الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الاستيعاب الحضاري للقيم الإنسانية

        الأستاذ / عبد العال بوخلخال

        - هل يمكن أن تتقاطع هذه القيم؟

        إذا كان لكل حضارة منظومتها القيمية الخاصة بها، والمميزة لها عن سائر الحضـارات، فـهـل يـمـكن لهذه المنظومات القيمية أن تتقاطع؟ بمعنى هل يمكن أن نـجـد بين حضارات متباينة، أشد ما يكون التباين، نقاط اشتراك ومساحات التقاء؟

        هذا السؤال يـبـرره في سياق بحثنا أمران: [ ص: 72 ]

        الأول: أننا نسعى في هذا البحث لمساءلة العلاقة بين الحضارة الإسلامية - التي وقفنا في الفصل الأول مع خاصية الاستيعاب الحضاري فيها - وبين قيم الحضارة الغربية المعاصرة عموما، والديمقراطية أنموذجا.

        الثاني: أن الجدال لا يكاد يهدأ بين دعاة القطيعة ودعاة التقاطع.. الأولون ينطلقون من نقاط الاختلاف بين الحضارات نظريا، ويدعمـون ذلك بما حدث من صدامات في التاريخ أو في الواقع، فينتهون إلى تغليب حتمية الصراع والصدام.

        والآخرون ينطلقون من نقاط الاشتراك بين الحضارات نظريا، ويدعمون ذلك بما حدث من تقاربات في التاريخ أو في الحاضر، فينتهون إلى تغليب حتمية الحوار والتعايش.

        وهما نظرتان تحكمان نقاشات النخب الفكرية، من شتى الحضارات، منذ أطلق البعض فكرة (نهاية التاريخ)، وأجابه الآخر بـ (صدام الحضارات).

        والحـق أن السـؤال عن العـلاقـة بين منظـومـات القيم، ما كان ليطرح لو لم يتخلص الدارسون لمفهوم الحضارة من النظرة العنصرية، التي كانت تصر على الحديث عن الحضارة هكذا بالمفرد لا بالجمع... فقد كانت تلك النظرة تعتقد بوجود حضارة واحدة، هي حضارة الغالب، هي المركز، وما سواها أطراف، موصوفة بالتوحش... وكان على المتحضر أن (يكتشف) ذلك المتوحش، وكان عليه أن (يحتله) ليحضره!! [ ص: 73 ]

        ثم لما تطورت الدراسات الأنثروبولوجية، تعدل النظر إلى الحضارة، وأصبح الحديث عن (الحضارات)، ولكن ثار مع هذا التعديل سؤال العلاقة بين هذه الحضارات المتعددة.

        وفي الإجابة عن السؤال - كما قلنا - برز من يدعو إلى الصدام المفضي إلى الإفناء وغلبة نمط حضاري على آخر، غلبة مادية ومعنوية.

        كما برز تيار آخر يدعو إلى التعايش بـمـنطـق مثـالي حـالم، يكاد يستبعد كل صراع أو تناقض بين الحضارات على ما فيها من تناقضات ذاتية أو موضوعية.

        ونحن نعتقد أن التقاطع ممكن، مهما كانت النظرة، بل نؤكده لسببين:

        الأول: وجود المشترك الإنساني بين البشر، فالحضارات بما هي إنتاج بشري، والقيم - أيا كان مصدرها - هي في النهاية وثيقة الصلة بالإنسـان، فلا بد من وجود اشتراك في البعض منها على الأقل، خصوصا تلك التي ترجع إلى المعنى المشترك بين الناس، أعني (الفطرة).

        فالحضارات بمنظوماتها القيمية، وإن اختلفت إلى حد التناقض، لن تكون أبدا خطـوطا متـوازية لا سبيـل للالتـقـاء بينها، وإنـمـا هي أقرب في تصوري إلى الدوائر المتـقـاطعة والمتـداخـلـة... بقـدر ما تنفصل في بعض الجوانب، فإنها تتقاطع وتشترك في جوانب أخرى، وقد يصل التقاطع في بعض مراحل التاريخ إلى حد الاحتواء. [ ص: 74 ]

        الثاني: إن القرآن الكريم زودنا بمفهوم يمكننا من التعامل إيجابيا مع سؤال العلاقة بين الحضارات ومنظوماتها القيمية، أعني به مفهوم (التدافع)، الذي ذكره الله تعالى تصريحا في موضعين من كتابه، وذكره كسنة حاكمة لحركة التاريخ البشري، كما يتجلى ذلك في قصص الأنبياء ـ كما أشرنا آنفا.

        أما الموضعان اللذان صرح فيهما بهذا المفهوم، فهما: قوله تعالى: ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ) (البقرة:251)، وقوله تعالى: ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) (الحج:40).

        والتدافع يأتي، كمفهوم إيجابي وواقعي، بديلا عن الصراع السلبي أو الدعوة إلى التعايش الوهمي، وكأنه الحد الأوسط بين دعوات أصحاب الصراع المفضي إلى الإفناء، ودعوات أصحاب التعايش الحالم، الذي في ظن أصحابه يفضي إلى السلم المطلق.

        ومفهوم (التدافع) هو الذي يفسر لنا ظاهرة التراكم الحضاري في مسيرة البشرية، فما من حضارة إلا وأخذت من روافد حضارات أخرى، وراكمت الـوافـد الجديد على ما لديها من موروث قـديـم، وهـي ذاتـها، بعـد مرحـلـة ما ستغدو رافدا لحضارة أخرى... وهكذا.

        ونحن في هذا السياق، بحكم إنسانية الحضارة من جهة، وبحكم قانون التدافع من جهة أخرى، نقول بإمكانية - حتى لا نقول بحتمية - التقاطع بين [ ص: 75 ] الحضارات، بحيث تلتقي قيمها في نقاط تشكل المشترك الإنساني، أو نتائج التدافع، سلما وحربا، خصوصا في هذا العصر الذي نعيش فيه، عصر (العولمة)، الذي أزال كل الأسوار القديمة بين الشعوب، فما من سور أو جدار - ماديا كان أو معنويا - بإمكانه اليوم أن يمنع حضارة من أن تختلط بأخرى، أو يعزل حضارة عن بقية الحضارات.

        بل الأخطر، أن رعاة هذه العولمة أدركوا هذه المسألة، فأرادوا بسط سيطرتهم على بقية الفضاءات الحضارية، لا من منطلق التعايش والحوار والتدافع، وإنما من منطلق (الاستتباع)، المادي ثم القيمي، ليتحول كل من ليس من نطاقهم الحضاري إلى سوق للأفكار، كما هو للأشياء!!

        وهم يسعون إلى ذلك من خلال فكرة (التنميط)، فبعد أن نجحوا إلى حد بعيد، في تنميط العالم ماديا، من خلال إغراق الأسواق العالمية بما تفيض به مصانعهم - من نافع وضار- ها هم أولاء يحاولون ويسعون سعيا حثيثا، إلى القيام بالعمل ذاته في مجال القيم... فيستخدمون نفوذهم وقوتهم في فرض منظومتهم القيمية عن طريق المؤسسات الدولية، وذلك باستصدار القوانين والاتفاقيات الدولية، التي تخترق القوانين المحلية المؤسسة على القيم الخاصة بكل حضارة... مثلما نرى ذلك في القوانين المتعلقة بالأسرة والمرأة والطفل والإبداع...

        فهدفهم أن يصلوا إلى فرض رؤيتهم (الكونية) - المؤسسة على منظومتهم القيمية - على العالم، مثلما فرضوا على العالم سلوكاتهم المادية، في الأكل [ ص: 76 ] واللباس والعمل والإنتاج... فهم يعتقدون أنه - وانطلاقا من عقلية الاستهلاك- بإمكانهم أن يحملوا أبناء الحضارات الأخرى، على تبني نماذجهم الاجتماعية والأسرية والثقافية في بعدها المعنوي، كما حملوهم على استهلاك (الكوكاكولا) و (مك دونالدز) ولبس (الجينز) والاستماع إلى (الموسيقى الصاخبة) والهوس بكرة القدم، وتقليد اللاعبين في مظاهرهم ...

        من أجل ذلك تجدهم يعطون لقيمهم صبغة (مطلقة)، (إنسانية) (كونية)، كي يتم تمريرها إلينا، نـحن أبناء الحـضـارات الأخرى، على أساس أنها قيم مشتركة، لا ضرر من تبنيها، وبالفعل وجدت في مجتمعاتنا فئات تدعو إلى نبذ كل أصيل، والتماهي في القيم الغربية (الكونية والإنسانية)، واعتبار الهوية وهما من الأوهام التي ينبغي أن نستيقظ منها، وفي أحسن الأحوال اعتبار الهوية مفهوما مرنا، لا ثوابت فيه، فمن الطبيعي - بحسب رأيهم - أن تتطور هويتنا، وأن تخرج من قمقم الخصوصية إلى فضاء العالمية والإنسانية الرحب، ولنكن مثل الآخرين قيميا، كما نحن مثلهم ماديا!!!

        طبعا نحن هنا لا ندين دعاة العولمة في سعيهم ذاك، إلا بمقدار ما ندين ضعفنا وعجزنا عن إبراز قيمنا في بعدها الإنساني.

        لا نلوم دعاة العولمة؛ لأن سلوكهم يأتي منسجما مع طبيعة الحضارة المسيطرة، إذ كل حضارة مسيطرة تحاول أن تبرز ذلك بأمرين:

        1- التأكيد أن لها رسالة تريد حملها إلى الإنسانية، وأنها ليست مجرد آلة إنتاج اقتصادي، أو قوة عسكرية، فهي تريد دائما أن تظهر كحاملة لقيم، حتى [ ص: 77 ] في أسوأ الممارسات، مثل الاستعمار والغزو، لا تتخلى عن هـذا الادعاء... فلا ننسى أن الحركة الاستعمارية تمت تحت شعار: (تحضير) الشعوب المستعمرة، كما لا ننسى أن الغزو الأمريكي لعالمنا الإسلامي يتم تحت شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان!!!

        2- التأكيد أن القيم (الرسالة) التي تحملها، هي قيم إنسانية، ليست خاصة بهم، وإنما هي كونية، مشتركة بين بني البشر، ويبشرون بذلك من خلال آلتهم الإعلامية والدعائية الرهيبة... ولا يصيبهم العياء من ترديد شعارات الإنسانية والكونية والحضارية، حتى في أحلك الظروف، التي خلفتها مآسيهم في أراضي الشعوب الأخرى!!!

        ونحن كمسلمين، مارسنا هذين الأمرين، يوم كنا أصحاب حضارة فاعلة، فتحركنا بدافع من رسالتنا نريد نشرها في مشارق الأرض ومغاربها، وكنا نعرض قيمنا على أنها قيم للإنسانية جمعاء... فلا مشكلة كما قلنا في هذا المسلك... ولكن المشكلة في النتائج التي تمخضت عنها تجربة الحضارتين... وهو ما يوكل تسجيلها والشهادة في حقها للتاريخ كي يحدد أي الحضارتين حقق بالفعل القيم الإنسانية [1] . [ ص: 78 ]

        فالمنظـومات القيمية تتقـاطع، وليس هذا فحسب، بل نرى - انطلاقا مما بيناه في الفصل الأول - أن الإسلام باتصافه بخاصية الاستيعاب الحضاري للشأن الإنساني، لا يقف عند حدود الاعتراف بقيم الخير، التي لا تتعارض مع قيمه، وإنما أيضا يفتح إمكانية الاستفادة من قيم الخير والحق حيثما وجدت، ومن أي وعاء خرجت، ما دامت منسجمة مع المقاصد الكبرى، التي أتى بها.

        وكما روي في الحديث: ( الكلمة الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها ) [2] .

        وسنزيد هذا المعنى وضوحا، عند حديثنا لاحقا، عن الموقف من القيم الغربية عموما، ومن الديمقراطية على وجه الخصوص. [ ص: 79 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية