الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

تطوير التعليم الشرعي (حاجة أم ضرورة)

الدكتور / محمد بن عبد الله الدويش

هل التطوير ضرورة؟

حين نتحدث عن تطوير التعليم الشرعي فإن عددا غير قليل من المهتمـين بالتعـليم الشرعي يرون أن التطوير إنمـا هو جانب تحسيني، ولو ارتقت أهميته قليلا فإنها ستقف عند مستوى الحاجة.

ووظيفة التطوير لدى هؤلاء تتمثل في مزيد من التشويق لطلب العلم الشرعي، وإظهاره بمظهر الجاذبية، مما يسهم في تحفيز بعض من فترت هممهم ولم يرقوا إلى ما كان عليه السلف الصالح فمن بعدهم.

ويستشهد هؤلاء - كما سبق- بنماذج تاريخية من إقبال أهل العلم وحرصهم وتضحيتهم في طلبه، رغم غياب وسائل التشويق والجاذبية؛ فالعلم لا ينال براحة الجسد.

ولا شك أن حياة أهل العلم من السابقين واللاحقين ناطقة بالبذل والتضحية والاجتهاد رغم قصور الوسائل وضعفها، إلا أن الشذوذ يؤكد القاعدة ولا ينفيها.

والتطوير له أثره في الجاذبية والتشويق وحفز من ضعفت هممهم على طلب العلم والإقبال عليه، إلا أن ذلك اختزال لمجال التطوير ولوظيفته وتأثيره.

فمجال التطوير المنتظر ليس في مجرد الشكليات والوسـائل فحسب، إنما هو في جميع عناصر المنهج: فهو تطوير في الأهداف، وفي بناء المحتوى وتنظيمه ولغته، وفي طرق التعليم، والبنية التعليمية .. إلى آخر مكونات التعليم وعملياته، بما لا يغير الحقـائق الشرعية، أو يلبس الباطل ثوب الحق، أو يتجاوز منهج أهل السنة وقواعدهم في الاستدلال. [ ص: 152 ]

كما أن تلك النظرة فيها اختزال لوظيفة التطوير وتأثيره؛ فوظيفة التطوير ليست مجرد إذهاب الملل، والتشويق؛ إنما هي تتضمن توسيع دائرة المستهدفين بالتعليم الشرعي، وتجاوز كثير مما يعوق الناس عن التعلم.

كما أن التطوير يستهدف إعادة بناء الشخصية بما يتناسب مع أدوارها في المجتمع، ويتوقع منه في هذا الإطار أن يقود إلى ما يلي:

- تجويد مخرجات التعليم الشرعي من الناحية النوعية، والإسهام في تخريج عناصر قادرة على إنتاج المعرفة، وتقديم الحلول للمشكلات المعاصرة.

- بناء الشخصية الإسلامية المتوازنة المتكاملة، التي تتمثل هدي أهل الإسلام وأخلاقهم وسمتهم، وتعطي مرآة حسنة وصورة إيجابية عن أهل العلم.

- تطوير القدرات الشخصية لخريجي مؤسسات التعليم الشرعي في التفكير، والإقناع، والتواصل وإدارة الذات.. إلخ، مما ينعكس على ثقافة طلبة العلم، ونمط حياتهم، وأسلوب إدارتهم لبرامجهم ومشروعاتهم.

- تنمية الفاعلية الشخصية، وزيادة القدرة على التأثير، وتحسين أدوات التعامل مع مختلف المواقف: السياسية، والاجتماعية، والفكرية .. إلخ.

ويعبر ابن عاشور، رحمه الله، عن ما يتطلع إليه من وظيفة التعليم الشرعي بقوله: "فالتعليم الصحيح إذن يرمي إلى إنشاء أرقى أصناف الناس من كل من تمرس بالأشغال والأعمال، أو رزق المواهب الحسنة، ورغب في سلوك خير السبل، وشغف بالمعرفة، وامتاز بحب الواجب والتعقل". (أليس الصبح بقريب، ص17). [ ص: 153 ]

ويشير في عبارة أخرى إلى وظيفة مهمة من وظائف التعليم الشرعي؛ فيقول: "لأجل هذا كان من واجب كل داع إلى التعليم أن يوضح لطالبيه الغايات التي يحصلونـها من مزاولة ذلك التعـليم، سواء كانت غاية دنيوية أو أخروية؛ لأن لكلتا الغايتين طلابا، فتلك الغاية هي التي يجتني منها المحصل على نهاية ذلك التعليم نفعا لنفسه دنيويا أو أخرويا، ووراء هاتين غاية هي أسمى وأعظم ما يبدو منها، وهي إنتاج قادة للأمة في دينها ودنياها، وهداة هم مصابيح إرشادها، ومحاصد قتادها، ومهدئو نفوسها إذا أقلقها اضطراب مهادها". (أليس الصبح بقريب، ص9).

كما يؤكد ابن باديس على هذا المعنى، فيقول: "لن يصلح المسلمون حتى يصلح علماؤهم، فإنما العلماء من الأمة بمثابة القلب إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله، وصلاح المسلمين إنما هو بفقههم الإسلام وعملهم به، وإنما يصل إليهم هذا على يد علمائهم، فإذا كان علماؤهم أهل جمود في العلم وابتداع في العمل، فكذلك المسلمون يكونون. فإذا أردنا إصلاح المسلمين فلنصلح علماءهم.

ولن يصلح العلماء إلا إذا صلح تعليمهم؛ فالتعليم هو الذي يطبع المتعلم بالطابع الذي يكون عليه في مستقبل حياته، وما يستقبل من علمه لنفسه وغيره، فإذا أردنا أن نصلح العلماء فلنصلح التعليم، ونعني بالتعليم، التعليم الذي يكون به المسلم عالما من علماء الإسلام يأخذ عنه الناس دينهم ويقتدون به فيه". (آثار ابن باديس، 3 / 217 ). [ ص: 154 ]

ويؤكد الشيخ رشيد رضا على أن إصلاح التعليم الشرعي هو الأداة الفاعلة للتغيير في واقع الأمة؛ فيقول في رسالته للخليفة العثماني: "وخبرتنا بأحوال الأمم الأوربية والأسباب التي وصلت بهم إلى ما نراهم عليه في القوة والدراية، كل ذلك يوجب لنا اليقين القطعي بأن إصلاح التعليم الديني على الوجه المتقدم يكون نشأة حياة جديدة تسري في جميع أرواح المسلمين العثمانيين، بل هو الذي سيفضي في أسرع وقت إلى توحيد كلمة الإسلام وجمع أطرافه تحت كنف الدولة العلية العثمانية، رغما عن أنف كل مخاصم، ومنه رأي هؤلاء العاجزين أن لا حافظ للدولة ولا واقي للملة سواه، وأن جميع ما صرف في سبيله من المتاعب والنفقات فهو أعود بالفائدة مما يصرف لأي عمل سياسي خارجي أو داخلي؛ فإنه لا سيـاسة إلا بالقوة، ولا قوة إلا بالنجدة، ولا نجدة إلا بالوحدة، ولا وحدة إلا بالطاعة، ولا حقيقة للطاعة إلا بالعقيدة الحسنـة، ولا عقيدة إلا بحيـاة الدين، ولا حياة للدين إلا بالتعليم حتى يجري على أحكام التجربة، وليس ذلك إلا ما عرضناه.

وإن جمهور المسلمين ممن يعرف أفكارهم في الأقطار العثمانية، بل وفي غيرها لا يرون دواء لدائهم إلا رجوعهم لأصول دينهم في أخلاقهم وأعمالهم، وإن يكونوا يجهلون الوسائل إلى ذلك". (المنار، 9 / 889 ).

وحين نعي العلاقة القوية بين مناهج التعلم وبيئته، وبين صياغة الشخصية وبنائها ندرك أن تطوير التعليم الشرعي ضرورة، وليس حاجة أو تكميلا.

كما أن ذلك يقودنا إلى التعامل معه باعتباره أداة للتغيير وتطوير الأداء العلمي والدعوي؛ فالتغيير إنما يبدأ من التغيير في الإنسان. [ ص: 155 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية