الفرع الثاني: التحوط بالضمان ضد مخاطر عقود الاستثمار:
أولا: ضمان الطرف الثالث لرأس المال أو له وللربح معا:
التجارب العالمية قد دلت على أن وجود مؤسسة أو مؤسسات متخصصة لضمان الودائع، خارجة عن البنك الوديع نفسه، يزيد من ثقة المودعين ويخفف من قلق أصحاب الودائع عند اشتداد العاصفة.
ويعنى بضمان الطرف الثالث: أن يتقدم طرف أو هيئة، مستقلة عن علاقة وعقد المضاربة بين رب المال والمضارب ومستقلة عن المضارب، بضمان رأسمال المضاربة. فإذا ما دخل رب المال في المضاربة بناء على هذا الوعد يصبح الطرف الثالث الواعد عندئذ ملزما تجاه رب المال بهذا الضمان.
أمـا الأسـاس الشرعي لـضـمـان الـطرف الثـالث فهو التبرع المحض، ذلك أن لأي شخص أن يتبرع بما يشاء ولا قيد على المالك أن يتبرع بماله لمن يشـاء وكيفما يشاء؛ لأن "الناس مسـلـطـون عـلى أمـوالـهم، يفعلون بـها ما يشاؤون، لا يقيدهم في ذلك إلا قيد الشرع".
والحقيقة أن ضمان الطرف الثالث، طالما أنه يقوم على التبرع، لا يقتصر فقط على رأس المال وإنما يمتد إلى أي شيء آخر بـما فيه أية نسبة من الربح، إذ أن للمتبرع أن يتبرع بما يشاء لا يقيده في ذلك شيء. ولكن مثل هذا الضمان يحتاج إلى مبررات حقيقية وأكيدة قائمة على تحقيق مصلحـة عامـة إذا ما كانت الدولة هي الطرف الثالث، الذي سيقدم الضمان؛ لأن الدولة [ ص: 141 ] وكيلة في تصرفاتها عن الأمة. أما إذا كان الضمان مقدما من جمعية -تكون هي الطـرف الثالث الخـارجي عن عقد المضـاربة- يؤسسها أرباب الأموال أو تؤسس لهم من قبل البنك الإسلامي أو من قبل الدولة فإن التبرع مفتوح عندئذ على مصراعيه ولا يحده إلا اتفاق الأطراف ذوي العلاقة. [1]
"وليس في مقاصـد الشريعة العامة وقواعدها الكلية، وأحكامها الجزئية ما يمنع من صحة تبرع شخص بمبلغ من المال، إذا كان تبرعه هذا معلقا على شرط معين، فغاية الأمر في هذه الحالة أن المتبرع يعلق التزامه على شرط هو تلف رأس المال أو بعضه، أو نقصان الربح عن حد معين". [2]
ومن أمثلة الطرف الثالث، الذي يمكن أن يفعل في ضمان الودائع المصرفية، سواء منها ما كان في الحساب الجاري أم في الحسابات الاستثمارية، صندوق لضمان رأس مال الودائع المصرفية يؤسسه البنك الإسلامي أو مؤسسة لضمان الودائع تؤسسها الدولة وتعمل بإشراف ورعاية البنك المركزي.
ولدينا مثالان جديران بالدراسة في هذا الموضوع هما تجربة السودان وتجربة ماليزيا، مع ملاحظة أن معظم البلدان الإسلامية الأخرى ليس لديها نظم لضمان الودائع. [ ص: 142 ]
وقد أجاز مجمع الفقه الإسلامي ضمان رأس مال المضاربة من طرف ثالث على سبيل التبرع، كما ورد في القرار رقم (5) من الدورة الرابعة، ونصه: "ليس هناك ما يمنع شرعا من النص في نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على وعد طرف ثالث منفصل في شخصيته وذمته المالية عن طرفي العقد بالتبرع بدون مقابل بمبلغ مخصص لجبر الخسران في مشروع معين، على أن يكون التزاما مستقلا عن عقد المضاربة، بمعنى أن قيامه بالوفاء بالتزامه ليس شرطا في نفاذ العقد وترتب أحكامه عليه بين أطرافه، ومن ثم فليس لحملة الصكوك أو عامل المضاربة الدفع ببطلان المضاربة أو الامتناع عن الوفاء بالتزاماتهم بها بسبب عدم قيام المتبرع بالوفاء بما تبرع به، بحجة أن هذا الالتزام كان محل اعتبار في العقد".
والمتأمل في هذا القرار يجد أنه اشترط لصحة ضمان الطرف الثالث شروطا ثلاثة:
الأول: استقلال الضامن في شخصيته وذمته المالية عن طرفي العقد.
الثاني: مجانية الضمان دون مقابل.
الثالث: استقلال الضمان عن عقد المضاربة، والمقصود عدم انفساخ عقد المضاربة لو امتنع الواعد من تنفيذ وعده.
والمقصود من النص على هذه الشروط في القرار هو ضمان عدم التلاعب بقضية الضمان حتى لا ينقطع الخيط الرفيع بين البنوك الإسلامية وغيرها وهو الغرم بالغنم أو الخراج بالضمان. [ ص: 143 ]
وقـال د. محمد علي القري، معلقا على قرار مجمع الفقه الإسلامي: "ولا يخفى أن القرار المذكور كان في سياق التمهيد لتطوير ممتلكات الأوقاف في المملكة الأردنية الهاشمية، والضمان تقدمه الحكومة للمستثمرين باعتبارها طرفا [مستقلا عن الأوقاف]" [3] .
ثانيا: التبرع بالضمان من أحد العاقدين:
إن شرط في عقد المضاربة أن ضمان رأس المال على المضارب فالعقد فاسد لا يصح.
قال الكاساني: "ولو شرطا في العقد أن تكون الوضيعة عليهما بطل الشرط، والمضاربة صحيحة" [4] . وقال القاضي عبد الوهاب: "إذا شرط رب المال على العامل الضمان فالقراض فاسد... فدليلنا أن القراض عقد غرر مجوز مستثنى من الأصول، فلم يجز فيه إلا قدر ما ورد به الشرع، ولأن موضوعه على الأمانة، فإذا شرط فيه الضمان فقد عقد على خلاف موضوعه فوجب أن يفسد" [5] . [ ص: 144 ]
وقال ابن رشد: "إذا شرط رب المال الضمان على العامل، فقال مالك: لا يجوز القراض وهو فاسد، وبه قال الشافعي...وعمدة مالك أن اشتراط الضمان زيادة غرر في القراض نفسه..." [6] .
وقال الماوردي: "أما اليد الأمينة، فيد الوكيل، والمضارب، والشريك، والمودع، والمستأجر، والمرتهن. فهؤلاء كلهم لا ضمان عليهم ما لم يتعدوا ويفرطوا". [7] وقال: "ولو شرطا في عقد القراض تحمل العامل للخسران كان القراض باطلا؛ لاشتراطهما خلاف موجبه" [8] .
وقال ابن قدامة: "اشتراط ما ليس من مصلحة العقد ولا مقتضاه، مثل أن يشترط على المضارب المضاربة له في مال آخر ... أو يشترط على المضارب ضمـان المال أو سهمـا من الوضيـعـة ... فهـذه كلهـا شـروط فاسدة ... ومتى اشترط شرطا فاسدا يعود بجهالة الربح، فسدت المضاربة؛ لأن الفساد لمعنى في العوض المعقود عليه، فأفسد العقد" [9] .
بل قال ابن المنذر [10] : "وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال القراض، الذي يشـترط أحـدهما أو كلاهما لنفسه دراهـم معلومـة. [ ص: 145 ] وممن حفـظنا ذلك عنـه: مـالك، والأوزاعـي، والشـافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي" [11] .
وقرر مجمع الفقه الإسلامي ذلك، كما ورد في القرار رقم (5) من الدورة الرابعة: "لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال أو ضمان ربح مقطوع أو منسوب إلى رأس المال، فإن وقع النص على ذلك صراحة أو ضمنا بطل شرط الضمان واستحق المضارب ربح مضاربة المثل".
والحـقيـقـة أن عبارة "واستـحـق المضـارب ربـح مـضـاربة المثل" مشكل في القرار، فإن ربح مضاربة المثل هو بالفعل ربح، فانتهينا إلى ضمان الربح. وكان الأولى أن يستحق المضارب أجرا يعادل ربح مضاربة المثل، سواء أربحت المضاربة أم لم تربح.
وعلى ذلك، فاشتراط الضمان في عقد المضاربة يفسدها؛ لأن المال أمسى مضمونا على المضارب فصار قرضا وزيادته المشترطة ربا؛ لأن العبرة في العقود بالقصود والمعاني لا بالألفاظ والمباني.
أما إذا تبرع المضـارب بتحـمـل الخـسـارة بدون أن يـكون هـذا شـرطا أو عرفا "لأن المعروف عرفا كالمشـروط شـرطا" فقد نص فقهاء المالكية على أن المسألة محل خلاف، منهم من قال بالمنع، ومنهم من قال بالجواز. [ ص: 146 ]
فنقل الحطاب [12] في المواهب: "لو تطوع العامل بضمان المال ففي صحة القراض خلاف بين الشيوخ، فذهب ابن عتاب إلى أنه صحيح، وحكى إجـازته عن شيخـه مطرف ابن بشـير، وقال غـيرهما: لا يجـوز، ومال إليه ابن سهل، وفي العتبية ما يدل على القولين" [13] .
وجاء في حاشية الرهوني [14] على شرح الزرقاني لمختصر خليل: "فإن تبرع بالضمان وطاع به بعد تمام الاكتراء جاز ذلك" انتهى ما نصه. قيل له: فيجب على هذا القول الضمان في مال القراض إذا طاع به [أي: تطوع به]: [ ص: 147 ] قابضه بالتزام الضمان فقال: إذا التزم الضمان طائعا بعد أن شرع في العمل فما يبعد أن يلزمه" [15] .
وعلى ذلك: رأى البعض أنه لا مانع من جوازه بناء على من قال بجوازه من المالكية بشرط أن لا يكون متمما للعقد أو تم التواطؤ عليه بين المتعاقدين؛ قال ابن رشد: "إن العقد إذا سلم من الشرط وكان أمرا طاع به بعده على غير رأي ولا مواطأة فذلك جائز لا بأس به؛ لأنه معروف طاع به وأوجبه على نفسه لا مكروه فيه ... والمعروف عند مالك لازم لمـن أوجبه على نفسـه، فإن كان له أجل لزم إلى أجله" [16] .
وهـذا القـول أخـذت به بعض المؤسسـات المالية الإسلامية، فقد جـاء في فتـاوى المستـشار الشـرعي لمجمـوعة البركة : "لا مانع من أن تكـون هنـاك مبادرة من العميـل بتحمـل ما قد يقع من خسارة في حينها لا عند التعـاقد؛ لأن ذلك من قبيـل الهـبـة والتصرف من صاحب الحق في حـقه، دون تغيير لمقـتـضى العقـد شرعا. فحين وقـوع الخسـارة دون تعد [ ص: 148 ] أو تقصير يطبق المبدأ الشرعـي بتحميـلها لرب المال (البنك في التمويل بالمضاربة، والمودع في الودائع الاستثمارية) إلا أن يبادر المضارب لتحملها دون مقاضاته أو إلزامه؛ لأنه قد يـقـدم على هـذه الـمـبـادرة انسـجـامـا مـع اعتبار نفسـه مقـصرا في الواقع ولو لم تستكمل صورة التقصير في الظاهر بما يحيل الضمان عليه. والقاعدة الشرعية أن المرء بسبيل من التصرف في ماله".
وقد اتجهت بعض الهيئات الشرعية إلى تبني ضابط يمنع الارتباط ويفصل بين عقد المضاربة وتبرع أحد العاقدين بالضمان، وهو أن لا يترتب على انفساخ أحدهما انفساخ الآخر. لكن علق د. محمد علي القري، على هذا الضابط بقوله: "وهو ضابط فعال، ولكنه لما كان الفسخ لا يقع إلا بإرادة، فإذا اتجهت إرادة العاقدين على بقاء الضمان ما بقي العقد الخاص بالعملية المضمونة، فإن الضابط المذكور لا يعود ذا فائدة" [17] .
بيد أن القول بالمنع هو ما ذهب إليه أكثر المالكية. قال الرهوني: "وكلامهم يفيد أن القولين متساويان، وليس كذلك، بل القول بالمنع هو الظاهر نقلا ومعنى، أما نقلا فلقول صاحب المعين ما نصه: "فرع إذا طاع العامل بضمان المال امتنع ذلك عند الأكثر وأجازه القاضي أبو المطرف ووافقه عليه ابن عتاب أ.هـ منه بلفظه، وأما معنى فلأن ذلك هدية من العامل لرب المال" [18] [ ص: 149 ] وهي "ممنوعة" كما قال المدني [19] علي كنون [20] في حاشيته، ونقل "لا يتصور التطوع الحقيقي قبل شغل المال أو بعده وبعد نضوضه؛ لأن العقد غير لازم فالطوع إذ ذاك كالشرط" [21] .
ولأنه إن تطوع به بعد العقد وقبل الشروع فهو عند المالكية كالشرط؛ لأن العقد لم يلزم بعد، قال الرهوني: "القراض لا يلزم بالقول على المشهور، والطوع بعد العقد وقبل الشروع في العمل كالشرط" [22] .
وإن تطوع به بعد الشروع، أي بعد لزوم العقد أو بعد التنضيض، فالغـالب أنه يفعل ذلك لاستـمرار بقاء المال معه، وتجديد عقد المضاربة. [ ص: 150 ] قـال الرهوني: "لاحتمال أن يكون تبرعه بعد الشروع في الضمان إنما هو لأجل أن يبقى المال بيده بعد نضوضه، وهذه هي علة حرمة هديته بعد الشروع فتأمله بإنصاف" [23] .
وعلى ذلك، فالقول بالجواز مبني على قول من قال بالجواز عند المالكية وهو "مبني على إلغاء التهمة"، وهو ليس رأي الأغلبية، والأصل عدم الجواز قبل اللزوم والشروع في العمل؛ لأنه كالشرط في العقد وهـو محـرم بالأصل، وإن كان بعد الشروع في العمل ولزوم العقد فهو عند أكثر المالكية هدية من المضارب حتى يغريه ليبقى المال معه ويجدد له عقد المضاربة. والمنع مبني على أحد القولين في قاعدة: هل اللاحق للعقد كالواقع فيه؟
لكن، هل هذه الهدية بمثابة تحمل الضرر، الذي وقع عليهما من قبل المضارب مما يختل معه ميزان الحقوق والواجبات أو ما يعبر عنه بقاعدة: "الغرم بالغنم"، أو لا علاقة له بعقد المضاربة القائم، كما قال المالكية، إذا تم هذا التبرع بعد الشروع واللزوم، إنما بالمضاربة المستقبلية، التي يطمع المتبرع بالضمان في الدخول فيها، فهو يتحمل هذا الضرر المتمثل في ضمان رأس مال المضاربة الحـالية ليفوز بالتعـاقد مستقبـلا، فـكأن المضاربة المرتقبة ستكون محرمة؛ لأنها وقعت مع تبرع مقدم عليها وهما بمثابة عقدين في عقدة واحدة يكون فيهما التبرع المسبق ربا جليا. [ ص: 151 ]
لكن ما عـلاقـتـنـا بالمـضـاربة المحتـملـة، التي يمكن أن تقع أو لا تقع؟ ولعل الإجابة أننا هنا نبحث عن مدى جواز تبرع أحد العاقدين في عقد المضـاربة بتحمل الخـسارة، فإذا كان جائزا قرت أعيننا واحتطنا للمضاربة؟ وإذا كان ممنوعا حتى ولو لم يؤثر على صحة العقد؛ لأنه منفصل عنه، فيلزمنا حينئذ أن نبحث عن وسائل أخرى مشروعة تحقق الغرض المطلوب.
أيضا نتساءل: هل يتعارض القول بالمنع مع قاعدة: "الناس مسلطون على أمـوالهم"؟ يمكن الإجابة: بأن حرية التصرف المقصودة إنما تتقيد بالمشروع من التصرفات دون الفاسد منها، والعبرة في العقود بالقصود والمعاني لا بالألفاظ والمباني.
وبعد،
فلا نميل إلى القول بجواز التحوط بتطوع أحد العاقدين بضمان خسارة رأس المال؛ لأن من تمسك بجوازها اعتمد على قول من جوزها من فقهاء المالكية، وسبق أن أوضحنا أنه قول مرجوح في المذهب.
ثم إن المقصود أننا نحتاط للعقود قبل الدخول فيها وأثناء التعاقد، أما بعد التعاقد فلا وجه للتحوط، فالعقد قد تم، والمطلوب من المصرف أن يقوم بدوره المنصوص عليه في العقد، لا أن يدفع العميل إلى التبرع بالضمان. فضلا عن أن المعـاملات المصـرفية تقوم على الإفصاح الكامل، فلماذا يتبرع المصرف (أو العميل) بعد العقد وقد نال مقصوده بالعقد نفسه، إذا لم يكن ذلك مرتبطا بمصلحة مؤكدة هي استمرار العقد أو تكراره في معاملات جديدة؟ [ ص: 152 ]
ثم إن الواقع يشهد بخلل التطبيق عند من اعتمد هذه الصيغة من المؤسسات والمصارف؛ فالعقد يوقع وفي نفس اللحظة يوقع التبرع بالضمان في ورقة منفصلة عن العقد مما يعد تحايلا، وإغراقا في الشكلية، والعبرة بالقصود والمعـاني لا بالألفـاظ والمبـاني، ومن الجدير بالذكر أن هذه الصيغة العمول بها فاسدة بإجماع عند المالكية.
ومن جهة المآل، فتحمل خسارة رأس المال سيدفع أصحاب الودائع الاستثمارية إما إلى الانسحاب من المصرف؛ لأنهم خسروا جزءا من أموالهم بالفعل وهذا يلزم المصرف الاهتمام بدراسات الجدوى ومراقبة عقوده التمويلية وتفعيل عدد من التحوطات المشروعة.
وإما أن يتجه أصحاب الودائع الاستثمارية إلى القيام بالرقابة والإشراف على مجـالس الإدارة بنسب أموالـهم، وهو مقصد جليل ينبغي العمل به وتفعيل دورهم.
ثالثا: الضمان بالتداول اليومي المبرمج:
تعتمـد برامج التداول اليومي على قاعدة من البيانات والمعادلات الرياضيـة المعقدة تـمكن إدارة صناديق الاستثمار من توظيفها والاستفادة منها في الاستثمار الآمن. والعقد الذي يسمح باستخدام هذه البرامج يشتمل على ضمـان رأس المال دون الربـح مقـابل دفع مبالغ محددة كاشتراكات دورية عـلى أن يلتزم مدراء صناديق الاستثمار بالتعليمـات الواردة إليهم [ ص: 153 ] وعدم مخـالفـتـها. والهـدف هـو: التحوط وحماية رأس المال في الاستثمار في البـورصة [24] .
ويقوم عمل برامج التداول على تقسيم مبلغ الاستثمار إلى قسمين: القسم الأكبر منه يوجه في الغالب إلى سندات دين حكومية في الصناديق التقليدية أو إلى مرابـحات مخـاطرها متدنية بالنسبة للصنـاديق الإسـلامية. أما الباقي فيوجه إلى سوق الأسهم، التي توجهه في التصرف اليومي، بيعا وشراء، البرامج المذكورة [25] .
هذا، وقد أجازت بعض الهيئات الشرعية، كما قال د. القري، العمل بـهذه الصيغة بناء على جواز ضمان خطر الطريق عند الحنفية، وصورتـها: "لو قال لغيره: اسلك هذا الطريق، فإن أخذ مالك فأنا ضامن فأخذ ماله صح الضمان والمضمون عنه مجهول" [26] .
بيد أن الأصل في ضمان خـطر الطريق، عند من قال به، أن المغـرور إنـما يرجـع فقط على الغار إذا ضمن الأخير صفة السـلامة للمـغرور نصا، أو حصـل الغرور في ضمن عقد معاوضة، وعلم الغار بالخطر دون المغرور، وإلا كان مضيعا لماله باختياره [27] . [ ص: 154 ]
ومسألة ضمان خطر الطريق مبعثها تغريره للسالك وإخباره بأنه آمن، "ولفظ المغرور ينبئ عن ذلك لغة؛ لما في القاموس: غره غرا وغرورا فهو مغرور وغرير خدعه وأطمعه بالباطل فاغتر" [28] .
أقول: صحيـح ضمان المغرور هنا ضمن عقد معاوضة، لكن مدير إدارة الاستثمـار ليس مغرورا حتى يستفيد من كفالة الغار، والعلاقة بين المتعاقدين هنا قد تكيف بأنها عقد إجارة، يكون فيها مدير الاستثمار هو المستأجر، حيث يستفيد من الخدمات اليومية، التي تقدمها له هذه البرامج، ويكون المؤجر هـو مـلاك هـذه البرامـج، والأجرة تدفع من المستـأجر مقابل المنفعة أو الخدمة، التي يقدمها المؤجر. وقد يعد تحمل ضمان رأس المال شرطا في عقد الإجـارة، لكن هل يصـح، لا سيما وهو مقابل التزام مدير الاستثمار بالأوامر اليومية الواردة من البرامج؟ أميل إلى القول بعدم الجواز؛ لأنه يخالف مقتضى العقد.
وقد يمكن تكييف العلاقة بين المتعاقدين بأنها عقد اشتمل على عقدين (إجارة وكفالة) في عقدة واحدة، الأول منهما من زمرة عقود المعارضات والثاني من زمرة عقود التبرعات. لكن التبرع يقابله التزام، فالتبرع بضمان رأس المال يقابله التزام بتعليمات البرنامج، مما يجعله عقد معاوضة لا تبرع فيها؛ لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني. [ ص: 155 ]
ولعل هـذا يرجـح التـكـييف الأول، لكن ما نـوع هـذه المعاوضة: هل هـي عقد إجارة، كما سبـق أن اقـترحت؟ أميل إلى أنـها ليست كذلك؛ لأن للمستـأجر الحق في أن يستخدم المنفعة أو لا يستخدمها، والعقـد هنا يلزمه بوجـوب استـخدامهـا بل وتنفيذ الأوامـر الـواردة إليه وإلا انتفى الضمان.
ويبقى بعد هذا حاجتنا إلى الإجابة عن التساؤل: ما تكييف هذه العلاقة؟
وبعد،
فلا أميل للقول بالجواز، لأننا لو كيفناه على أنه عقد وشرط فهو ممنوع؛ وإن كان مدير الاستثمار مغرورا في علاقته مع مدير البرنامج، فضلا عن الدخول في مدى مشروعية الاستثمار في السندات، أو الاستثمار غير المجدي، وترك أدوات الاستثمار المجدية.
وفي الحقيقة، هذه الصيغة في التحوط قليلة الجدوى، ولهذا لا تستخدمها المصارف الإسلامية. [ ص: 156 ]