استقلال التعليم الشرعي
نشأ التعليم الشرعي مستقلا في موارده وإدارته، ومناهجه ومؤسساته.
كان التعليم إما في المساجد والجوامع، أو في المدارس، والمدارس تعيش على أوقاف الموسرين من المسلمين، وتقتصر شروط الواقفين على ما يرى أصحابها أنه ذو أولوية كالوقف على مـذهب معـين، أو فئة من الطلاب، أو كون المعلم والفقيه منتميا لمذهب فقهي أو عقدي.
ومع تطور الحياة المعاصرة اليوم ازداد نفوذ الدول والحكومات، وتوسعت في التدخل في حياة الناس العامة والخاصة، ومما ناله نصيب وافر من تغول النفوذ الحكومي: التعليم الشرعي، بل ربما كان أكثر تأثرا من غيره لشعور السلاطين بحاجتهم لأهله في ترسيخ شرعيتهم وتسويغ مواقفهم.
إن بقاء التعليم الشرعي مرهونا بالسلطة الحكومية له آثار عدة؛ من أهمها: خضوع التعليم الشرعي بمؤسساته ومناهجه ورجاله للقرار الحكومي المتسم بالبطء الشديد، وضعف المرونة، والتعقيد الإداري.
ومنها تأثره بالاعتبارات السياسية؛ فالقرار السياسي يرتبط بالمصالح والمتغيرات أكثر من المبادئ، فحين يختلف السياسي مع توجه عقدي وفكري فإنه يسوغ للتعليم الشرعي نقد هذا التوجه ودراسته وكشف عواره، بل يصبح ذلك مطلوبا، وحين تلتقي مصالح السياسي مع هذا التوجه يصبح [ ص: 148 ] الحديث عنه من إثارة الفتنة، ويمتد التدخل حتى إلى البحث العلمي الذي يفترض فيه الحياد والموضوعية.
ويمتد تأثير الاعتبارات السياسية إلى سائر عناصر محتوى التعليم الشرعي كفقه القضاء والسياسة الشرعية.. إلخ.
كما يمتد التأثير إلى اختيار القائمين على التعليم الشرعي ومؤسساته من قادة ومعلمين، ولا تزال حتى الآن عدد من مؤسسات التعليم الشرعي في الدول الإسلامية تخضع في تعيين قيادتها أو أعضاء هيئة التدريس فيها إلى سلامة السجل الأمني، وهو مرتبط بشخصيات أمنية لا صلة لها بالعلم الشرعي، ولا يمثل لدى كثير منهم أهمية وشأنا، ورأيهم غير قابل للنقاش والاستئناف.
كما أدى هذا الارتباط إلى التسابق لدى عدد من المؤسسات الشرعية في إرضاء المسؤول السياسي، وتطويع المؤسسة الشرعية بسمتها ووقارها لتتحول إلى أشبه ما تكون بالإعلام الرسمي، والصحف اليومية.
إن الدعوة لاستقلال التعليم الشرعي لا تعني التحول إلى الطرف المضاد؛ فتصبح مؤسسات التعليم الشرعي ورجاله مناوئين للسلطة السياسية، ومناكفين لها وتيار معارضة، ولا تعني الدعوة للصدام والصراع.
إنما تعني أن تستقل مؤسساته بمواردها المالية، وقراراتها الإدارية والعلمية، كما تعني أن تنأى المؤسسة الشرعية التعليمية بنفسها عن الارتباط بالواقع السياسي، وحين تناقش مسائل الفقه السياسي كطاعة ولاة الأمر، [ ص: 149 ] وحقوقهم وواجباتهم، فهي تتعامل معها بصورة علمية موضوعية بعيدة عن التأثر بالجو السياسي، سلبا أو إيجابا.
ويدعو رشيد رضا إلى استقلال التعليم الشرعي فيقول: "إخواني: إن التعليم الديني لن يكون وسيلة لسعة الرزق للألوف من المتخرجين في هذه المعاهد، ولا ينبغي أن يكون كذلك؛ وإنما يجب أن يقصد به إعادة مجد الإسلام من حيث هو دين هداية وسيادة، وسياسة وتشريع عام لجميع البشر، ولن يكون وسيلة إلى بلوغ رجاله هذه الغاية إلا إذا كان أهله مستقلين - دون الحكام - في إدارته ونظمه، ومناهجه ورزقه، ودرجاته العلمية بقانون يكفل لهم ذلك، فإلى هذه الغاية يجب أن تتوجه قوة المعاهد الدينية، فإن لم تفعل كانت عاقبة الدين في مصر كعاقبته في حكومة الترك، فلا أزهر ولا مدارس دينية، ولا محاكم شرعية، ولا أوقاف إسلامية، وإن فعلت رجي أن تعم هداية الإسلام الشرق والغرب، ويتم بها وعد الله باستخـلاف أهله في الأرض، وإظهـاره على الدين كله، فيكون علماؤه من الأئمـة الوارثين، وهي فـاعـلة إن شـاء الله تعالى وبه التوفيق". (المنار، 34 / 451 ).
وينتقد محمد البشير الإبراهيمي تدخل الحكومة الجزائرية زمن الاستعمار الفرنسي في التعليم الشرعي فيقول: "فما بال الحكومة الجزائرية احتكرت لنفسها كل ما يتعلق بديننا منذ قرن وزيادة؛ فاستولت على أوقافنا ومساجدنا، وأمسكت في يدها مقاليد رجال الدين منا. وضايقت [ ص: 150 ] التعليم الديني بالقرارات، ومسخت القضاء الإسلامي في الأحوال الشخصية وهي من صميم الدين.
إن الأمة الجزائرية المسلمة تعتقد أن حقها الديني لا ينبغي أن يكون محل جدال ومطل؛ لأنه لا يتعارض مع مصـلحة دين آخر، وترى أن من حقها- كأمة ذات مقومات حيوية- أن تطالب بفصل الدين الإسلامي عن الحكومة فصلا رسميا عاجلا، وأن تسلم لها أوقافها الدينية ومساجـدها تتصرف فيها تصرفا حقيقيا مباشرا، وأن ترفع القيود الإدارية عن تعليمها الديني العربي، وأن تتمتع في أحوالها الشخصية الدينية بقضاء نافذ صريح مبني على تعليم إسلامي واسع صحيح". (كتاب مفتوح لسعادة وزير الداخلية للجمهورية الفرنسية، آثار البشير الإبراهيمي، 3 / 154 ).
واستقلال التعليم الشرعي من مصلحة السياسي؛ فهو يعطي المؤسسة التعليمية ثقة لدى الناس، ويجعل كلمتها مسموعة حين يرون أنها مستقلة، وهي في الأغلب تتصف بالنضج والعقل والاتزان، وأهلها من أكثر الناس حرصا على استقرار المجتمع وسلامته. [ ص: 151 ]