمر ونهي، وإيجاب وتحريم، وإباحة ومنع، ولعل ذلك سبب تسميتها في الفقه الإسلامي بـ(الآداب الشرعية)، ومن هنا فإن توظيف تلك القيم في الممارسة من قبل الفرد، أو المجتمع، أو النظام السياسي في الدولة، هو أساس شرعيته الحقيقية [11] ، وهذا يعطي شعورا عميقا بالمسؤولية تجاه الالتزام بها.

          - كما تتضح مركزية القيم في البناء الحضاري الإسلامي من خلال دعوتها إلى: "ترسيخ الذات الإنسانية" بـ"مراعاة حق النفس" تزكية لها، و "تصحيح السلوك"، أصلا، ومقصدا، ووسيلة. والعمل على "مراعاة حق الغير" إنسانا وحيوانا ونباتا وجمادا؛ إذ الأصل، في منهج البناء الحضاري الإسلامي، أن نمنح الحقوق لا أن نسلبها، وأن ندع المقابل يرضى لا أن يسخـط؛ ومن ثـم فـإن الواحـد من أبناء الأمـة الإسـلامية لا هم له إلا الأدب مع من وما سواه؛ ومن ثم يرفض الإسلام، في منهجيته لتحريك الحياة، أية قيمة تستلب إنسانية الإنسان باستعباده واستذلاله، أو لا تجسد إنسانيته، بل لا تجسد كمال الإنسانية فيه حيث الغاية في كمال الأخلاق بتزكية النفس مقصـدا وسـلوكا، كما يرفض الإسـلام أية حركة تتم في غيبة "المقاصد الإنسانية الكلية" التي تقوم، في الإسلام، على مقصد "التعبد" وما يدعو إليه من: "الاتزان" و "الاعتدال" و "التجانس" و "عدم الإغراب" و "الجري مع الفـطرة"، و "مراعـاة: حقائق النفـس، وحقائق الغير، والقدرة العقلية، والتحمل الجسدي، وحاجات الغرائز"؛ ولذا؛ فإن الإسـلام [ ص: 29 ] في "تحريك الحياة" يلزم أفراده ومؤسساته، بحشد من القيم والمعايير والضوابط، أو (الآداب الشرعية) التي تمثل (مدونة) أخلاقية [12] لا تجد لها نظيرا في تاريخ البشرية؛ فتعرف المعروف (كل المنافع التي من شأنها أن ترتقي بإنسانية الإنسان، أو على الأقل تحفظها) وتنكر المنكر (كل المضار التي من شأنها أن تنحط بهذه الإنسانية)، حتى الأحـكام الشرعية-التي تضبط حركة المسـلم التعبدية- فإنها لا تنفك عن القيم الأخـلاقية، فجانبها الأخلاقي يؤسس الجانب الفقهي، كما أن جانبها الفقهي يوجه الجانب الأخلاقي [13] مما يمكن القول معه: إن للحكم الشرعي -في الإسـلام- بنيتين متكاملتين: إحداهما فقهية، والثانية قيمية أخلاقية تضبط من سلوك الفرد باطن الأعمال التي تعود بالصلاح، أو الفساد عليه أو على غيره، مما يورث المسـلم أكمل تخـلق [14] ، وهـذا ما يؤكده الإمام الشاطبي بقوله: "والشريعة كلها إنما هي تخلق بمكارم الأخـلاق؛ ولهذا قـال عليه السـلام: ( إنما بعثت لأتمم مكارم [ ص: 30 ] [15] الأخلاق ) [16] ، ويقول صلى الله عليه وسلم : ( إن الله كريم يحـب الكرم، ومعـالي الأخلاق، ويبغض سفسافها ) [17] ، قال الإمـام الحرالي: "مكارم الأخـلاق" هـي "صـلاح الدين والدنيا والمعـاد، الذي جمعهـا في قـوله صلى الله عليه وسلم : ( اللهـم أصلح لي ديني الـذي هو عصمـة أمـري، وأصلـح لي دنياي التي فيها معـاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيهـا معـادى، واجعـل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعـل الموت راحة لي من كل شر ) [18] " [19] ، فالمقصـود الشـرعي من الرسـالة ، هو، مقصـود أخلاقي "وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لأتمـم ) إشـارة طريفـة إلى أن رسـالة الإسـلام القيمية رسـالة استئناف واستصحاب ومواصـلة، لا رسـالة ابتداء وانقطاع، فهي تنظر إلى ما أبدعه الإنسـان في كل زمـان ومكان من قيم عظيمـة، وأخلاق عالية تحقق "المقاصد الإنسانية" فتضمهـا مباشـرة إلى منظومتـها، ثـم تواصـل سيرها [ ص: 31 ] في هذا الكون الفسيـح؛ بحثا عن قيـم حضـارية سـامية تتحقق بـها إنسانية الإنسان وكرامته" [20] .

          - ومن خلال تلك القيم- التي تقوم على "تحصيل المعية الإلهية" و "ترسيخ الذات الإنسانية"- ومركزيتها في البناء الحضاري الإسلامي، يحقق المسلم معنى "الاستقامة" في العلم والعمل، فتكون كل أقواله وأفعاله، وأحواله ونياته، واقعة لله، وبالله، وعلى أمر الله [21] ، وهو ما نسميه بـ "الاستعمار الإيماني للأرض". وبهذا تكون هي "القيم الكونية" بحق، وليس سواها؛ إذ إنها قيم تبلغ النهاية في وصل الإنسان بربه، والكمال في وصل الإنسان بأخيه الإنسان، والغاية في أي بناء حضاري علما وعملا، فهي قيم، في فقهها الحضاري، موصولة بحبال ثلاثة: حبل يصلها بالله (الاستخلاف وتحصيل المعية الإلهية) وحبل يصلها بالناس (التزكية وترسيخ الذات الإنسانية) وحبل يصلها بالكون (الاستقامة والاستعمار الإيماني للأرض)؛ وهذا ما يظهر بيانه في الفصول التالية. [ ص: 32 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية