الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الاستيعاب الحضاري للقيم الإنسانية

        الأستاذ / عبد العال بوخلخال

        المبحث الثالث

        الإسلام والديمقراطية... توافق أم تناف؟

        هل الديمقراطية كفر... لا يمكن أن يكون بينها وبين الإسلام لقاء؟

        أم أن الإسلام يرحب بها ويعتبرها مماثلة للشورى؟

        هل العلمانية شرط في قيام الديمقراطية، ومن ثم لا مطمع في ترسيخ نظام ديمقراطي إلا بإقصاء الدين؟

        أم أن الديمقراطية مجرد آلية، لا علاقة لها أصلا بالدين كعقائد؟

        أم أن الدين ينبغي أن يجرد من شقه التشريعي، لينسجم مع الديمقراطية؟

        هـذه الأسئـلة الكثيرة وغيرها، تتناسل كلها من سؤال العلاقة بين الإسلام والديمقراطية.

        وقـد سـبـق وبـيـنا، أن صـدمـة اللـقـاء مع الحـضـارة الغربـيـة فـجـرت في الواقع الإسلامي جملة من الإشكالات، تركزت أغلبها حول الموقف من القيم الوافدة.

        ولعل (الديمقراطية) في العقود الأخيرة، كان لها النصيب الأوفى من النقاش والمساءلة، لا لأنها مرتبطة بمجال حيوي من حياة الإنسان، وهو المجال السياسي فقط، ولكن أيضا لأنها غدت الرسالة التي تقوم عليها الحضارة [ ص: 159 ] الغربية، وتزعم أنها تسعى لنشرها وتمكين البشرية من التنعم بـها، مستخـدمـة في ذلك كل وسائل القوة، الناعمة منها والخشنة!!

        فالنقاش إذن، لا يدور حول مفهوم مجرد، بل على قضية، جعل منها البعض حلما وسقفا ينبغي الوصول إليه مهما كان الثمن.

        وكعادتنا في المجتمع العربي والإسلامي، لم يكن موقفنا من الديمقراطية واحدا، بل آراء متناقضة ومتضاربة.. تمتد من أقصى درجات الرفض إلى أقصى درجات القبول.

        ونحن في هذا المبحث، سنحاول أن نتبين هذه الآراء، بحسب ما يسمح به المقـام، مع محـاولـة أن نـنـظر إلى الديـمقراطية من زاوية القيـم الإسـلامية، التي سبق الإشارة إليها في الفصل الأول، وهذا الفصل، عسى أن نتحرر من نظرة المسلمين، لنقارب نظرة الإسلام.

        وإن كان الأمـر ليـس سهـلا، لأن كل من اتـخذ موقفا من الديـمقراطية في عالمنا العربي، ادعى أنه ناطق باسم الإسلام، أو أنه نطق خدمة للإسلام... يستوي في ذلك الإسلامي والعلماني!!!

        إن الموقف من الديمقراطية - عموما - تـحـكمـه الاتـجاهات الثـلاثة، التي أشرنا إليها في الفصل السابق والتي تحكم موقف المسلمين من القيم الغربية.

        تلك الاتجاهات الفكرية، تجد ترجمتها في الواقع السياسي في تيارين بارزين، يقسمان الساحة السياسية في عالمنا العربي:

        - التيار الإسلامي: بمختلف تشكيلاته، ومقولاته ورموزه.

        - التيار العلماني: بمختلف تشكيلاته، ومقولاته ورموزه. [ ص: 160 ]

        وعليه سنقف مع كل تيار، نتبين إجابته عن سؤال (العلاقة بين الإسلام والديمقراطية)، ثم نختم هذا المبحث، بموقف نراه متميزا؛ لأنه استطاع أن يتجاوز الموقفين السابقين، وأن يكون في عمومه منسجما مع خاصية الاستيعاب الحضاري التي يتميز بها الإسلام.

        أولا: التيار الإسلامي والديمقراطية:

        التيار الإسلامي، جماعات وتوجهات متعددة، قد يكون بينها من الفروق، وحتى التناقضات الشيء الكثير، ولكنها كلها - على ما فيها من اختلافات - تجتمع حول مقولات مركزية، أهمها: (جعل الشريعة الإسلامية مرجعية في حياة الفرد والمجتمع).

        ولذلك هم يعرضون موقفهم من الديمقراطية - كما موقفهم من القيم الغربية عموما - انطلاقا من هذه المرجعية، فالمسألة بالنسبة إليهم توزن بميزان الأحكام الشرعية.

        ونحن هنا سنعرض لأبرز رأيين، أنتجهما التيار الإسلامي في الموضوع، وهما رأيان - كما سنرى - يصدران من المرجعية ذاتها، ولكنهما ينتهيان إلى نتيجتين متناقضتين، إحداهما تعتبر الديمقراطية - باسم الإسلام - كفرا... والثانية تعتبر الديمقراطية - باسم الإسلام - ليست شيئا أكثر من الشورى!!

        ولن نتعرض للآراء التي تخرج من التيار الإسلامي، ولكنها لا تدعي صراحة أنها تصدر عن رؤية فقهية بحتة، وإنما عن رؤية واقعية، تحتكم فيها إلى [ ص: 161 ] السياسة أكثر مما تحتكم فيها إلى الفقه... أو إن شئنا نقول: تحتكم فيها إلى الممارسة أكثر مما تحتكم فيها للأيديولوجيا، وتصدر هذه الآراء غالبا من المفكرين الإسلاميين الذين لم يكن تكوينهم الأساسي شرعيا، أو من أولئك الذين خاضوا تجارب سياسية عملية، فهم ينظرون للمسألة من الزاوية العملية، ولذلك لا نجدهم مشغولين ببيان الحكم الشرعي من الديمقراطية، بل نرى خطابهم حاسما في تبني الديمقراطية، والإقرار بأنه لا خلاف بينها وبين الإسلام، إلا في جزئيات يمكن تصحيحها وتعديلها [1] ... ولن نقف مع هذا الاتجاه لأن تأثيره لا يزال ضعيفا في الوسط الإسلامي، بل هو في أكثر الأحيان هدف للهجوم من طرف أصحاب الرؤية الفقهية، يتهمونه فيها بالانحلال، والبعد عن (ضوابط الشريعة).

        وقـوفـنا إذن، سيـكون مـع أصحـاب الرؤية الفقهـيـة، وقد أنتجوا - كما قلنا - رأيين متناقضين. [ ص: 162 ]

        وقبل التفصيل، بذكر مثال عن كل رأي، نشير إلى مسألة نراها مهمة، في توضيح الآلية التي أنتجت هذين الرأيين حول الديمقراطية.

        فالملاحظ، سيجد أن الإسلاميين عموما، تعاملوا مع الديمقراطية باعتبارها (نازلة) تتطلب (فتوى)، كشأن النوازل التي عرفت في تراثنا الفقهي.

        فهم بهذا تعاملوا معها من منطلق (الفتوى) لا من منطلق (التنظير)... والفرق شاسع ـ كما هو معلوم ـ بين منطق الفتوى، ومنطق التنظير.

        الفتوى تأتي لاحقة عن الواقعة، أما التنظير فيكون سابقا لها.

        ولعل هذا ما يفسر غياب الأبعاد التنظيرية في الأدبيات الإسلامية السياسية المعاصرة، لدى الناشطين السياسيين في التيار الإسلامي.. بل حتى في الدراسات الأكاديمية، باستثناء محاولات قليلة جدا، لما تستوي بعد على سوقها. [2]

        بعد هذا نأتي لعرض الرأيين:

        1- تيار الرفض المطلق للديمقراطية:

        ومن أبرز من يمثل هذا التيار الشيخ عبد المنعم مصطفى حليمة (أبو بصير الطرسوسي)، في كتابه (حكم الإسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية) [3] . [ ص: 163 ]

        الكتاب، من صفحته الأولى، حتى قبل المقدمة، في الإهداء، ثم الآيات التي تلته، يفصح عن التصور الذي يحكم موقف الكاتب من الديمقراطية.

        فهي عنده معركة مع الإسلام، وهي دين جديد يراد فرضه على المسلمين، من خلال مؤامرة غربية صليبية، وهو يرفض أن تلبس - زورا - لباس الشورى (ص3).

        وهي وسيلة جديدة لهدم (قضية الحاكمية)، يقول- بعد أن بين أن القوى المعادية للإسلام في الداخل والخارج عجزت عن هزيمة المسلمين بالعنف، غيروا طريقتهم-: "فوجدوا في الديمقراطية - وما يتبعها من نظم وتفريعات ووسائل - بغيتـهم، والبديل الذي يـمـيـعون به قضية الإسلام وحقيقـتـه في نفوس المسـلمين وفـي واقع حياتـهم، قضيـة الحـاكمية والتشـريع، قضية من المعبود بحق، الذي يجب أن تصرف إليه الطاعة والعبادة، وبنفس الوقت يحافظون على عروشهم ونفوذهم ومصالحهم، ويبقون على نظامهم العلماني الوضعي، الذي يفصل الدين عن الدولة وشؤون الحـكم والسيـاسـة وجميع شؤون الحياة" (ص6).

        بمثل هذه اللغة الحدية والحادة، ينطلق الكاتب في مناقشة الديمقراطية، ليصدر (حكم الإسلام) فيها وفي التعددية الحزبية!!

        فهو لا يتعامل معها باعتبارها (آلية سياسية)، ولا حتى فلسفة أو فكرة، بل يراها (دينا)، ويحاول أن يستعين بالدلالة اللغوية، وبتأويل بعض [ ص: 164 ] النصوص [4] ، ليدلل على ما ذهب إليه من استحالة الجمع بين الإسلام والديمقراطية، إلا إذا كان من الممكن الجمع بين الإسلام والمسيحية أو اليهودية (ص35).

        وتبلغ لغـتـه أقـصى درجات الحـدية، عـندما يناقـش ما افـترضـه أسسا للديمـقراطية، فرأى أن كل أسـسـها تناقـض مناقضة تامة ما يتصور أنه الإسلام!!

        ولما كانت مقولة (الحاكمية) هي المقولة المركزية في أطروحة الكاتب، فعليها أدار نقاشه لما تصوره، كما قلنا، أسسا للديمقراطية، ويمكن تلخيصها كما يلي:

        1- مبدأ أن الشعب مصدر السلطات: اعتداء على سلطان الله وحاكميته (ص14-15).

        2- مبدأ حرية التدين: يخالف النصوص الشرعية (ص15).

        3- الشعب هو الحكم عند النزاعات: مناقض لأصول التوحيد. (ص16).

        4- حرية التعبـير والإفصـاح عن الرأي أيا كان هذا التعبير: يناقض قواعد الإسلام. (ص17). [ ص: 165 ]

        5- فصل الدين عن الدولة: قول فاسد، والقائل به كافر. (ص21).

        6- مبدأ الحرية الشخصية: باطل وفاسد لتضمنه تحليل ما حرم الله. (ص21).

        7- حرية تشكيل الأحزاب: باطل شرعا من وجوه عديدة. (ص23).

        8- اعتبار موقف الأكثرية: باطل لأن المعتبر في الإسلام موافقة الشرع. (ص25).

        9- كل شيء في الديمقراطية خاضع للتصويت: باطل شرعا لأنه قد يؤدي إلى الكفر. (ص27).

        10- مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات على أساس المواطنة: باطل؛ لأنه يسوي بين الحق والباطل. (ص28).

        11- المالك الحقيقي للمال هو الإنسان: مخالف للإسلام الذي يرى أن المالك الحقيقي له هو الله. (ص30).

        ويختم مناقشته (لأسس الديمقراطية) بنقل كلام للشيخ محمد قطب، يطرح فيه نقطتين تدعمان فكرته:

        الأولى: لا ينبغي لنا من الوجهة العقدية، أن نقرن النظام الرباني إلى نظام جاهلي.

        الثانية: الشبه العارض بين الإسلام والديمقراطية، لا ينبغي أن ينسينا الفارق الضخم في القاعدة، فالقاعدة التي يقوم عليها الإسلام، تختلف عن القاعدة التي تقوم عليها الديمقراطية. (ص31). [ ص: 166 ]

        أما الموقف من التعددية الحزبية، فيأتي كلازم من لوازم رفض الديمقراطية، والحجج في ذلك، هي تلك التي اشتهرت لدى التيارات السلفية عموما، من تفريق الأمة والسماح بقيام أحزاب تناقض أفكارها شرع الله...

        إذن هذا الرأي، كما نلاحظ، يقوم على أساس التنافي المطلق بين الإسلام والديمقراطية، على اعتبار أنهما دينان... وأنها هدم للحاكمية... من هنا لا يجد الكاتب أي صعوبة في الإفتاء، بعد ما ظنه مناقشة ونقضا للديمقراطية: "وبناء على ما تقـدم، نقول جـازمين، غير مترددين، ولا شاكين في أن الديمقراطية طاغوت كبير، حكمها في دين الله تعالى هو الكفر البواح، الذي لا يخفى إلا على كل أعمى البصر والبصيرة، وأن من اعتقدها أو دعا إليها أو أقرها أو حسنها، أو عمل بها، على الأسس والمبادئ التي تقوم عليها الديمقراطية الآنفة الذكر، من غير مانع شرعي معتبر، فهو كافر مرتد عن دينه وإن تسمى بأسماء المسلمين، وزعم زورا أنه من المسلمين المؤمنين، فالإسلام وحال هذا وصفه لا يجتمعان في دين الله أبدا.

        أما من يقول بالديمقراطية جاهلا للمعاني والأسس الآنفة الذكر، التي تقوم عليها الديمقراطية، فمثل هذا نرى الإمساك عن تكفيره بعينه مع بقاء القول بكفر قوله، إلى أن تقوم عليه الحجة الشرعية التي تبين له كفر الديمقراطية" (ص33). [ ص: 167 ]

        2- تيار قبول الديمقراطية كوسيلة:

        وهي الفتوى المناقضة للفتوى الأولى، ويمثلها ما أجاب به الشيخ يوسف القرضاوي، عمن سأل عن حكم الإسلام في الديمقراطية... بعد أن استنكر السائل قول القائلين بكفرها وكفر من دعا إليها، فسأل: "هل صحيح أن الإسلام عدو الديمقراطية؟ وأن الديمقراطية ضرب من الكفر أو المنكر كما زعم من زعم؟ أو أن هذا تقول على الإسلام وهو منه برئ؟" [5] .

        فينطلق الشيخ القرضاوي، ليقدم فتواه حول علاقة الإسلام بالديمقراطية.

        فيبدأ أولا بمحاولة الكشف عن حقيقة الديمقراطية قبل الحكم عليها.

        فيرى "أن جوهر الديمقراطية - بعيدا عن التعريفات والمصطلحات الأكاديمية - أن يختار الناس من يحكمهم ويسوس أمرهم، وأن لا يفرض عليهم حاكم يكرهونه، وأن يكون لهم حق محاسبة الحاكم إذا أخطأ، وحق عزله وتغييره إذا انحرف" (ص132).

        وانطلاقا من هذا الجوهر، يرى بأن الديمقراطية تتفق تماما مع الإسلام، من حيث إن الإسلام جاء حربا على الاستبداد ... ثم تطرق إلى آليات الديـمقراطية، وطابق بينها وبين مفاهيم موجودة في الإسلام، أو أعطاها مضمونا إسلاميا (كالانتخابات وحكم الشعب والأخذ برأي الأغلبية...) (ص136-142). [ ص: 168 ]

        لتكون خلاصة الفتوى: "لا حجر على البشرية ومفكريها وقادتها أن تفكر في صيغ وأساليب أخرى لعلها تهتدي إلى ما هو أوفى وأمثل، ولكن إلى أن يتيسر ذلك ويتحقق في واقع الناس، نرى لزاما علينا أن نقتبس من أساليب الديمقراطية ما لابد منه لتحقيق العدل والشورى واحترام حقوق الإنسان، والوقوف في وجه طغيان السلاطين العالين في الأرض.

        ومن القواعد الشرعية المقررة أن ما لايتم الواجب إلا به فهو واجب... وأن المقاصد الشرعية المطلوبة إذا تعينت لها وسيلة لتحقيقها أخذت الوسيلة حكم المقصد.

        لا يوجد شرعا ما يمنع من اقتباس فكرة نظرية أو حل عملي من غير المسـلمـين... ومن هنا نأخذ من الديـمقراطية أساليبها وآلياتـها وضماناتـها، التي تلائمنا، ولنا حق التحوير والتعديل فيها، ولا نأخذ فلسفتها، التي تحلل الحرام أو تحرم الحلال أو تسقط الفرائض" (ص137-138).

        هـكذا إذن، همـا رأيان يقفان على طرفي نقيض، الأول يراها كفرا؛ لأنـها دين... والثاني يرى أنـها وسيـلـة من الـواجب الأخـذ بـهـا لتحقيق واجبات شرعية!!

        وهما يظلان - كما قلنا- (فتوى) تلاحق الواقع، لا (تنظيرا) يمكنه أن يؤسس رؤية على قواعد صحيحة ثابتة، نتجاوز بها الآراء المتضاربة إلى حد التناقض بين الكفر والإيجاب. [ ص: 169 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية