الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الاستيعاب الحضاري للقيم الإنسانية

        الأستاذ / عبد العال بوخلخال

        ثانيا: التيار العلماني والديمقراطية:

        لئن كان التيار الإسلامي تعامل مع الديمقراطية على أنها (نازلة) ، فراح يبحث لها عن فتوى، بدل التنظير لها، فإن التيار العلماني نظر إليها على أنها (معجزة) غربية، وفتحا غير مسبوق، فتعامل معها من منطلق (النقل) بدل (الإبداع).

        ومهما ادعى العلمانيون أنهم يأخذون بالعقلانية الغربية والتي من شروطها التحرر من أسر التقليد، فإنهم في جوهرهم مقلدون، وناقلون أمناء للمقولات الغربية، بل جلهم يهدر السياق التاريخي لتلك المقولات، ويبحث عن إنزالها بطريقة آلية على واقعنا الإسلامي والعربي.

        وفي شأن الديمقراطية تراهم يقبلونها بلا تحفظ؛ لأن مشكلتهم مع الإسلام قد حسمت، من حيث إن بعضهم يعتبر الإسلام أصلا دينا علمانيا، وهم الذين يميزون بين العقيدة والشريعة، فيحكمون على الشريعة بأنها (تاريخية)، وما كان كذلك ينبغي أن لا نتجاوز به سياج تاريخه، ومن ثم فعندهم أن الديمقراطية لا تنافي الإسلام الذي يفهمونه على هذا النحو!!

        وأما البعض الآخر، وهم الأكثر، يرون أن لا تلاقي بين الإسلام والديمقراطية؛ لأن العلمانية شرط في وجود الديمقراطية.

        فهم يرون أن الديمقراطية لها سياق تاريخي، تضمن جملة من الشروط الفلسفية والفكرية، التي لا تنفك مطلقا عن مفهوم الديمقراطية، أي لا يمكن إيجاد ديمقراطية خارج تلك المنظومة التي عرفتها الحضارة الغربية. [ ص: 170 ]

        يقول الدكتور عبدالرزاق عيد - مؤيدا رؤيته للديمقراطية - "فأوروبا هي حاضنة قيم العقلانية، العلمانية، الحداثة، وهي التي تملك ممكنات إنتاج المعادل الديمقراطي سياسيا، فالديمقراطية، لا يمكن أن تكون تجربة سياسية دون أساس فلسفي معرفي يتأسس على علمانية العقل، المجتمع" [1] .

        ويؤكد في موضع آخر الترابط العضوي والضروري بين الديمقراطية والعلمانية [2] .

        فالتيـار العـلمـانـي ينظر إلى الديمقراطية باعتبارها (قيمة) أو (فلسفة) أو أنـها آلية سياسية تتأسس على فلسفـة، قوامـها العقـلانية والعلمانية... فلا مجال إذن للحـديث عن آليات الديمقراطية بلا فلسفـة الديمقراطية، ولامجال مطلقا للحديث عن وجود للديمقراطية مع وجود للإسلام كدين مهيمن على الحياة.

        وموضع النقل في الخطاب العلماني عن الديمقراطية، يبرز من حيث إنهم بمقدار اهتمامهم وحرصهم على السياق الذي نشأت فيه الديمقراطية الغربية، فهم يهدرون سياق مجتمعهم، ويظلون مشدودين وأسارى نموذج فرد، وتجربة أحادية.. هي تجربة الديمقراطية الغربية. [ ص: 171 ]

        هكذا نجد الموقف من الديمقراطية، يشوبه كثير من الاضطراب والتشويش، سواء عند الإسلاميين، أم عند العلمانيين، فكلا الطرفين، أدخلونا في متاهات استهلكت الكثير من الوقت والجهد دون أن تضع أقدامنا على أرض صلبة...

        فلا نحن أعطينا بديلا إسلاميا ناضجا، ولا نحن استطعنا أن نوائم بين الإسـلام والديـمـقراطية، ولا نحن استنسخنا ديمقراطية على المقاييس الغربية، كما يطلب منا العلمانيون!

        فهل يمكن أن نوجد رؤية أخرى أكثر نضجا وعمقا، مما سبق بيانه، بحيث يمكنها أن تخرجنا من دائرة الفتوى إلى دائرة التنظير، ومن دائرة النقل إلى دائرة الإبداع؟

        الحقيقة أنه يوجد تحليل للديمقراطية في علاقتها بالإسلام، قدمه المفكر الجزائري مالك بن نبي، وقد سبق أن ألمحنا إليه من قبل، يمكن أن يشكل هذا التحـليل، انطـلاقـا من المنهجـيـة التي اتبعها الأستاذ في معالجة الموضوع، نواة لما أسميناه: "الاستيعاب الواعي للقيم الغربية".

        ولنختم هذا المبحث بأهم النقاط، التي أوردها بن نبي في تحليله [3] .

        تناول بن نبي الموضوع في محاضرة تحت عنوان: (الديمقراطية في الإسلام) ألقاها بنادي الطلبة، بدمشق سنة1960م، وقد نشرت في كتابيه (تأملات) و (القضايا الكبرى). [ ص: 172 ]

        وحـتى لا يقع في ما وقـع فيه أصحـاب التـيارات التي أشرنا إليها سابقا، وضـع لنفسـه منهـجا في تحـليل المـوضـوع ومناقشتـه، قوام هذا المنهج ما يلي:

        1- تجاوز المعنى اللغوي لمصطلحي الديمقراطية والإسلام؛ لأن الوقوف عند المعنـى اللغـوي من شـأنه أن يدفعـنا إلى القول بانتفاء أي صلة زمانية أو مكانية بينهما، فالديمـقراطية كمصطـلح نشـأت في بيئة وزمـان محددين لا صلة لهما ببيئة وزمان الإسلام، وعليه ربما أمكن القول مجازفة، نظرا لهذا التباعد التاريخي والجغرافي، بأنه ليس هناك ديمقراطية في الإسلام [4] .

        2- التنبيه إلى أن المصطلح، عبر تاريخه، يكتسب معاني، ويتلبس بتصورات مختلفة، فإن غفلنا عن هـذه المسـألة سنبتعد عن جوهر المفهوم، الذي يدل عليه المصطلح في أصل نشأته، وربما عرضنا أحد تمثلاته في لحظة تاريخية ما، وقد لا تكون دالة حقيقة على جوهره.

        وبتطبيق هذين المحددين، انطلق بن نبي في بحثه عن العلاقة بين الديمقراطية والإسلام.

        فتجاوز المعنى اللغوي الذي يختزل الديمقراطية في صيغة بسيطة (سلطة الشعب = سلطة الإنسان)، وتختزل الإسلام في صيغة بسيطة أيضا (الخضوع لله = خضوع الإنسان). [ ص: 173 ]

        فهذا لا يساعدنا على تبين العلاقة بين المفهومين، بل يرجح جانب التنافي، كما فعل بعض الإسلاميين وبعض العلمانيين على حد سواء.

        وبعد هذا التجاوز بحث عن جوهر الديمقراطية، التي لا يمكن اختصارها في تلك الصيغة البسيطة، وإنما تتحدد جوهريا، من خلال ثلاثة وجوه:

        1- شعور نحو (الأنا).

        2-شعور نحو (الآخرين).

        3-مجموعة من الضمانات الاجتماعية والسياسية اللازمة لتكوين وتنمية هذا الشعور في الفرد.

        فهو يتعامل مع الديمقراطية باعتبارها (مضمونا) و (شروطا).

        مضمونا، يحدد الشعور الذي يكون في الإنسان، كما قلنا، نحو ذاته برفض العبودية، ونحو الآخرين برفض الاستعباد، وهذا الشعور يكتسب عبر حركة في واقع الحياة، تغير الجوانب الفكرية والقيمية في الإنسان، فيكون أهلا للتحرر من رذيلتي العبودية والاستعباد... يقول: إن الشعور بالديمقراطية "مقيد بشروط معينة لا يتحقق بدونها، وهذه الشروط ليس من وضع الطبيعة، ومن مقتضيات النظام الطبيعي، على خلاف ما كانت تتصوره الفلسفة الرومانتيكية في عهد جان جاك روسو، بل هي خلاصة ثقافة معينة وتتويج لحركة الإنسانيات وتقدير جديد لقيمة الإنسان، تقديره لنفسه، وتقديره الآخرين ... فالشعور الديمقراطي هو نتيجة لهذه الحركة عبر القرون، ولهذا التقدير المزدوج للإنسان" (القضايا الكبرى، ص 137-138). [ ص: 174 ]

        ثم يزيد الأمر وضوحا، بأن يعتبر الإنسان هو جوهر البناء الديمقراطي، الإنسان (الحر)، الذي يأتي عن طريق بنائه بناء جديدا.. وهو هنا يعالج الخطأ الذي يقع فيه من يتصور أنه بإمكانه أن يبني الديمقراطية بالتركيز على آلياتها (الدستور، المؤسسات المنتخبة، الانتخابات...) دون الالتفات إلى الإنسان الذي هو جوهرها.

        فالديمقراطية، لا تنتج في مجتمع ما - كما يرى بن نبي - إلا إذا نظرنا إليها على أنها مشروع تثقيف في نطاق أمة بكاملها، وعلى أنها منهج شامل، يشمل الجانب النفسي، والأخلاقي، والاجتماعي، والسياسي. ( القضايا الكبرى، ص143).

        - بين الديمقراطية والإسلام:

        بعد أن يحدد بن نبي الديمقراطية على أنها مضمون (شعور تحريري للإنسان)، وآليات (ضمانات اجتماعية وسياسية)، يعود ليطرح السؤال الذي يهمنا في هذا المبحث: (ما العلاقة بين الإسلام والديمقراطية؟).

        وقـبل أن يجـيب أيـضا، يحدد نقـطة منهجـية، أن الإجابة عن هذا السؤال لا ينبغي أن تلتمس في النصوص الفقهية، كما فعل من انتهوا إلى فكرة تكفير الديمقراطية، أو الأخذ المطلق لها.. وإنما نلتمس ذلك في جوهر الإسلام ذاته. [ ص: 175 ]

        يقول: "إن الجواب عن السؤال المعروض في هذا البحث، هل توجد ديمقراطية في الإسلام؟ لا يتعلق ضرورة بنص فقهي مستنبط من السنة والقرآن، بل يتعلق بجوهر الإسلام" (القضايا الكبرى، ص144).

        وبناء عليه، بحث عن الديمقراطية أو الشعور التحريري في الإسلام، فوجد أن الإسلام يغرس في كيان الإنسان بذور ذلك الشعور، نحو( الأنا) ونحو (الآخر).. ثم تأتي توجيهاته، العقدية والتشريعية والأخلاقية لتنميه وتعززه من جهة، ولتضع له الضمانات من جهة أخرى، كي يحقق الوصف الذي وسم به الله تعالى الإنسان باعتباره مخلوقا مكرما.

        فابن نبي، تخلص من تلك الرؤية (الإفتائية)، التي ألمحنا إليها، وجنح إلى التنظير، فوجد أن الإسلام، بما له من خصائص ـ بيناها في الفصل الأول ـ جاء ليتعامل مع الإنسان من منطلق التكريم اللائق به... ولهذا منح الإنسان الحرية الحقيقية، التي لامست التجارب الديمقراطية بعضا منها.

        وهنـا يأتي الجـانب الثاني، الذي تخلص منه بن نبي، وهو عقدة النقص أمام التجـربة الديـمقراطيـة الغربية، فـخرج من دائرة (النـقل) إلى دائرة (الإبداع)... فقارن بين الديمقراطية الغربية و (الديمقراطية) الإسلامية، وخلص إلى نتيجتين:

        1- أن (الديمقراطية) الإسلامية: تعاملت مع الإنسان ككائن مكرم، فغرست فيه قيما أرقى تليق بمكانته في الوجود، في حين أن الديمقـراطية الغربية، تعـاملت معه من خـلال بعد واحد، فإن منحتـه حقـوقه [ ص: 176 ] السياسية لم تضمن له حقوقه الاجتماعية، وإن ضمنت له هذه الأخيرة أهدرت حقوقه السياسية... يقول: "أما الإسلام فإنه يمنح الإنسان قيمة تفوق كل قيمة سياسية أو اجتماعية، لأنها القيمة التي يمنحها الله له في القـرآن في قـولـه تعالى: ( ولقد كرمنا بني آدم ) (الإسراء:70) ، فهذا التكريم يكون أكثر من الحقوق أو الضمانات، الشرط الأساسي للتغيير اللازم في نفس الفرد، طبقا للشعور الديمقراطي، سواء بالنسبة للأنا أم بالنسبة للآخرين" (القضايا الكبرى، ص146).

        2- أن الديمقراطية الإسلامية: تتجاوز الديمقراطية العلمانية، وإن لم تكن العلمـانية شرطـا في الديـمقراطية، وهـو بـهذا يرد على التغريبين، الذين يصرون - كما قلنا - على الربط بين المفهومين، يقول: "وإذا أردنا أن نعرف شيئا هو الديمقراطية الإسلامية، فهذا يعني أولا تطعيم الإنسان وتحصينه ضد النزعات المنافية للشعور الديمقراطي، وتصفية هذه النزعات في نفسه.. أما الديمقراطية العلمانية أو اللائكية فإنها تمنح الإنسان أولا الضمانات الاجتماعية، ولكنها تتركه عرضة لأمرين: فهو إما أن يكون ضحية مؤامرات لمنافع معينة ولتكتلات مصالح خاصة ضخمة، وإما لأن يجعل الآخرين تحت ثقل دكتاتورية طبقية، لأنـها لـم تصـف في نفسـه دوافـع العبـودية والاستـعباد، لأن كل تغيير حقيقي في المجتمع لا يتصور دون تغيير ملائم في النفوس، طبقا للقانون الأعلى: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد:11)" (القضايا الكبرى، ص148). [ ص: 177 ]

        نخلص من هذا كله، إلى أننا إذا انطلقنا من نظرتنا إلى الإسلام في بعده الحضاري، وتمكنا من إدراك خاصيته (الاستيعاب الحضاري)، وتخلصنا من المعوقات المنهجية في التعامل مع ما يأتينا من الغرب من مفاهيم ونظريات، نستطيـع أن نقول: إن الإسـلام لا يستـوعب فقط الديمقراطية، بل يقدم لنا ما هو أرقى منها، على اعتبار أنه يتوافق معها من حيث الجوهر (تحرير الإنسان)، ولكنه لا يعطي لمفهوم (التحرير) ذلك المعنى الذي يفصل الإنسان عن خـالقـه، فيقوده إلى متـاهـات تنتهي به إلى الضيـاع وفقدان المعنى... وإنما يعطي لمعنى التحرير البعد الإيجابي، الذي يربط الإنسان بخالقه، فيجعل منه كائنا مـكرما، من أجـلـه خلق الكون، ليسخره، ويأخذ فيه بأسباب التحقق بالخلافة.

        هذه نظرة لا تجعلنا نقف ذلك الموقف المشوش، ونحن نبحث عن جواب للعلاقة بين الإسلام والديمقراطية.

        فالمسألة ليست (نازلة) نبحث لها عن فتوى، ولا هي (معجزة) غير قابلة للمراجعة والنقد.. كلا، بل هي في جوهرها مشروع تحرير للإنسان.

        والإسلام مشروع تحرير للإنسان.... هذا هو الجوهر ... أما التمثلات والآليات والتجارب، فلها شأن آخر. [ ص: 178 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية