ثالثا: الحركة المسؤولة:
فإذا كانت الخلافة –في مفهومها الشامل والمتوازن- تعني: تعمير الدنيا وفق سنن الله ومنهجـه، وتمـكين الإنسـان من التمتع بجميع خيرات الأرض، كما تعني: قدرة الإنسان على اختيار سلوكه بنفسه، فإنها بهذا المعنى مصحوبة بالمسؤولية، بل مؤسسة عليها، "مسؤولية" ( بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره ) (القيامة:14-15) فـ"الاستخلاف" الذي هو منهج رباني في "تحريك الحياة" لن تكتمل فعاليته إلا إذا استشعر الإنسان المسؤولية باتجاه الكون والإنسان والحيوان والحياة، وأنه سيجازى على كل حركة يتحركها في الحياة، إما ثوابا وإما عقابا، يقول رسول صلى الله عليه وسلم : ( دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض ) [1] ، ويقول صلى الله عليه وسلم أيضا: ( إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن [ ص: 44 ] استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل، وفي رواية: فليغرسها ) [2] قال الإمام المناوي في شرح الحديث: "وفيه تنبيـه على أن من حق المؤمن ألا يذهب عنه، ولا يزال عن ذهنه، أن عليه من الله عينا كالئة، ورقيبا مهيمنا، وأجلا قريبا حتى يكون في أوقات خلواته من ربه أهيب، وأحسن احتشاما، وأوفر تحفظا منه مع الملأ" [3] ، ودون ذلك يصبح الالتزام بالشرعة والمنهاج دون ضابط أو مقصد أو غاية.
ولقد صور لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مسؤولية العبد عن كل ما يأتيه في هذه الحياة، فعن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، يقول:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ؛ الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته. قال: وحسبت أن قد قال: والرجل راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته ) [4] ، فهذا الحديث يبين، كما قال ابن حجر، أن كل مؤمن "مرعى باعتبار، راع باعتبار، حتى ولو لم يكن له أحد كان راعيا لجوارحه وحواسه؛ لأنه يجب عليه أن يقوم بحق الله وحق عباده" [5] ، وعن [ ص: 45 ] أبي برزة الأسلمي قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن: عمره فيما أفناه، وعن علمه فيم فعل؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟ ) [6] . مما يفترض المسؤولية, والإحساس بالواجب، كما جاء في الحديث الآخر : ( إن الله سائل كل راع عما استرعاه، أحفظ أم ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته ) [7] .
وهذا الشعور العميق بالمسؤولية تجاه الله عزوجل يقتضي:
أولا: مراعاة قيم الاستخلاف "من جانب الوجود"، وذلك من خلال: التوجه إلى السلوك ومراقبته، مراقبة الذات، ومراقبة الأعمال، فلا ينفك قول الإنسان عن فعله، ولا ينفك علمه بالأشياء عن معرفته بالله، ولا تنفك زيادته في المعرفة عن الإصلاح في الكون؛ إذ يستشعر العبد روح العبادة في كل شيء. ويصبح ملتزما بالقيم الخلقية والمثل العليا التي يربيه الدين على احترامها، فتنضبط بذلك مطالبه من حقوقه ورغباته، حتى مع مخالفيه، مما يحقق له الصلاح في الدنيا، والفلاح في الآخرة، والأمن والاستقرار لمجتمعه.
وثانيا: مراعاة قيم الاستخلاف "من جانب العدم"، وذلك من خلال القيام بكل ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع، ورد انحراف الواقع إلى [ ص: 46 ] المعيار في حدود الطاقة والاستطاعة، عملا بمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان ) [8] وهذا يجعل النفس أبدا قلقة متحفزة لبذل جهد مع الباذلين، وفي حالة الاستنفار والاستعداد للدفاع عن كل حركة في الحياة، بنفي العبث عنها، والقضاء على التحيز الأعمى للمصلحة الخاصة، وتستبسل في سبيل ذلك، بل وتزيح عن طريقها كل سعي لا يتفق وشرط "الاستخلاف" يحكم الإنسان في ذلك "منطق ركاب السفينة" في المثال الرائع الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم في تحمل المسؤولية، فعن النعمان بن بشير، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ) [9] .
وثالثا: تحرير الإنسان من الانشداد إلى الدنيا وزينتها؛ إذ إن مراعاة قيم "الاستخلاف" وما يتأسس عليها من معان إيمانية، وما تدعو إليه من إقامة الحق والعدل، وتحمل مشاق البناء الصالح "بحاجة إلى دوافع تنبع من الشعور بالمسؤولية والإحساس بالواجب، وهذه الدوافع تواجه دائما عقبة تحول دون [ ص: 47 ] تكونها أو نموها، وهذه العقبة هي الانشداد إلى الدنيا وزينتها والتعلق بالحياة على هذه الأرض مهما كان شكلها؛ فإن هذا الانشداد والتعلق يجمد الإنسان في كثير من الأحيان، ويوقف مساهمته في عملية البناء الصالح؛ لأن المساهمة في كل بناء كبير تعني كثيرا من ألوان الجهد والعطاء، وأشكالا من التضحية والأذى في سبيل الواجب، وتحملا شجاعا للحرمان من أجل سعادة الجماعة البشرية ورخائها، وليس بإمكان الإنسان المشدود إلى زخارف الدنيا والمتعلق بأهداب الحياة الأرضية أن يتنازل عن هذه الطيبات الرخيصة، ويخرج عن نطاق همومه اليومية الصغيرة إلى هموم البناء الكبيرة؛ فلا بد لكي تجند طاقات كل فرد للبناء الكبير من تركيب عقائدي له أخلاقية خاصة تربي الفرد على أن يكون: سيدا للدنيا لا عبدا لها، ومالكا للطيبات لا مملوكا لها، ومتطلعا إلى حياة أوسع وأغنى من حياة الأرض، ومؤمنا بأن التضحية بأي شيء على الأرض لا قيمة له تحضير بالنسبة إلى تلك الحياة التي أعدها الله للمتقين من عباده" [10] .
ومن ثم كان الإسـلام حريصا على تحرير الإنسان من الخضوع لأي أمر أو منهج غير منهج الله في أمره ونـهيه، فالإنسان في المنظور الإسـلامي، كما يقول ابن خلدون "رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له، والرئيس إذا غلب على رئاسته، وكبح عن غاية عزه تكاسل حتى عن شبع بطنه، وري كبده" [11] ، كما كان الإسلام حريصا على بيان منـزلة الدنيا من [ ص: 48 ] الآخرة، وأن أحوال الدنيا ترجع كلها، عند الخالق، على اعتبارها بمصالح الآخـرة، وتعميق ذلك في وعي المسـلم؛ ليعلم أن ما يفوته من لذات الدنيا لا نسبة له إلى ما يفوته في الآخرة من النعيم، حيث إن الآخرة هي الجزاء الحقيقي والحياة الحقيقة، وكل سعي في الدنيا إنما هو سعي للحصول على الجزاء الحقيقي في الآخرة، أو بعبارة أدق: سعي ممتد، يصل ما بين الحياة الدنيا والآخرة، وأي سعي يخالف ذلك- بأن تملأ الدنيا شغاف قلب العبد، وتستقطب وجدانه بحيث لا يشغله عنها شيء، ولا نظر إلى غيرها- هو سعي لا قيمة له عند خالق الحياة والأحياء، ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ) (التوبة:24) ، يقول سيد قطب: "وهكذا يجمع في آية واحدة جميع اللذائذ، والمطامح، والرغائب، ونقط الضعف في نفس الإنسان؛ ليضعها في كفة، ويضع في الكفة الأخرى حب الله ورسوله، وحب الجهاد في سبيله؛ لتكون التضحية كاملة، والتخلص من أوهاق-أحبال- الشهوات كاملا؛ فالنفس التي تتحرر من هذا كله، هي النفس، التي يتطلبها الإسلام، ويدعو إلى تكوينها، لتستعلي على الضراوة المذلة، وتملك قيادها وأمرها، وتنـزع إلى ما هو أكبر وأبعد مدى من الرغبات الوقتية الصغيرة" [12] . [ ص: 49 ]
ويوضح ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ( من أصبح والدنيا أكبر همه فليس من الله في شيء، ومن لم يتق الله فليس من الله في شيء، ومن لم يهتم للمسلمين عامة فليس منهم ) [13] ، كما يوضح صلى الله عليه وسلم في حديث آخر أن ( حب الدنيا ) هو ( الوهن ) الذي يمنع من "فاعلية الأمة" ويقلص من "شهودها الحضاري" ويعطيها:"قابلية للاستخفاف والطاعة"، فيقول صلى الله عليه وسلم : ( يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينـزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت ) [14] .
فالمسلم لابد من أن تكون همته مرتبطة بالله، وبعطائه في الآخرة، ويتجانس مع آداب الإيمان، ويصبر على الشدة المصاحبة لذلك؛ حتى يستطيع أن يتحرر من مغريات الأرض، وأن "يحرك الحياة" لصالح الإسلام وفق منهجية "الاستخلاف"، فلا يرى البتة إلا وهو يقطع مرحلة من مراحل الخلافة في [ ص: 50 ] الأرض، والتعمير فيها، محققا قول الله تبارك وتعالى: ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) (الحج:41).
فهذه المقولات: "الخلافة الاقتدائية"، و "السعي الحي في تحريك الحياة"، و "الحركة المسؤولة" تعطي لمفهوم "الاستخلاف" ذاتيته ودلالاته الكاملة، كما أنها تضع "الحدود الفاصلة بين الوضع الذي يمكن أن يطلق عليه مفهوم "الاستخلاف" وذلك الوضع المفارق له، والذي يطلق عليه-طبقا لمعطيات مفهوم الاستخلاف- الجاهلية" [15] ، بالإضافة إلى أنها تبرز الفارق الكبير بين القيم التي تتحكم في سعي الإنسان في المنظور الحضاري الغربي(الأنجلو- أمريكي) "قيم الهيمنة والإذعان" حيث "الأصولية المادية" المجردة، المنقطعة عن "الغيب" و "قيم الوحي" في التوجيه والهداية، وبين قيم السعي في المنظور الحضاري الإسلامي، "قيم الاستخلاف" حيث الارتباط في كل سعي بقيم الوحي، فينظر الإنسان إلى السماء قبل أن ينظر إلى الأرض، ويؤخذ بعالم الغيب لاكتشاف عالم المادة والحس.
ففي إطار هذه المقولات الثلاثة يعد "الاستخلاف" قيمة محورية تتحكم في السعي الحضاري للمسلم، وتحقق الاتساق بين "الفعل البشري" و "المقصد [ ص: 51 ] الإلهي" من وجود الكون، بحيث تكون جميع فعاليات الكون متوجهة إلى الله، منضبطة بمعيار الدين، وعاملة على "مقتضى الشرع الإلهي": كيف هو عند أمر الله ونهيه؟ وكل ذلك ينتج عنه أن المسلم في سعيه الحي للبناء الحضاري، يحصل على "المعية الإلهية" التي تعني: "التوفيق الإلهي" في صحة المقاصد، و "العون الرباني" في نجاعة الوسائل، مما يعينه على تنفيذ مراد الله في الأرض، وإجراء أحكامه فيها، ائتمارا بما أمر وانتهاء عما نـهى، فيستحق وصف "الخليفة" كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ثوبان: ( من أمر بالمعروف، ونهى عن لمنكر، فهو خليفة الله في الأرض، وخليفة كتابه، وخليفة رسوله ) [16] . [ ص: 52 ]