الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
المفهوم الواسع: وقد تنوعت تعريفاته، ويمكن تقريب مفهومه من خلال التعريف الآتي: "مخطط تربوي يتضمن عناصر مكتوبة من أهداف ومحتوى، وخبرات تعليمية، وتدريس وتقويم، مشتقة من أسس فلسفية واجتماعية، ونفسية ومعرفية، مرتبطة بالمتعلم ومجتمعه، ومطبقة في مواقف تعلمية تعليمية داخل المدرسة وخارجها، تحت إشراف منها بقصد الإسهام في تحقيق النمو المتكامل لشخصية المتعلم بجوانبها العقلية والوجدانية والجسمية، وتقويم مدى تحقق ذلك كله لدى المتعلم".(سعادة وإبراهيم، 1425هـ، ص62). [ ص: 61 ]

ويمكن أن يعبر عنه بما يلي:

هناك أربعة أسئلة رئيسة لا بد من الإجابة عنها عند بناء أي منهج، وهذه الأسئلة هي:

- لماذا نعلم؟ ويشير هذا السؤال إلى الأهداف المراد تحقيقها.

- ماذا نعلم؟ ويشير إلى المادة الدراسية (المحتوى) التي سنعلمها.

- كيف نعلم؟ ويشير إلى الطرق والأساليب والأنشطة المستخدمة لتحقيق الأهداف.

- كيف يمكن الحكم على النتائج؟ ويشير إلى أسلوب التقويم المتبع.

والأخذ بالمفهوم الواسع للمنهج ليس اتجاها حديثا، فهو مما تجده في أقدم ما كتب عن المناهج باللغة العربية، فضلا عن غيرها.

وحين نعود للتعليم الشرعي سنجد أن المنهج يتم التعامل معه على أساس المفهوم الضيق للمنهج؛ فمنهج الفقه هو كتاب عمدة الفقه، أو زاد المستقنع، أو الهداية، أو مختصر خليل، ومنهج التفسـير هو تفسير الجلالين أو ابن كثير، ومنهج المصطلح هو نخبة الفكر أو الباعث الحثيث، وهكذا...

وليس الاعتراض على تدريس هذه الكتب، كما أن الاعتراض ليس على مجرد دلالة مصطلح المنهج؛ فلا مشاحة في الاصطلاح، ولن يحصل الخلل في التعليم الشرعي بمجرد تميزه بمصطلحات خاصة، أو عدم مجاراة الاصطلاحات التربوية.

لكن تطور مفهوم المنهج التربوي لم يكن مجرد تطور دلالة أو مفهوم، بل كان نتيجة تطور النظرة إلى التعليم ووظيفته. [ ص: 62 ]

ومن ثم فالأخذ بالمفهوم الضيق ينبني عليه التعامل مع عنصر واحد من عناصر المنهج ممثلا في المحتوى، بل في وعاء المحتوى وهو الكتاب، الذي يدرسه المتعلم.

وينشأ عنه بالتالي إهمال العناصر الأخرى في الموقف التعليمي؛ كالأهداف والنشاطات والتقويم، أو ضعف العناية ببعض العناصر، والتعامل معها على أنها أمور تكميلية إن تحققت فهو حسن، وإلا فالتعليم سيحقق هدفه بدونها، كما هو الحال في النظرة إلى طرق التعليم؛ إذ تختزل النظرة إليها بكونها وسيلة للتشويق وإبعاد الملل، وليست عاملا مهما في تحقيق أهداف التعلم.

وحتى تتضح الصورة نأخذ المثال التالي:

- المفهوم الضيق للمنهج:

لدراسة موضوع السلم من كتاب عمدة الفقه، فإن ما يتعلمه الطالب هو متن الكتاب، الذي يقرأه حفظا، أو بالنظر إلى الكتاب أثناء القراءة على الشيخ، ثم يقوم الشيخ بالتعليق عليه، ومن أهم ما يتضمنه هذا التعليق ما يلي:

- توضيح الألفاظ والمصطلحات الغامضة.

- الاستدلال على المسائل، التي ذكرها المؤلف دون دليل.

- التفريع على بعض المسائل.

- ذكر الخلاف وأدلة المخالفين. [ ص: 63 ]

وفي نهاية الدرس يقوم الشيخ بتوجيه عدد من الأسئلة حول ما تمت قراءته والتعليق عليه.

ويعبر عن ذلك خالد الصمدي وعبدالرحمن حللي بقولهما: "والناظر حتى في الأدبيات المؤطرة لطرق تدريس علوم الشريعة، لا يجدها تخلو من الإشارة إلى نمط واحد ترتكز خطواته على قراءة النص، وشرح مفاهيمه الرئيسة، ثم استخراج مضمونه وتحليل عناصره، ثم تقويم الفهم والحفظ بالاستظهار والأسئلة الشفوية المباشرة، ومعلوم أن مثل هذه الطريقة لا يمكن أن تخلق الدافعية للتعلم، كما لا تنمي مهارات وقدرات لدى المتعلم تمكنه من استثمار النص الشرعي المدروس في مواقف تعليمية خارج بيئة الفصل الدراسي، ولا يستطيع نقل آثار هذا التعلم إلى سلوكه". (أزمة التعليم الديني، ص75).

- المفهوم الواسع للمنهج:

يتضمن - بالإضافة إلى ما سبق- ما يلي:

- أهداف الموقف التعليمي والتي تتطلب التخطيط الجيد للموقف التعليمي، وتحديد ما سيتعلمه الطالب بدقة، موزعا على المجالات الثلاثة (المعرفي، المهاري، الوجداني)، ومراعيا كافة المستويات (التذكر، الفهم، التطبيق، التحليل، التركيب، التقويم)، وهكذا في المجالين المهاري والوجداني.

- طريقـة التدريس، التي يستخدمها المعلم، والأمر ليس قاصرا فيها على مجرد التنويع والتشويق أو إذهاب الملل -كما سبقت الإشارة لذلك-، [ ص: 64 ] بل لها دور مهم في تحقيق أهداف التعلم، وعمق التعلم، وبناء الجوانب الأخرى في شخصية المتعلم؛ فالطرق الجماعية في التعلم -كالتعلم التعاوني- تسهم في تنمية مهارات العمل الجماعي والحوار والتواصل لدى المتعلم، وتسهم الطرق الاستكشافية في تنمية التفكير والعمليات العقلية العليا لدى المتعلم.. إلخ.

- نشاط المتعلم وأداءه أثناء الموقف التعليمي، والأسئلة التي توجه له ليمارس التعلم والاستنتاج من خلالها، كما تشمل ما يقوم به المتعلم من نشاط خارج الموقف التعليمي: كالبحث، والكتابة، وإعداد التقارير.. إلخ. وينطبق على النشاط ما ينطبق على طرق التعليم.

- تقنيات التعليم ووسائله.

- التقويم بأساليبه وأدواته المتنوعة، التي تقيس مدى تحقق أهداف الموقف التعليمي، ومدى النمو في شخصية المتعلم.

وقد كان لعـدد من أهـل العلم اعتناء بالمفهوم الواسع للمنهج، وإن لم يستخدموا المصطلحات التربوية، فعلى سبيل المثال يدعو البشير الإبراهيمي إلى اعتناء التعليم الشرعي بتنمية مهارات المنتسبين إليه، فيقول: "والواجب على الوزارة إدخال الوعظ في مناهج التعليم الديني، وتمرين الطلاب عليه من الصغر، حتى تخرج بعد أعوام طبقة عالمة بكيفية الوعظ وشروطه، قادرة على تأديته على أكمل صوره. [ ص: 65 ]

والواجب أن توزع الوعاظ على الأقاليم، وتأمرهم بأن لا يقتصروا على المسائل الدينية فقط، بل يتناولون المسائل الدنيوية التي يعمر بها الوطن، وتسعد بها الأمة والحكومة، مثل التحريض على العمل، والتنفير من البطالة والكسل، ومثل تحبيب الفلاحة والتجارة والقراءة، ومثل الأخوة والاتحاد والتعاون على الحق، ومثل إصلاح العائلة التي هي أساس الأمة، ومثل تحسين العلاقة بين الغني والفقير، ومثل الطاعة للحكومة في المعروف". (آثار الإبراهيمي، 4 / 73 ).

ويصف محمد البشير الإبراهيمي ما كانت تعنى به جمعية العلماء المسلمين، فيقول: "إن جمعية العلماء تبث في أساتذتها وتلامذتها وجميع أعضائها والمتعلمين على طريقتها روح المطالعة النافعة، والبحث العلمي السديد، وترشدهم إلى كيفية المطالعة وطرائق البحث في التاريخ والاجتماع والأدب، والرجال والكتب، وإذا كان المتأهلون لهذه المباحث الآن تصدهم عنها شواغل الدروس وغيرها، فإن النهضة الجزائرية العلمية التي كونتها جمعية العلماء، والحركة الفكرية التي غذتها ستتمخضان بناشئة تساهم في الأبحاث العلمية -إن شاء الله- مساهمة قيمة". (آثار محمد البشير الإبراهيمي، 1 / 193 ).

كما يسطر سعي جمعية العلماء لإصلاح أساليب التعليم، فيقول: "كذلك سعت الجمعية إلى إصلاح أساليب التعليم، فقضت في تعليمها بقسميه المكتبي والمسجدي على تلك الأساليب العتيقة العقيمة، التي كان [ ص: 66 ] يباشر بها التعليم والتي ما زالت مثارا للشكوى والتذمر في مكاتب التعليم ومعاهد العلم بغير الجزائر، ولم تستـطع تلك المكاتب والمعاهد التخلص منها مع ظهور فسادها". (آثار محمد البشير الإبراهيمي، 1 / 191 ).

ويؤكد الشيخ محمد رشيد رضا على دور عناصر المنهج في بناء شخصية المتعلم، فيتناول طرق التدريس، وبيئة التعليم وأنظمته، فيقول في رسالته إلى الخليفـة العثماني...: "وبالجملة فالقصـد من إصلاح الجداول إنما هو إلى إحياء الملة، وقد كادت تموت والعياذ بالله. ولهذا يجب أن يكون التدريس في أغلب العلوم المتقدمة خصوصا في الأخلاق والآداب أشبه شيء بالخطابة ترسل في المعاني إلى القلوب لتهزها وتستفزها من مقار الخمول والغفلة إلى مقامات التنبه والبصيرة، ثم يتبع الدرس رعاية لأحوال المعلمين وأعمالهم ومؤاخذة لهم إذا خالفوا حـكما من أحكام ما تعلموه، أو قصروا في عمل من لوازم ما اعتقدوه، وتذكيرهم في ذلك يوثر في قلوبهم، ويحرك الساكن من خواطرهم".

ثم يؤكد على دور شخصية المعلم وأثرها في التعليم فيقول: "ومن ثمة يجب أن يكون القائمون بالتعليم على أكمل الصفات العقلية وأفضل الأعمال النفسية، يراعى فيهم ذلك بقدر الإمكان. وإن ثقتنا بوعد الله في قوله: ( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) (محمد:7)، وقوله: ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) (العنكبوت:69) ، وقوله: ( إن الله مع الذين اتقوا ) [ ص: 67 ] (النحل:128) وقوله: ( ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) (التوبة:33) ، واعتبارنا بقوله: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد:11).

ويوضح أهمية أثر طرق التعليم -كأحد عناصر المنهج - على شخصية الطالب فيقول: "الإنتاج الإنساني عموما، والمعرفي منه بوجه خاص، هو حصيلة وخلاصة واستثمار للكيفية التي درس بها الشخص، وليس معنى هذا أنه لا ينتج إلا ما سبق أن تعلمه، ولكن معناه أنه لن ينتج إلا بالطريقة التي تعلم بها؛ مثلا إذا كانت الطريقة التي يتلقن بها الطالب الفقه، هي أن يحيله الأستاذ على بعض كتب المالكية في المباحث المدروسة ليعرف آراءهم وأقوالهم؛ فإنه سيترسخ لدى هذا الطالب أن الفقه هو أحكام جاهزة متضمنة في كتب الأقدمين لا يسعه إلا التعرف عليها والنهل منها؛ فإذا أتم الطالب مرحلة التمدرس، وعمد إلى البحث الذاتي والإنتاج المستقل فإنه سيجد نفسه مشـدودا إلى التنقيب في كتب السابقين، حـتى إذا ما عرضت له مسألة أو طلبت منه فتوى فإنه سيقوم "بدراسة مسحيـة" للإنتاجـات السالفة عله يظفر بمراده، فإذا لـم يجد اضطرب بحثه وعجز عن الإنتاج. وبقدر اطلاع الباحثين على أقـوال الماضين وكتبهم وحفظهم لها، تتفاوت أقدارهم وإنتاجهم.

إذا كان كل عمل الطالب في مرحلة التلقي هو الحفظ والاسترجاع، فإنه لا يصـح بحـال أن يطلب منه في مرحلة العطاء أن يستنبط أو يحلل؛ [ ص: 68 ] لأن ذلك بمثـابة التكليف بمـا لا يطاق. إن الحفـظ والفهم والاسترجاع والاستنبـاط والتحـليل والمقـارنة مراتب عقلية متفاوتة (مع أهمية كل مرتبة وضرورتها في مجـالها الخـاص)، ومن لم يشتغل ببعض هذه المراتب خلال دراسته فإنه لن يحسن الاشتغال بهـا خـلال إنتاجه". (منهاج تدريس الفقه، ص24).

إن هـذه الأفكار الإصلاحية في التعليم الشرعي بحاجة إلى أن يعتنى بهـا، وألا تكون هي النهـاية، بل نقطـة البـداية لمزيـد من التأطـير المنهجي والتطوير.

وينبغي أن يراعى التعامل مع المفهوم الواسع للمنهج في كافة عمليات المنهج الشرعي: التخطيط، التقويم، التنفيذ، التطوير، والنظر إلى أن المتعلم هو نتاج كافة عناصر المنهج، وليس المحتوى وحده. [ ص: 69 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية