الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الاستيعاب الحضاري للقيم الإنسانية

        الأستاذ / عبد العال بوخلخال

        2- مرتكزات الشمولية:

        إن مرتكزات الشمولية، بالمعنى الذي أوضحناه في العنصر السابق، تتمثل في ثلاثة معالم أساس هي:

        أ- التأكيد على المشترك الإنساني:

        سبق أن أشرنا إلى هذه المسألة، عند الحديث عن ابتناء الشريعة على (الفطرة)، باعتبار أن الفطرة هي الوصف المشترك الثابت بين بني البشر. [ ص: 61 ]

        ونزيد الأمر هنا إيضاحا، بأن الرسالة الخاتمة، وتأكيدا لخاتميتها، واستيعابها للشأن الحضاري للإنسان، نجدها مثلما تعالت عن الزمن، وانعتقت من لحظة التنزيل، تعالت أيضا عن عادات القوم الذين نزل فيهم التنزيل.. فلم تلزم الناس بأن يتخلوا عن عاداتهم السليمة، المقبولة بمقياس الوحي الخاتم، لصالح العادات العربية.

        وهذان الأمران: (الفطرة) و (التحرر من العادات)، يعززان التوجه إلى الإنسان انطلاقا من المشترك الإنساني... ولهذا كانت الشريعة الخاتمة قادرة على استيعاب الإنسان زمانيا ومكانيا، والتناغم مع كل البيئات الحضارية، ذلك أن الإنسان - وإن تعددت الصفات التي يضيفها ويركبها على إنسانيته - يظل جوهره واحدا، متماثلا بين من يشترك معه في الإنسانية.. وإلى ذلكم الجوهر يتوجه خطاب الرسالة الخاتمة، وعلى تلكم الصفة الجامعة يعول في استيعاب الشأن الإنساني.

        ولذا، كلما وجدنا خطابا (إسلاميا) يشوش هذه المسألة، سنكون على يقين بأن أصحابه خلطوا - عن وعي أو عن غير وعي - بين تعاليم الله تعالى وبين عاداتهم وتقاليدهم، فلم يعد الوحي على ألسنتهم يخاطب المشترك الإنساني، ولم يعد غير المسلمين يرون فيه ما يمكن أن يجذبهم إليه، وإنما يرون فيه تهديدا لكيانهم ووجودهم، لصالح الذوبان في كيان آخر.

        من أجل هذا حرص الخطاب الإسلامي الأصيل - كتابا وسنة - على تنزيه الرسالة الخاتمة من أن تنسب إلى قوم أو قبيلة أو شخص، حتى شخص النبي صلى الله عليه وسلم ، فما كان الإسلام عربيا ولا قرشيا ولا محمديا... وإنما كان الإسلام دين الله رب العالمين. [ ص: 62 ]

        ب- الثبات في الأصول.. والتطور في الفروع:

        وهذا المرتكز في الحقيقة، كالنتيجة للسابق، فنجد الرسالة الخاتمة قد بنيت على نوعين من الأحكام، أصول ثابتة وفروع متغيرة .

        تمثل الأصول ما يمكن أن يلتقي عليه الناس جميعا، مهما اختلفت أزمنتهم، وتباينت مستوياتهم الحضارية.

        وتمثل الفروع ما يخضع للتغيير والتبديل في حركة الإنسان في هذه الحياة، وهو المساحة التي تتجسد فيها اختلافات الناس، بحسب تباينات الأزمنة والأمكنة والظروف الحضارية.

        وهنا أيضا تكمن الشمولية المستوعبة، التي تمتاز بها الشريعة الخاتمة، حيث تضمن الثبات في الأصول وتعطي في الوقت ذاته مرونة لا متناهية، تفسح أمام الإنسان مجالات الإبداع والتطور.

        وبالجمع بين الثبات والتطور يتزن الإنسان في حركته، ويتقدم وهو آمن من الضياع والتيه، أو من الدوران في الحلقات المفرغة... وهما حالتان من حالات الاضطراب في مسيرة الإنسان، حين تسيطر عليه أفكار التطور المنفلت من كل ثابت وأصل، كما هو شأن الحضارة الغربية المعاصرة، حين انطلقت متجاوزة كل الثوابت والأصول، واعتبرت الإنسان مقياس نفسه، خالقا لمعاييره، فانتهت إلى ما انتهت إليه من ضياع وفقدان للمعنى.

        كما قد يحدث العكس، حين تسيطر على الإنسـان أفكار التخلف، كما حدث للمسلمين، حين زعم من زعم أن باب الاجتهاد قد أغلق، وأن [ ص: 63 ] الأول ما ترك للآخر شيئا!!! فكانت النتيجة ما نحن عليه الآن من ركود ودوران في الحلقات المفرغة!!!

        إن (الاجتهاد) إذا نظرنا إليه من هذا المنظار، يغدو آلية حضارية بالغة الأهمية، في تأكيد شمولية الرسالة الخاتمة، للاستيعاب الحضاري، كما سيتضح في العنصر الموالي.

        ج - القدرة على التجاوز:

        وهذا ثالث مرتكز من مرتكزات الشمولية، وهي قدرة الرسالة الخاتمة على تجاوز الواقع بعد استيعابه .

        إذ لما كانت الشريعة الخاتمة مبنية على أصول ثابتة، تمثل بشكل أو بآخر المشترك الإنساني، وكان إلى جانب هذه الثوابت والأصول مساحة أوسع من الفروع والمتغيرات، تمثل جوانب الاختلاف التي يحتمها اختلاف الناس وتبايناتهم الحضارية... أعطي للعقل الحق في الاجتهاد لتجاوز تلك الفروع، ولكن في ضوء ما تم إقراره من أصول.

        والتجاوز، الذي نتحدث عنه هنا، يبرز من خلال النظر إلى مسألة الاجتهاد، كما قلنا.

        فالاجتهاد، هو حصيلة التفاعل بين:

        - النص، أو الكليات، التي صيغت وفقها الشريعة الخاتمة.

        - والعقل.

        - والواقع. [ ص: 64 ]

        فلما أراد الله تعالى لشريعته الخاتمة أن تكون مهيمنة، أي مستوعبة للشأن الحضاري، عصية على التجاوز، أفسح المجال أمام العقل، ليحقق هو نفسه التجاوز من خلال الاجتهاد.

        فالاجتهاد، كما أقرته الشريعة الخاتمة، هو الاستجابة المنطقية للتحديات التي يفرضها الواقع على هذه الشريعة، في كل زمان ومكان... بل هو الذي يمكنها من استيعاب الواقع وتجاوزه، لتبقى دوما السقف الذي يمكن للإنسان أن يبلغه... ولعل هذا ما يميز الشريعة الخاتمة عن الشرائع السابقة، تلك الشرائع التي لم تكن متصفة بالشمولية، ولا هي مخترقة للواقع من خلال الاجتهاد، فإذا الواقع حينما فرض عليها التحديات، فمرة تجاوزها، ومرة اخترقها عن طريق تطويع تلك التعاليم بالتأويل بغية أن تنسجم مع الواقع الجديد، ولو بأبعاد رمزية [1] .. بهذا يكتمل العنصر الأخير من مرتكزات الشمولية، ويبقى حديثنا عن مجالاتها.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية