- مبررات المعالجة الفقهية للعنف:
هذه المبررات على ثلاثة مستويات:
- المبررات الشرعية الإسلامية التي تؤصل لمسألة العلاج عند وجود الداء، ولمسألة التصحيح عند وجود الخلل، والإصلاح عند ظهور الخطأ، والصلح عند نشوء النـزاع. قال تعالى: ( والصلح خير ) (النساء:128)، وقال: ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ... ) (الحجرات:9)، هذه المبررات التي تقرر طريقتين للمعالجة:
- طريقة الوقاية قبل ظهور الداء أو المرض أو الخطأ، باعتماد التثقيف على منع التعنيف. [ ص: 71 ]
- طريقة العلاج الفعلي عند ظهور الداء وبروز المرض. وهنا يتحدد العلاج ونوعه وحجمه ومدته بحسب طبيعة هذا الداء ومضاعفته ومشاكله...
هذه المبررات هي التي تقرر الحقيقة الشرعية لمنظومة الدين المجافية للعنف من حيث المبـدأ والتفصيـل، إلا ما كان مشـروعا بوضوح ودقة، وما كان محددا ومتروكا لأصحابه الشرعيين، كمقاومة المحتل المعتدي والغاصب وتعنيفه لطرده وإخراجه من الديار والأوطان ومنع مخاطره المادية والمعنوية والثقافية والأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
وكإقامة العقوبات والأحكام الجزائية الشرعية والنظامية على المعتدين والمجرمين والجناة بشروط وتفاصيل واردة في كتب الفقه والقضاء والأحكام والسياسـة الشرعية والقوانين، وبإشراف ولي الأمر أو الحاكم أو من يكون في معناه وحكمه، كالهيئات القضائية والقانونية...
وكإقامة بعض التدابير التربوية والتأديبية، كتأديب الأبناء بضرب يسير وخفيف، وكممـارسة القـوة لمنـع التصرف العنيف أو الضرر المحتمـل الصـادر عن المريض عقـليا أو نفسـيا، والدفاع عن النفس أو العرض أو المـال عند وجـود الصـائل (حيوان أو إنسان) أو هجوم الغاصب أو تهديد السارق والمارق والظـالم، ففي مثـل هذه الأحوال يجد المدافع عن نفسه أو عرضه أو ماله مدفوعا بلا اختيار لممارسة نوع من العنف اللفظي (كنهر المعتدي [ ص: 72 ] وتخويفه من سوء عمله) أو البدني لدفع الأذى والضرر المسلط عليه بموجب التعدي والاعتداء والبغي والإفساد.
إن مواضع العنف محددة ومحصورة ومن الممكن زيادة تدقيقها وتحقيقها بالنظر والاستقراء وبالعمل الفقهي الجماعي والمجمعي والجامعي، وهذا ينفي بحول الله عناء الاختلاف الذميم والتطبيق الأعوج لبعض النصوص والأحكام التي تتناول فعل التأديب والتعنيف في ضوء المنظومة كلها، وليس على وفق بعض الأهواء وفي بعض الأجواء.
وما يمكن أن نقرره في بيان هذه الحقيقة الشرعية الإسلامية، أن الدين الإسلامي دين الرحمة والسلم والسماحة والرفق المحمود واللين المطلوب والسهولة من غير تقصير والتخفيف من غير تعطيل، وليس فيه من التطرف أو الغلو أو العنف أو الإرهـاب إلا بما ألصـق به من اتـهامات أو شبهات أو ممارسـات معينـة ينبغي أن تـذكر وأن تفسر وأن تعالج وأن تتجاوز، وأن لا تتخـذ منها ذريعة لتحميل الإسلام وأمته ودوله وعلمائه مسؤولية هذا الغلو والتطرف والعنف.
- المبررات التاريخية، التي تؤسس لمنطق اللا عنف في العمل الفقهي الإفتائي والتعليمي والإصلاحي والحضاري، من خلال المشوار الفقهي عبر التاريخ الإسلامي، المبني على التثقيف والتعليم، والتغيير بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن والمحاورة الهادفة إلى تقرير الحق والحقيقة، [ ص: 73 ] وعدم اللجوء إلى التعنيف بكل صوره وألوانه القولية والفعلية والفردية والجماعية. وهذا المنطق اللا عنفي مبثوث في شواهد التاريخ ومختلف أحواله ومدلل عليه ومستشهد له. وكان هذا معروف في مظانه وموارده. وهو يجذر القول بضرورة تفعيل المعالجة الفقهية لحالة العنف في العصر الحالي الذي هو امتداد وتواصل للعصور التاريخية السابقة.
- المبررات الواقعية المعاصرة، التي أفادت في أكثر من موقع وفي أغلب الأحوال بأن سبيل العنف والتطرف والشدة والغلظة لا يؤدي إلى كبير نتائج ولا إلى صحيـح مصالح، وإن كان قد أدى إلى بعض النتـائج الجزئية أو المحصـلات الظرفية الزائلة، كإشفـاء غليل أو النيل من شخـص أو فئة أو مسـايرة بعض الأهـواء والرغبات والقناعات، أو إثبات الـذات لفترة، أو إثارة الإعجاب وإبداء الرهبة والمهابة، أو ما شاكل ذلك.
وقد تبين في مناسبات كثيرة أن ملازمة المعالجات الشرعية العملية والفقهية الرصينة والمعتدلة والهادئة والحكيمة هي الممارسة الذكية والواقعية والمنطقية، والتي حققت معالجات حقيقية وإنسانية وإصلاحية مبنية على موازنات رصينة، ومراعية لخصوصيات محددة تلاءم فيها المطلوب الفقهي وحاجات الواقع، وتوافقت فيها مختلف الأنظار الفكرية والمذهبية والسياسية والمدنية، ضمن معادلة وفاقية وروح تعاونية، يعود خيرها على الجميع، ويعم نفعها الكل والكافة. [ ص: 74 ]
وهذا يستند بالأساس إلى الدراية الواسعة والمعرفة الجامعة بمنظومة العلوم الفقهية في أصولها وكلياتها ومقاصدها وفروعها وخصائصها وآلياتها، وإلى الإلمام الدقيق بالواقع ومتطلباته ومتغيراته، وبأحوال المجتمع وخيارات الدولة الوطنية وطبيعة المرحلة وأوضاع العالم
وقـد حققـت هـذه المعالجات الحكيمة آثارها الطيبة وأمدت الخطاب الفقهي والشرعي بعوامل وجوده وتحقق إسهاماته التربوية والتعليمية والتثقيفية والحضارية.