- معالم النظرية السياسية في الإسلام:
نعني بهذه المعالم: القواعد الكلية، التي تأسس عليها المجال السياسي نظريا والتي يفترض أنها تحكم التجربة العملية للمسلم وهو يحاول أن يتفاعل مع الواقع على هدي مرجعيته العليا.
فهي بهذا تشكل جوهر النظرية السياسية في الإسلام، وهو الجوهر الثابت، بغض النظر عن تمثلاته الواقعية، التي قد يطرأ عليها التغيير والتبديل؛ [ ص: 128 ] لأنها تكون أساسا بحسب ما يقتضيه الواقع وتحتمه الظروف، وتفيده الخبرة الإنسانية، سواء أنتجها المسلم أو استفادها من غيره.
وهاهنا أوان الحديث عن الخطأ المنهجي الذي ألمحنا إليه سابقا، في كلام الشيخ علي عبد الرزاق، حين تساءل عن غياب (أشكال) و (مظاهر) الحكم في التجربة النبوية، ليخلص إلى نتيجة مفادها خلو المنهج النبوي من (قواعد) و (نظم) و (مبادئ) تنظم الحياة السياسية.
وهذا التساؤل والنتيجة المترتبة عليه، لا يزالان يترددان في الخطابات العلمانية، إلى يوم الناس هذا، بصياغات مختلفة، ولكنها تلتقي في معنى واحد، هو ما أثاره علي عبد الرزاق من تساؤلات وما خلص إليه من نتيجة: غياب الأشكال المعروفة والمظاهر المتداولة في تسيير الشأن السياسي، يؤدي إلى نتيجة حتمية هي غياب المبادئ والأحكام المنظمة لهذا الشأن أصلا!!
إن هـذا الـكلام من صـاحب كتاب (الإسلام وأصول الحكم)، ومن دعـاة التيار العلماني، مبني على خـطـأ مـنـهـجـي في تـنـاول الشأن السياسي في الإسلام، وهو:
أنهم يخلطون -بجهل أو بعلم- بين المبدأ وتطبيقاته من جهة، ويحاكمون التجربة الإسلامية إلى نموذج قائم في أذهانهم استوردوه من تجربة حضارية أخرى، من الجهة الثانية.
فهم إذ لم يجدوا (الشكل) و (المظهر) الموجود في التجربة السياسية الغربية، قفزوا إلى إعلان غياب (المبدأ) و (القاعدة) التي يفترض أن تعبر عنها الأشكال والمظاهر. [ ص: 129 ]
وقديما، عندما ناقش الشيخ محمد الخضر حسين صاحب كتاب (الإسلام وأصول الحكم)، بين بوضوح ذهوله وذهول من يسلك هذا المسلك عن طبيعة الشريعة الإسلامية، في جمعها بين تثبيت (الكليات) وترك (الجزئيات) لمقتضيات الزمان والمكان والظروف، أو بتعبير آخر ذهولهم عن التفريق بين المقاصد الثابتة التي جاءت الشريعة لتحسم الخلاف فيها، بأن تنص عليها بشكل محدد وصريح، وبين تطبيقات تلك المقاصد التي هي محل اختلاف بين الناس، لخضوعها لمتطلبات الواقع والتطور والآفاق الحضارية، التي يمكن أن يرتادها الإنسان.
إن أصحاب هذا المسلك، يريدون من الإسلام أن ينص على كل الجزئيات، وحينها ستنطلق صيحاتهم، تطالب بحظ العقل من التفكير، وحريته في الإبداع!!
وأرى من المفيد هنا أن أنقل رد الشيخ الخضر حسين، لما فيه من دقة وضبط، يقول، رحمه الله: "ألقى المؤلف هذه الشبهة وهو يحسبها قذائف تهدم حصون الدولة الإسلامية، ولا أخالها تنشب بذهن مسلم وقف على شيء من حكمة التشريع، ووزن أقدار الصحابة، رضي الله عنهم، بالقسطاس المستقيم، وإن شئت جوابا قريب المأخذ وجيز القول فإليك الجواب:
عنيت الشريعة في الأكثر بتفصيل ما لا تختلف فيه مصالح الأمم ولا يتغير حكمه بتغير الزمان والمكان، وذلك ما يرجع إلى العقائد والأخلاق ورسوم [ ص: 130 ] العبادات، ثم جاءت إلى قسم المعاملات والسياسات فأتت على شيء قليل من تفاصيله، وطوت سائره في أصول عامة لحكم ثلاث:
- (إحداها) أن أحكام هذا القسم تختلف بحسب ما تقتضيه حال الزمان وتطور الشعوب، فإذا وقعت الواقعة أو عرضت الحاجة، نظر العالم في منشئها وما يترتب عليها من أثر، واستنبط لها حكما بقدر ما تسعه مقاصد الشريعة ومبادئها العليا.
- (ثانيها) أن وقائع المعاملات والسياسات تتجدد في كل حين، والنص على كل جزئية غير متيـسر، علاوة على أن تدوينها يستدعي أسـفـارا لا فائدة للناس في كلفة حملها.
- (ثالثها) أن الشريعة لا تريد أسر العقول وحرمانها من التمتع بلذة النظر والتسابق في مجال الاجتهاد.
فإذا كانت الأحكام والنظم تفصل على ما يقتضيه حال الشعوب، وكانت وقائع المعاملات والسياسات لا تنقضي، وكان شارع الإسلام يراعي حـق العـقل ولا يريـد حصـره في دائرة ضيقة، فهل من العقل أو من الصواب أن يقـول قـائل: لمـاذا لـم يـتـحدث النبي صلى الله عليه وسلم إلى رعيـتـه فـي نـظـام الملك وفي قواعد الشورى" [1] .
إذن، الإسـلام فـي المجال السـيـاسـي، لـم يـأت بـتـفـاصيل للـجـزئـيـات ولا بتحديد لآليات التطبيق، وإنما جاء بأصول وكليات. [ ص: 131 ]
فما هي هذه الأصول والقواعد الكلية؟
نحن نعني بها هنا -كما قلنا- جوهر النظرية السياسية، أو (روح) النظام السياسي، لا الآليات والتطبيقات، ولا حتى قواعد تنظيم الممارسة السياسية.
فنحن لن نتحدث مثلا عن طريقة اختيار الحاكم، ولا عن كيفية ممارسة الفرد أو الأمة، سنتحدث عن (القيم) الكبرى، التي تحكم الممارسة.
أي سنتحدث عما يميز التجربة الإسلامية في المجال السياسي، (قيميا)، عن غيرها من التجارب.
ذلك "أن أنظمة الحكم لا تتمايز بمؤسساتها السياسية والقانونية التي تدار من خلالها السلطات وتتخذ القرارات، رغم أهمية ذلك، بقدر ما تتمايز بنوع الأفكار والعقائد والقيم والقواعد التشريعية الرئيسية، التي تمثل مضمون نظام معين وروحه العامة، وتشكل الشخصية الفردية والعلاقة الجماعية لمؤسسي ذلك النظام وتصوراتهم عما هو عدل وحق وخير، وعما هو ظلم وباطل وشر، وعما يجعل هذا العمل خيرا أو شرا، عدلا أو ظلما، حقا أو باطلا" [2] .
فالروح هي ما نبحث عنها هنا... وهي ضاربة بجذورها في تربة القيم، التي تحكم مجتمعا ما، ولذا لا يمكن نقلها من مجتمع إلى آخر، ولا يمكن جلبها من أجل استنباتها في تربة أجنبية عن تربة المنشأ، وهذا ما لم ينتبه إليه أولئك الذين استجلبوا للبلاد العربية والإسلامية (نظما) و (أشكالا)، كان لها بالفعل [ ص: 132 ] نجاح في أوطانها، ولكنها لم تكن عندنا سوى أزمات إضافية!!! إنها الغفلة عن تلك (الروح) والتي لا تنـسـجـم إلا حيث يكون لهـا توافـق تام مع المـعادلـة التي تحكم المجتمع.
وهذا قانون اجتماعي، يحكم نشاط الإنسان في جميع المجالات، السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
إذ لا يكفي الاشتراك في وصف (الإنسانية) لتعميم التجارب التي يصل إليها الإنسان في مكان أو في زمن ما... بطريقة تتجاوز معادلة الفرد إلى معادلة المجتمع.
وهـذا مـا شرحـه مـالك بن نبي، وهو يتحدث عن المجال الاقتصادي، وعـن خطـأ استنبات تـجارب - وإن كانت ناجحة في أوطانها- دون مراعاة هذه القوانين.
يـقـول: "الـواقـع الإنـسـاني لا يـتـغـير على أسـاس معـادلـة واحـدة، بل حسب معادلتين:
1- معادلة بيولوجية، تسوي بين الإنسان وأخيه الإنسان في كل مكان، ليستـطيع هذا كل ما يستـطيع الآخر، إلا فيمـا فـضل فيه بعض الأفراد عن الآخرين.
2- ومعادلة اجتماعية، تختلف من مجتمع إلى آخر، وفي مجتمع واحد تختلف من عصر إلى آخر حسب الاختلاف في درجة النمو والتخلف. [ ص: 133 ]
فـأما المعـادلة الأولى فـهي مـوهوبة من الله، الـذي خـلق الإنـسـان في أحسن تقويـم، وميزه عن العالمين بالتكريم، فهي منحة منه - عز وجل - إلى البشر كافة.
وأما المعادلة الثانية فهي هبة المجتمع إلى أفراده كافة، بصفتها القاسم المشترك، يطبع سلوكهم ويحدد درجة فاعليتهم أمام المشكلات، تحديدا يميزهم عن أفراد مجتمع آخر، أو عن جيل آخر من مجتمعهم، إذا كان الفاصل الزمني كافيا لطبع المجتمع بأسلوب آخر يتفق مع معادلة اجتماعية أخرى" [3] .
وهذا يرجعنا إلى ما سبق أن تحدثنا عنه في الفصل الثاني، عندما تناولنا دور القيـم في الحـضارة، وكيف أن (عالم الأشـخاص) و (عـالـم الأشياء) لا يكفيان حقيقة في التمييز بين حضارة وأخرى، ولا في التقريب بينها، وإنما الذي يفعل ذلك حقا هو (منظومة القيم).
وما الأخطاء المنهجية، التي يقع فيها العديد من أصحاب المشاريع النهضوية، في عالمنا العربي، على اختلاف أيديولوجياتهم، إلا بسبب الغفلة عن هذا القانون الاجتماعي.
بعد هذه التوطئة يمكننا أن نحدد (الروح) التي تحكم النظرية السياسية الإسلامية كما يلي: [ ص: 134 ]
- أن المجـال السيـاسي، باعتـباره جزءا من حزمة الـنـظم التي جاءت بها الشريعـة الخـاتـمة، سيـكون دائرا حول الفكرة المركزية، التي تحكم هذه الشريعة، أو قل، إذا شئت: سيكون محكوما بنفس الفلسفة، التي حكمت الشريعة الإسلامية، من حيث المنطلق والغاية.
وقد سبق أن بينا في الفصل الأول، أن الشريعة الإسلامية، بما هي شريعة خاتمة، تميزت بخاصية الشمولية المستوعبة للشأن الإنساني، كانت في منطلقها ومنتهاها (إنسانية) أي جعلت من الإنسان مقصد الخطاب الإلهي في صياغته الأخيرة، وجعلت من مصلحته غايتها، في كليات الشريعة أو في جزئياتها.
فيمكننا أن نقـرر هـنا أن (الإنسـان) يقع في مركز النظرية السياسية، إذا ما لاحظنا ضرورة انسجام هذه النظرية مع فلسفة الشريعة ذاتها.
وهذه الفكرة قد تثير إشكالين:
الأول: مع بعض المفكرين الإسلاميين، الذين يجعلون من الحاكمية الإلهية هي المفهوم المركزي للنظرية السياسية الإسلامية.
والثاني: مع (الديموقراطيين)، الذين يريدون منا قبول الديموقراطية - قيمة وآلية - على اعتبار أن الإسلام والديموقراطية كلاهما يجعلان الإنسان في مركز النظرية السياسية.
فنقول إجمالا عن الإشكال الثاني: إن الإنسان في التصور الإسلامي يختلف عن الإنسان في التصور الغربي، الأول إنسان غير مقطوع الصلة بخالقه، أما الثاني فهو الذي أرادت أن تجعل منه الفلسفة الغربية (مقياس كل شيء)، [ ص: 135 ] وأن لا تكتفي بقطع صلته عن خالقه فحسب، بل تجعله إلها بدلا عنه!!... وسنعود في المبحث الثاني لتفصيل هذه المسألة.
- أما الإشكال الأول: وهو مع دعاة (نظرية الحاكمية)، فسنعود إليه بعد أن نفصـل مقـصدنا من كون (الإنسان) هـو مركز النظرية السياسية الإسلامية وجوهرها.
إننا في هذا المقام لا نعني شيئا أكثر مما سبق لنا بيانه، في الفصل الأول، من كون الإسلام هو دين الإنسان.
فما دامت الشريعة تقوم أساسا على تحقيق مصالح الإنسان، بما يكفل له حياة تليق بكرامته الإنسانية، فإن المفاهيم السياسية، التي جاءت بها الشريعة، ترجع هي أيضا إلى هذا المعنى.
فـلا يـمـكن إذن فـهـم النظرية السـيـاسـيـة الإسـلامـيـة، بمعزل عن المكانة التي تعطيها الشريعة للإنسان... الإنسان المكرم، الإنسان الخليفة، الإنسان الذي من أجله سخر الكون، الإنسان الذي طلب منه تعمير الكون وأعطي كل مقومات ذلك من حرية وإرادة وعقل وقدرة على فهم الخطاب الإلهي وتلقي المنهج من الله تعالى.
والخلافة، التي خوطب بها الإنسان، كتكليف وجودي، هي أوسع دلالة من المعنى السياسي، الذي يحيل إلى شكل معين من طرق الحكم، التي عرفت في التجربة التاريخية للمسلمين، بدءا بالخلفاء الراشدين، ثم انقطاعها في مرحلة [ ص: 136 ] الملك والحـكم العـضـوض، وأخـيـرا وصولا إلى السقوط مع العثمانيين في العصر الحديث.
بل هي تشكل -كما أوضحنا سابقا- ترجمة للتكريم الرباني، الذي خص الله تعالى به الإنسان، وهي بهذا المفهوم تلقي بظلالها على الممارسة السياسية، التي يفترض أن يقوم بها الإنسان، كجزء من النشاط والسعي نحو التحقق بمقتضيات الخلافة.
الإنسان إذن هو مركز النظرية السياسية، كما هو مركز الشريعة ككل، والروح الحاكمة لهذه النظرية هي أن تضمن الظروف التي يحافظ بها الإنسان على كرامته، تلك الكرامة التي تولد معه، كصفة ملازمة لصفة الإنسانية فيه: ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) (الإسراء:70).
ثم نرى أن كل مـا قـد نلاحظـه بعـد ذلك في المجال السياسي، من (قيم) أو (آليات)، يكون دائرا حول هذا المركز، مشدودا إليه.
والنظرية السياسية الإسلامية، بعد أن تضع الإنسان في مركز الشأن السياسي، وتجعل من (كرامته) غاية يطلب تحقيقها، ومركزا تفرض الدوران حـوله، تدعـو الإنسـان وهو يمارس نشاطه السياسي، أن يقوم بذلك من خلال أمرين:
- قيم أساسية،
- وآليات. [ ص: 137 ]
أما القيم فهي: الحرية والعدل والمساواة.
- وأمـا الآليات فهي: الشـورى، والأمـة هي مـصـدر السلـطة، والسيادة للشرع.
وسنحـاول أن نـقـف مـع هذين الأمرين، بقليل من التفصيل، بحسب ما يقتضيه المقام.