الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الاستيعاب الحضاري للقيم الإنسانية

        الأستاذ / عبد العال بوخلخال

        - أهم القيم الغربية:

        الحضارة الغربية، هي حضارة (فاوستية)، هكذا وصفها غارودي [1] ، نسبة إلى (فاوست)...

        و (فاوست) في الثقافة الغربية رمز لذلك الشخص الذي باع نفسه للشيطان، في مقابل الاستفادة من خدماته.

        يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي - في مقدمة مسرحية "فاوست"-: "فاوست هو نموذج الإنسان الساعي إلى المزيد من القوة، أو الكمال، بوسائل خارجة عن الطبيعة، هي ما يعرف بالسحر، بأوسع معانيه؛ فالمستقبل مجهول، والإنسان يريد معرفة ما سيجيئ به، والقوى الطبيعية الميسورة له قاصرة، فليبحث عن قوى خارقة كي يسخرها لتنفيذ ما يصبو إليه، والطبائع الموجودة [ ص: 87 ] في الواقع تقف في سبيله أو تعجز عن أداء ما يطلب، فليلتمس إذن أدوية لتحويلها إلى ما ينجح في تحقيق أغراضه، وتلك هي مهمة السحر.

        ولما كان السحر تحديا للألوهية، لأنه يدفع إلى خرق النظام الذي خلقته، فإنه استعان بقوى متمردة على الألوهية، على رأسها الشيطان، ومن لف لفه من الجن" [2] .

        هكذا إذن باع (فاوست) روحه للشيطان، طلبا لمزيد من القوة والكمال، فإلى من باعت الحضارة الغربية روحها، كي تكون شبيهة بفاوست؟

        من هو شيطانها؟ وما هو سحرها، الذي تحدت به الألوهية؟ أهو العلم والتقنية؟ أم هو وهم تأليه الإنسان وإماتة الإله؟

        كل الأجوبة هنا محتملة؛ لأن (فاوستية) الحضارة الغربية تظهر مع كل العوامل، التي جردتها من الروح، ومع كل الأفكار والفلسفات، التي أوهمتها بإمكان قهر الطبيعة، والتفلت من كل قانون ونظام؛ لأن النظام من صنع الإله!!...

        (فاوستية) الحضارة الغربية تظهر من خلال ثلاث قيم أساسية، بدأت وبدت إيجابية، ولكنها انتهت نهاية مأساوية، إلى المصير الذي ألمحنا إليه من قبل.

        وهذه القيم هي: الإنسانية - العقلانية - الفردانية.

        وسـنـحـاول فـيـمـا يلي الـوقوف مع كل واحدة منها، مع بيان تـجلياتـها في واقع الإنسان الغربي، وذلك بحسب ما يسمح به المقام [ ص: 88 ] .

        أ- الإنسانية:

        ويقصد بها، في السياق الغربي ذي النزعة الفاوستية، أن يكون الإنسان مقياس كل شيء. [3]

        لم يكن هذا إحياء للفلسفة السوفسطائية، التي تنفي إمكان المعرفة، بقدر ما هـو محـاولـة للتـمركز حـول الإنسـان، باعتباره نقطة البدء ونقطة المنتهى، في تحديد القيم، كما في تحديد المعرفة.

        لقد بدأ هذا الاتجاه في الفلسفة الغربية في عصر النهضة "بظهور الفلسفة الإنسانية، الهيومانية humanism التي همشت الإله، ووضعت الإنسان في مركز الكون، وجعلت منه المعيار الأوحد، مقياس كل شيء، مرجعيته ذاته" [4] .

        بدا هذا المفهوم في بدايته مغريا، وطموحا، خصوصا وقد اتخذ ذريعة للتخلص من هيمنة الكنيسة في الغرب، وكسر القيود التي تحول بين الإنسان وتحقيق إنسانيته، كان ردة فعل قوية على (الاستلاب) الذي وقع للإنسان بسبب لاهوت قامع تحالف مع سلطة زمنية مستبدة.

        لكن مع مـرور الزمـن، تحـول مفهوم الإنسانية إلى آلة تفكيكية رهيبة، لـم تـتـوقـف عـنـد حـدود (قـتـل الإله) كمـا كان ينـادي نتشـه، بل انـتـهـت إلى تفكيك الإنسان ذاته!!! [ ص: 89 ]

        تم كل ذلك من خلال مسارات متعرجة لفلسفة أو فلسفات زعمت أنها جاءت لتخليص الإنسان من (الإله)، فإذا بها تلقي بهذا الإنسان إلى عالم كئيب، مأساوي، يسوده التشاؤم والضياع والخلو من المعنى.

        يقول غارودي - متلمسا هذا المصير البائس في عالم السياسة-: "لقد انتقلنا باسم (علم السياسة) البرجوازي، بل باسم الاشتراكية (العلمية)، من سياسة دون إله إلى سياسة دون إنسان، مثلما انتقلنا من أبهة (موت الإله)، الذي نادى به (نيتشة) إلى الإعلان عن تمجيد الإنسان، إلى (موت الإنسان)، في تكنوقراطية تافهة ذات نزعة وضعية مقنعة بقناع البنيوية، وفي نهاية المطاف لم يبق الإنسان، كما قال عضو من (المدرسة)، سوى (دمية تضعها البنيات على خشبة المسرح)" [5] .

        وقد سبقت تـجليات هـذا المصـير في عالم السياسـة، كما ذكر غـارودي في النـص السـابـق، تفـكيـك في المـفـاهيـم من خـلال العبث في العلاقة بين (الله والإنسان والكون)، وهي التي دارت حولها كل فلسفات الإنسان ولا تزال، بل هي ما جاءت كل الرسالات السماوية للتأسيس له... فكل وحي إنما جاء ليضبط العلاقة بين الخالق والمخلوق، وكل فلسفة يكون ذلك مقصدها.

        ولكن يبدو أنه لأول مرة في تاريخ الإنسان، تختل العلاقة إلى درجة النفي التام، مما جعل المصير هو نفي الإنسان ذاته، ووقوعه في العبث واللا معنى، [ ص: 90 ] وهو المصير الذي انحطت إليه الحضارة الغربية عبر موجات من التيارات الفلسفية، التي بدأت إنسانية وانتهت بالتنكر للإنسان، حين حكمت بموته.

        وقد رصد الدكتور المسيري هذه الموجات المتتالية والتي أشار إليها غارودي وإلى نـتـائـجـهـا في عـالـم السـيـاسـة، فالمسـألـة لـم تـكن طـفـرة، أو نـتـيـجـة بلا مقدمات... فقد بين المسيري، أنه مع ارتفاع شعار إزاحة الإله، ووضع الإنسان في المركز، "في نفس المرحـلة ظـهر اسـبـيـنـوزا الذي حول العالم إلى منظومة واحدية رياضية مصمتة، الإله فيها هو الطبيعة، وقوانينه هي قوانين الطبيعة والمادة، والإنسان فيها لا يختلف عن أي شيء في الكون، وقد كانت منظـومة متفائـلـة للـغاية، إذ يبدو أن اسبينوزا وجد أن هذه الحركة الرتيبة الآلية ذات المرجعية المادية، التي تسم عالمه ستحقق السعادة للبشر بشكل ضمني عن طريق امتزاج الجزء الإنساني بالكل الآلي المادي، وعن طريق ذوبانه فيـه، ولكن ألا يشـكل ذوبان الجـزء الإنساني في الكل المادي تفكيكا للإنسان؛ لأن الإنسان بهذه الطريقة يرد إلى ما هو دونه؟... ثم جاء نيتشه واكتشف أن العالم الذي يصبح الإله فيه قانونا طبيعيا والذي تتحكم فيه حركة المادة، هو عالم موت الإله، أي عالم مادي تماما، لا قداسة فيه ولا ضمان فيه لأي شيء، عـالم خال من المعنى، محايد، لا قيمة فيه ولا غـاية، ولا سبـب ولا نتيجة، ولا كليات فيه ولا مطلقات، ومن ثم لا يبقى سوى القوة وعالم (داروين) الذي يتجـاور فيه الخير والشر والذي تحسم فيه الأمور ببساطة البارود وسذاجته..." [6] . [ ص: 91 ]

        وانـتـهـت هـذه السـلـسـلـة من الإزاحات، إزاحـة الإلـه لحـسـاب الإنـسـان، ثم إزاحة الإنسان لحساب الطبيعة، إلى ما عرف لاحقا بـ(الإنسان ذي البعد الواحد) [7] ، قبل أن يتم التفكيك النهائي للإنسان مع تفكيكية (دريدا)... إنها الإزاحات أو السقطات التي بدأت زاعمة نزع القداسة عن الإله، فانتهت إلى نزع القداسة عن الإنسان نفسه، حتى ألقت به فيما أسماه نيتشه "العدمية"، وهو يعرفها بأنها ذلك الوضع، حيث يتدحرج الإنسان خارج المركز، نحو المجهول [8] !!

        إن بإمكاننا في هذا المقام، أن نسوق العديد من النصوص لكبار الفـلاسفة الغـربيين، ولنـقاد الحـداثة وما بعد الحداثة، كلها تكاد تجمع على أن المعركة، التي خاضها الغرب باسم الإنسان، انتهت في غير صالح الإنسان، وأن الفرار من الاستـلاب الذي تصـور وجـوده مع مفهـوم الألوهية، أوقعه في اسـتـلاب أكثر سـوءا مع إنكاره لهذا الإله... استلاب أمام ما هو دونه في المرتبة (المادة). [ ص: 92 ]

        وكثرة تلك الكتابات والنصوص، بقدر ما تدل على حيوية الثقافة الغربية وروحها النقدية، فإنها تدل على عمق الأزمة التي يتخبط فيها الاتجاه الإنساني في هـذه الحضـارة، حيـث يكثر التعبير عن هذه الأزمة بالمفاهيم التي تحيل في أغـلـبـهـا إلى (المجـهـول) و (الـعـدم) و (اللا معنى) و (الفراغ) و (الخواء) و (اللا إنسانية) و (التفكك)... .

        طبعا، وهذا الضياع للخط الإنساني، في الثقافة الغربية، استتبع معه بالضرورة ضياع ما كانت تبشر به تلك النزعة الإنسانية منذ عصر الأنوار، ووصولا إلى عبثية ما بعد الحداثة.

        فقد ضاعت مفاهيم أخرى كانت مصاحبة لها، لعل من أهمها مفهوم (الحرية)، إذ غدا الإنسان وقد "تحرر" من (الإله) الذي حدثته عنه الأديان، وتعاليم الأنبياء، والكتب المقدسة، - على عكس ما بشر به- في عبودية أخرى، أشد وأقسى، (الإله) فيها هو (السوق)، و (الأنبياء) فيها هم أرباب الدعاية والتسويق!!

        لم يعد لهذا (الكائن الاقتصادي = الإنسان) من حرية سوى حرية موهومة، هي تلك التي "يعتقد" أنه يمارسها في مجال التسوق، ولكن حتى في هذا المجال، لا يملك حقيقة سوى أن يختار بين لون ولون، أو شكل وشكل، ضمن القائمة التي أعدتها الشركات المنتجة مسبقا، وروجت لها الآلة الدعائية الرهيبة الصانعة للأذواق... ولعل النكتة التي يذكرها صاحب كتاب (نقد [ ص: 93 ] الحداثة)، عن واحد من آلهة السوق، تعبر عن هذا المعنى بأدق تعبير، حيث يورد أن (فورد)، بطل الترشيد الصناعي، عرف بعبارته الساخرة: "يمكن للزبون أن يختار لون سيارته على شرط أن تكون سوداء" [9] !!

        فالإنسان اختزل إلى (زبون)، والاختيار اختزل إلى مجال السلع، وقد ضاق، ليكون محدودا ضمن ما تم تحديده مسبقا!!!... أليست هذه هي الجبرية اللاهوتية التي بسببها وجدت الحداثة لتحرير الإنسان!!؟؟؟

        ب- العقلانية:

        بدأ هـذا المفهـوم، في السـياق الغربي، تعبيـرا عن الإيـمان بقدرة العقل على إدراك الحقيقة من خلال قنوات إدراكية مختلفة... مع إمكانية الانفتاح على مصادر أخرى.

        ثم ما لبث أن تطور إلى الإيمان بأن العقل قادر على إدراك الحقيقة بمفرده دون مساعدة من عاطفة أو إلهام أو وحي، فلا حقيقة إلا الحقيقة المادية المحضة، وهي التي يتلقاها العقل من خلال الحواس وحدها، بل العقل ذاته جزء من هـذه الحقيقة المادية، فهو يوجد داخل التجربة المادية، محدود بحدودها، لا يمكنه تجاوزها [10] . [ ص: 94 ]

        ويأتي هذا التطور، بل التصور ذاته، بناء على النزعة الإنسانية، التي تناولنا الحديث عنها في العنصر السابق... إذ ما دام الإنسان هو مقياس كل شيء، فـلا بد أن تكون مرجعيـتـه منه، وأن يتنكر بالتالي لكل مـرجـعـيـة مـفـارقـة، وأن يخرج من دائرة (اللاهوت) التي تفرض عليه مرجعية، لا مفارقة فحسب، بل متعالية أيضا.

        فالمرجعية المتعالية ماتت مع الإله، والعقل سيسود، ويتحول في هذا المقام إلى إله!!

        وتحويل العقل إلى (إله)، لم يكن مفهوما يستخرجه الباحث من أدبيات مفكري الحضارة الغربية، وكأنه استنتاج من قبيل لوازم أفكارهم، أي أنهم عبروا عن أفكار ونـحن استنتجنا منها أن نتيجتها ستكون تأليه العقل، لم يكن الأمر كذلك فقط.. وإنما تصريحا واضحا بهذه المسألة، في كلمات مباشرة، تدل على أن القوم عازمون على دحرجة المرجعيات المتعالية، مع إزاحة الإله من المركز، وتأليه العـقل ليـكون منسجمـا مـع الـتـمركز حـول الإنـسان، كما سبق بيانه.

        وهذا ما عبر عنه (فرويد) بقوله: "الحق أنه ليس ثمة سلطة تعلو على سلطة العقل، ولا حجة تسمو على حجته" [11] ... بمثل هذا الشعار انطلقت الحداثة الغربية، تعلي من شأن (العقل)،إلى درجة التأليه، في مقابل كل مرجعية [ ص: 95 ] أخرى، وبدا الأمر - كما بدت النزعة الإنسانية - في البداية طبيعيا بالنظر إلى طبيعة (الدين) الذي سيطر على الواقع الغربي والذي لم يكن في الحقيقة سوى بقايا دين، عبثت به أيدي المحرفين، وحولته إلى جملة من (الإعاقات) التي تمنع العقل من كل تفكير، بل زادت الطين بلة حين تحالفت مع سلطة أهدرت قيمة الإنسان.

        كان للعقلانية الأوروبية في بداياتها - وإن كانت متطرفة - نوع من العذر، بيد أن خطيئتها الكبرى، أنها انطلقت من تجربة المسيحية المحرفة وجذورها اليهودية، لتلقي باللائمة على (الدين)، هكذا بالمطلق، ولتصوغ موقفا عدائيا منه، ولتجعل من ( العقل) نقيضا للوحي، ومن الإنسان نقيضا لله... وسوقت هذه الآراء باعتبارها مطلقات معرفية، إنسانية، صالحة لكل العالم، وهذا الخطأ مبعثه، كما يقول غارودي: أن "حقل الرؤية الغربي يحدد العالم بحدود أفقه الخاص" [12] .

        والعقلانية، التي انطلقت منها الحداثة الغربية، لم تقف عند التنكر لكل مصدر متعال، بل قـفـزت إلى مسـتـوى آخر، ضاع معه المنطلق (الإيجابي) الذي انطلقت منه.

        وحتى لا نكرر ما ذكرناه في العنصر السابق (في تحولات مفهوم الإنسانية)، سنكتفي هنا بالإشارة إلى أخطر تحولين للعقلانية، رصدهما الدارسون والنقاد للحداثة الغربية. [ ص: 96 ]

        الأول: إعطاء العقلانية مفهوما ماديا صرفـا، وغلبة هذا المفهوم على التوجهات الكبرى للحضارة الغربية... ومعنى العقلانية المادية، كما يشرح الـدكتـور المسـيري: "الإيمـان بأن العـالم يحـوي بداخـلـه ما يكفي لتفسيره، وأن العقل مستقل بذاته، قادر على التفاعل مع الطبيعة والوصول إلى القوانين الكامنة في المادة، وأنه يمكنه، انطلاقا منها، تطوير منظومات معرفية وأخلاقية ودلالية وجمالية، تهديه في حياته، ويمكنه على أساسها أن يفهم الماضي والحاضر ويفسرهما، وأن يخطط للمستقبل وأن يرشد حاضره... ولكن آلية العقلانية المادية هي العقل المادي، ولذا فهي تؤدي إلى هيمنة قوانين الطبيعة/المادة، وقوانين الأشياء على الإنسان" [13] .

        الثاني: تحول العقل من (عقل موضوعي) إلى (عقل أداتي): وهذا التحول في الحقيقة يوصف بأنه (تدهور)، يقول صاحب كتاب (نقد الحداثة):

        "يـتـحـول نـفـاد الحـداثـة إلى شـعـور قلق بـخـلو الفعل، الذي لا يرضى إلا بمعايير العقلانية الأداتية، من أي معنى.. ولقد استنكر هوركهايمر تدهور (العقل الموضوعي) إلى عقل (أداتي)، أي التحول من رؤية عقلانية للعالم إلى فعل تكنيكي محض، توضع العقلانية من خلاله في خدمة حاجات المستهلك أو الديكتاتور، التي لا تخضع للعقل ومبادئه الضابطة للنظام الاجتماعي وللنظام الطبيعي.. هذا القلق يؤدي إلى تغير في النظرة المستقبلية" [14] . [ ص: 97 ]

        هكذا يتحول (العقل) ضد الإنسان... من مصدر للمعايير إلى وسيلة للسيطرة.. هل هو المارد، الذي أخرجه الإنسان من قمقمه ثم عجز عن السيطرة عليه؟!!!

        فهل يكون من الغريب أن يعلن نقاد الحضارة الغربية "أن عقلانية المجتمع المعاصر وتقدمه وتطوره هي في مبدئها لا عقلانية" [15] .

        ج- الفردانية:

        لم تكتف الحـداثـة الغربية بأن تكون إنسانية بالمعنى الذي سبق بيانه، وإنما أمعنت في التمركز حول الإنسان، ليتحول إلى تمركز حول الفرد، وذلك هو المقصود بالفردانية.

        وليس يعـنـيـنـا هـنـا الحـديث عن الفردانية كفلسفة، لها جذورها التاريخية في الفضاء الغربي، وربما الفضاء الإنساني عموما [16] ... وإنما يعنينا تجلياتها الأخيرة في الحضارة الغربية.

        فالفردانية، مثلها مثل الإنسانية، والعقلانية، كانت في بدئها مفهوما إيجابيا، جاء ليدافع عن ذاتية الإنسان (الفرد)، ضد الاستلابات التي كانت تمارس على إنسانيته، من خلال الأشكال المختلفة لمؤسسات الوصاية [ ص: 98 ] الاجـتـمـاعية، الـدينـيـة والـدنـيـويـة... فكانت محـاولـة لتـجـاوز حالة القطيع، أي يتطـابق الفرد مع الجمع، إلى حالة يكون الفرد فيها متطابقا مع ذاته، مؤكدا لحضورها.

        والفردانية تشكل واحدا من المفاتيح الأساسية لفهم روح الحضارة الغربية [17] ، وهي عند أصحابها أهم الفتوحات الكبرى للحداثة، حيث فرضت نفسها منطلقا حيويا من منطلقات تقدم الحضارة الغربية، منذ عصر التنوير حتى مرحلة ما بعد الحداثة..

        ويحتفي بها الذين لا يزالون ينظرون إليها بتفاؤل على أنها تبقى - على الرغم من سلبياتها - "إعلانا إنسانيا ضد التسلط والإكراه والظلم، ورمزا لانتصار الإنسان ضد مختلف التحديات التي تقف في وجه نموه وتطوره وصيرورته الإنسانية" [18] .

        ونحن لا ننكر هذا البعد الإيجابي، بالنظر إلى السياق الذي نشأ فيه مفهوم الفردانية، كما لم ننكر من قبل إيجابية (الإنسانية) و (العقلانية)، بيد أننا أيضا لا يمكن أن نغض الطرف عن المآلات التي انتهت إليها هذه المفاهيم، خصوصا وقد تعالت الأصوات من داخل الفضاء الغربي ذاته، تعلن أن [ ص: 99 ] الثمرات المرة لهذه المفاهيم، ذهبت ببريق ما كانت تبشر به في بداياتها من تحرير الإنسان، ومساعدته على تحقيق إنسانيته.

        فالفردانية، في السياق الغربي، وإن بدت انتصارا للإنسان الفرد، إلا أنها أفقدته التواصل الاجتماعي، وروح الجماعية، لا بالمعنى القطيعي المستهجن، وإنما بالمعنى الإنساني التراحمي.

        يقول غارودي - متأسفا-: " لقد فككت الفردية أواصر نسيجنا الاجـتـماعي، وإنـنـا نـوكل قـدرة كل فرد مـنـا إلى مجـلـس نيابـي أو حـزبـي، نحن في (الغرب) لا نعرف سوى علاقات منافسة أفقية أو علاقات تسلسل شاقولي، فكيف لنا أن نعود لاكتشاف العلاقات الاجتماعية؟" [19] .

        ها هو (التفكيك) مرة أخرى يعترض مصير الحضارة الغربية، وكأن قدر هذه الحضارة لا تبني إلا ليطالها الهدم والتفكك!!!

        وما أشار إليه غارودي في النص السابق بتركيز وأسماه (تفكك أواصر النسيج الاجتماعي)، هو ما رصده باحثون آخرون، من خلال تجلياته في أوجه السلوك في المجتمع الغربي، وذلك حين يؤكدون أنه "على الرغم من الدور الحضاري، الذي مارسه هذا المفهوم، فإنه بدأ يفقد تألقه التنويري وبهجته الحضـارية تـحت تأثير مجموعة من التحولات السلبية ذات الطابع الاغترابي، التي شهدتها الحضارة الغربية عامة، وهذه التي شهدها هذا المفهوم بذاته في المرحلة الأخيرة من الحداثة، وتتجلى هذه الوضعية في تأثير مظاهر سلبية [ ص: 100 ] اجتماعية عديدة ارتبطت بالفردانية، أهمها: تنامي مظاهر العنف والتدمير والعدوانية والفقر والبؤس الإنساني والبعد الأناني والنرجسي للحياة الإنسانية في عمق الحضارة الغربية، ومن ثم نمو واتساع العزلة والانطوائية واللامبالاة، التي هيمنت على الحياة في المجتمعات الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، ففي غمرة التحولات الاجتماعية التي شهدتها المجتمعات الغربية يجري الحديث دائما عن الشيوخ والعجزة الذين يموتون في منازلهم دون أن يعلم بهم أحد، حيث بدأت ظاهرة العنف تفرض نفسها في كل مكان، وبدأت مظاهر الاستهلاك تتزايد بطريقة لا حدود لها، وارتبط ذلك بغياب مستمر ومتواصل للمشاعر الإنسانية الخلاقة، التي عرفتها المجتمعات القديمة" [20] .

        وهناك تحولان، يمكن اعتبارهما من أخطر التطورات التي دخلت على مفهوم الفردانية، فنقلته من كونه مفهوما إيجابيا، إلى أن يصبح مفهوما تفكيكيا، هما:

        الأول: تمحور الحضارة الغربية وحداثتها حول (الشيء):

        فالتشيؤ أصبح مع مرور الزمن هو السمة الغالبة على هذه الحضارة، فكل أمر فيها غدا مقياسه ماديا، أي تحلل الإنسان والفكر والوجود إلى (شيء)... إلى (سلعة)، بعد أن تحول الإنسان، وهو الذي انطلقت باسمه الحداثة، إلى كائن اقتصادي، مستهلك أو منتج.... وهو في النهاية دوران حول الشيء/السلعة. [ ص: 101 ]

        والفردانية تبرز دائرة حول الأشياء، إذا ما كان الفضاء الحضاري الذي وجدت فيه دائرا بعالم أفكاره حول عالم أشيائه، وهذا ما لاحظه مالك بن نبي حين قال: "وفي المجتمع الذي يدور فيه عالم الأفكار حول محور الأشياء، تأخذ الميول الفردية الوجهة ذاتها" [21] .

        و (الشيء) بطبيعته الباردة، مهما كان ممتعا، براقا، لا يمكنه أن يمنح الإنسان علاقات تليق به كإنسان، فأقصى ما يمكن أن يمنحه له، ارتباطات جوفاء من قبيل ما تشهده الأسواق والبورصات والأرقام والمؤشرات...

        (الشيء) ينمي الغرائز الفردية، ويصحر العلاقات الاجتماعية، فليس غريبا إذن أن تكون البيئة الغربية صالحة لتغول الفردانية، واختفاء المجتمع (التراحمي)، ليحل محله المجتمع (التعاقدي).

        الثاني: إدخال الفلسفة (الداروينية) كمحرك للعلاقات الاجتماعية:

        في المجتمع التعاقدي، ذي الارتباطات المادية، تختفي صلات التراحم حتى في أضيق المستويات، ليحل محلها ذلك الصراع المحموم، وفق الشعار الدارويني (البقاء للأصلح)... فالفرد إن لم يأكل غيره سيؤكل!!!

        يقول الدكتور عبدالوهاب المسيري: "يرى دعاة الداروينية الاجتماعية، أن القوانين التي تسري على عالم الطبيعة والغابة هي نفسها التي تسري على عالم الإنسان والمجتمع، وهم يذهبون إلى أن تشارلز دارون، وصف هذه القوانين [ ص: 102 ] بدقة في كتابيه الكبيرين حول أصل الأنواع، من خلال الانتخاب الطبيعي وبقاء الأجناس الملائمة في عملية الصراع من أجل الحياة... وذهب دعاة الداروينية الاجتماعية إلى أن فرض دارون هو في واقع الأمر نظرية وحقيقة علمية، ثم نقلوا هذا الفرض من عالم الطبيعة إلى عالم الإنسان، وقرروا أن العلاقة بين الكائنات الحية في الطبيعة لا تختلف عن العلاقات بين الأفراد داخل المجتمعات الإنسانية، ولا عن العلاقات بين المجتمعات والدول" [22] .

        هكذا إذن انقلب كل شيء إلى نقيضه، في هذه الحداثة الغربية، وانتهى الأمر إلى زحزحة الإنسان عن مركزه ثم تفكيكه!!!

        الإنسانية انتهت إلى موت الإنسان!!!

        العقلانية إلى أفول العقل!!!

        الفردانية إلى تفكك النسيج الاجتماعي!!!

        ولن نترك هذا المبحث قبل أن نشير إلى ملاحظتين:

        الأولى: ذلك الكم الهائل من الدراسات الغربية التي ترصد اختلالات الحضارة الغربية، وتحديدا الحداثة الغربية، وقد سبق الإشارة إلى هذه الملاحظة من قبل، وقلنا: إنها بقدر ما تدل على الروح النقدية، فإنها تشير إلى أزمة الحضارة الغربية.

        ونضيف هنا أن هذه الانتقادات بدأت مبكرا، مع نهاية القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، وما تزال مستمرة إلى الآن، وما يغلب عليها [ ص: 103 ] هو النبرة التشاؤمية، فشبنغلر يكتب عن (تدهور الحضارة الغربية)، في بدايات القرن العشرين، وهو عنوان - كما نرى - صادم، ويكتب غيره عن (أفول الغرب)، ونهاية الحداثة، ونقد الحداثة وما بعد الحداثة، وانتحار الغرب...

        وما يثير الانتباه، مع وفرة هذه الكتابات النقدية، هو وجود (نخب) في العالم العربي والإسلامي، ما زالت تبشر بفتوحات الحداثة، بل بمقولات ما قبل مرحلة الحداثة (فلسفة الأنوار)، ما زال حديثهم عن نزعة الإنسانية (الأنسنة)، والعقلانية بذات النبرة التفاؤلية التي كان يتحدث بها المبشرون الغربيون في البدايات الحالمة للتنوير والحداثة الغربيين!!!

        إن حال هذا القطاع من النخبة يستوقفنا، خصوصا ونحن نتحدث عن الموقف من القيم الغربية، وقد يتبادر إلى الذهن السؤال الذي طرحه (غارودي) وهو يراقب ذلك السباق المحموم لدى نخب العالم الثالث في محاولة اللحاق بالحداثة الغربية، فقال: هل يسعى هؤلاء لتجاوز الغرب والتفوق عليه في انحرافاته؟ [23]

        الثانية: أن مشكلة الحضارة الغربية المعاصرة، لم تعد قاصرة على الغرب وحده، بل تعدت الفضاء الغربي لتعم المعمورة.

        فيمكننا أن نقول: إن ثمرات الحضارة الغربية قد لا يستفيد منها الكل، ولكن أمراضها لا تستثني أحدا!! [ ص: 104 ]

        فالغرب المسيطر، قد يمنع بعض خيرات ومنجزات العلم عن كثير من الشعوب، ولكنه في الوقت ذاته (يعولم) انحرافاته واختلالاته، المادية والمعنوية!!!

        يقول غارودي: "ومن الجلي، أن الغرب الصناعي يجر الإنسان خلفه في سقوطه اليوم" [24] .

        فالغرب المستنير، كف منذ زمن عن أن يقدم للآخرين (ونحن منهم) النور، ولم تعد قيمه قادرة على إغراء من له (عقل)!!

        فالغرب بحضارته وحداثته، لم يعد - كما يقول بن نبي- مصدرا (للنظام)، كما كان في بداياته، وإنما أصبح على العكس من ذلك، مصدرا لشتى أنواع (الفوضى) [25] .. والأخطر أن امتلاك الغرب لوسائل السيطرة والدعاية، هو الذي يحول مشكلاته واختلالاته الخاصة، إلى مشكلات كونية!!

        ويضيف بن نبي، وهو يتحدث عن الغرب في النصف الأول من القرن الماضي: "ولاشك أن هذا الإشعاع العالمي الشامل الذي تتمتع به ثقافة الغرب، هو الذي يجعل من فوضاه الحالية مشكلة عالمية" [26] .

        وهاتان الملاحظتان، مما يساعدنا على تبين موقف نخبنا من القيم الغربية، كما سنتناوله في المبحث التالي. [ ص: 105 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية