الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        2- كيف تحدث القرآن مع الإنسان؟

        لا شك أن الخطاب القرآني مع الإنسان، سيأتي منسجما مع خطابه عنه، بمعنى أن الله تعالى سيتحدث إلى الإنسان انطلاقا من الصورة، التي تحدث بها عنه.

        وكذلك كان... فقد جاءت شريعة الله تعالى إلى الإنسان، في صورتها الخاتمة مع النبي صلى الله عليه وسلم متساوقة مع الصورة التي رسمت لهذا الإنسان.

        والقرآن يشير إلى هذه الحقيقة، عندما يقص علينا مسيرة الإنسان من خلال قصص الأنبياء، تلك القصص التي نفى عنها الله تعالى العبث والكذب [1] ، فكانت بذلك تأريخا لمراحل الترقي التي قطعها الإنسان، من [ ص: 27 ] سـذاجـتـه الأولى، إلـى نـضـجـه [2] ... هـذا الـنـضـج الذي لا تعرف آفـاقـه ولا حدوده!!!

        وإجمالا، لنا أن نقول: إن القرآن خاطب الإنسان باعتباره صانعا للحضارة، أو مكلفا بصناعتها [3] ...

        وهذه قضية تدرك من النظر إلى الشريعة الإسلامية في كلياتها ومقاصدها، كما في جزئياتها وتفاصيلها، فنحن نجد الإسلام في مقاصده الكبرى، أو عند المقاصد الجزئية المرتبطة بتفاصيل أحكامه، ينطلق من نقطة واحدة، وهي تـكليـف الإنسـان بتحقـيـق الحـيـاة اللائقـة به ككائن مكرم، ولا يكون ذلك إلا بالتحقق بوصف الخلافة في نطاق العبادة والعمارة.

        فالإنسان خوطب من قبل أن يوجد على الأرض، بخطاب يدعوه إلى أن يكون معمرا لها، بل هوية هذا الموجود الجديد تحددت أول ما تحددت بوظيفته، حتى من قبل أن يخرج من العدم إلى الوجود، حين أعلن الحق تعالى للملائكة: ( إني جاعل في الأرض خليفة ) (البقرة:30). [ ص: 28 ]

        وهذه الخلافة، التي طلب من الإنسان -كما قلنا- تحقيقها ضمن (العـمـارة) و (العبـادة)، هي التي دار حـولها الخـطاب القرآني للإنسان، مطلق الإنسان، كي يعمر الأرض و لا يخربها، ويعبد الله ولا يتنكر له... وهو ما يعطي لحركته في هذه الدنيا مفهوما إيجابيا للتعمير، لا مجرد تكديس للمنتجات، تؤدي بالإنسان البعيد عن الله، المنقطعة صلته بعبوديته، إلى مفهوم الطغيان، لأنه في لحظات الغرور تلك، حين يرى نفسه ممسكا بزمام الطبيعة، يسكنه وهم الاستغناء عن الخالق تعالى، فيقع في رذيلة الطغيان، والطغيان يقوده إلى الفساد والإفساد.. وهما: (الفساد والإفساد) يتناقضان مع طبيعة الكون وطبيعة الحياة الكريمة، التي يريدها الله تعالى للإنسان.

        فهل يكون غريبا بعد هذا، أن يتلازم تكليف الله تعالى للإنسان بتعمير الأرض، مع تـحـذيره له من إفسـادها، وقـد خـلـقها الله على هيئة صالحة: ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ) (الأعراف:56).؟

        بل هل يكون غريبا، أن يفتتح الله وحيه للإنسان، بأن يرسم له خطوات المنهج، الذي يحقق به الخلافة في الأرض، ويحذره من المرض الذي قد ينأى به بعيدا عن وظيفتـه الـوجـودية، ويـنـبـه إلى مصـيره وعـودته إلى خالقه؟... كلا، لم يكن ذلك غريبا ولن يكون، فالقرآن أساسا نزل منهجا للإنسان، ومن مقتضيات المنهج أن يرسم الخطوات ويحدد المطلوب بدقة. [ ص: 29 ]

        فكان أول ما نزل سورة (العلق) [4] ، بـهـا ابتدأ الله خطـابه للإنسـان، في مرحلة نضجه المتوافقة مع الوحي الخاتم، فجاء أول خطاب، في آخر حلقات الوحي، مرتبطا مع أول خطاب تم فيه الإعلان عن إرادة الله في إيجاد هذا المخلوق الجديد... فـ(آدم) الخليفة المعلن عنه في بداية الخلق، تقلب أبناؤه في مراحل تاريخ الإنسانية، رقيا وتكاملا في مفهوم آدميتهم، الـتي تـؤهـلـهـم إلى حقيقة الخلافة، التي وسم بها أبوهم في بداية قصة حياتهم... فكان لزاما أن يأتي الوحي الخاتم منسجما مع هذا الرقي، الذي بلغه الإنسان.

        فكانت آيات (العلق) فاتحة للخطاب الإلهي الأخير للإنسان: ( اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم ) (العلق:1-5).

        إنها القراءة، مفتاح كل رقي إنساني، شريطة أن تكون قراءة باسم الرب الذي خلق، أي تكون قراءة في نطاق القيم، التي تحفظ الإنسان من التيه والضياع، إن هو (قرأ) بعيدا عن الخالق سبحانه؛ لأنه بذلك سيعمر الأرض وينسى ربه، فتكون النتيجة الخراب بدل العمران، والضـلال بدل الهـداية، بل وانـحطاط الإنسـان عن أفق الإنسانية المطلوب تحصيلها، وفق الكرامة، التي منحها الله تعالى له، فتتحول ثمرات ذلك العمران الظاهري إلى أدواء قاتلة، [ ص: 30 ] تدفع الإنسان - كلما انغمس فيها مستهلكا - إلى مزيد من الاغتراب عن ذاته.. كلما امتلأت حياته بالأشياء ازداد فراغها من المعنى، وفي أحوال الحضارة الغربية الآن، خير شاهد على هذه الحقيقة [5] .

        فالقراءة باسم الله إذن، هي الضامن لأن يستقيم الإنسان على المنهاج الحق، ليكون بحق خليفة عن الله في أرضه، يصلحها ولا يفسدها، يعمرها دون أن يضيع ذاته. [ ص: 31 ]

        وفي الآيات أيضا، إشارة إلى حقيقة لا تقل أهمية عن الحقيقة الأولى، وهي أن القراءة باسـم الله، تفتـح أمام الإنسان باب كرم الله الواسع، فيعلمه ما لم يعلم، لأنه - سبحانه - هو الأكرم، وقد تجلت أكرميته، زيادة على خلق الإنسان، بأن علمه بالقلم، وعلمه ما لم يعلم.

        وشتان بين من ينطلق في آفاق الكون يقرأ باسم ربه، وبين من ينطلق فيها يقرأ وهو غافل عن خالقه، يسائل المـادة، ولكنه لا يسأل عن مصيره، ولا عن معنى الحياة التي يحياها... يقرأ، وقد يكتشف أسرار الـكون وسننه، التي أودعها الله فيه، وقد يستغلها، ويطوعها، ولكن منتهى علمه وقراءته يقفان به عند حدود الظاهر، لا يكاد يتجاوزه!! وأصحاب هذه القراءة، هم الذين قال الله تعالى فيهم: ( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ) (الروم:7).

        إذن، فالإنسان خوطب بأن (يقرأ)، ليتمكن من استيعاب منهاج الخـلافـة، هذا هو المنطلـق، وهذه هي القاعدة، التي بنيت عليها الشريعـة - كما قلنا - في مقاصدها وتفاصيلها.. أن يكون الإنسان، وقد هيئت له الأسباب الذاتية (ما ركب فيه من مواهب)، والموضوعية (ما سخر له من موجودات)، قادرا على أن يسلك عمليا ما يجعله قريبا من الصلاح والإصلاح، بعيدا عن الفسـاد والإفسـاد... ويتسع الصلاح المطلوب تحصيله، ليشمل حياته في الـدنيا والآخرة، ويتـسـع الفسـاد المطلـوب البعد عنه، ليشمل حياته أيضا في الدنيا والآخرة. [ ص: 32 ]

        ولهذا، عندما بحث عن المقصد العام في الشريعة الإسلامية والتي هي خطاب الله للإنسان، وجد أنه يتلخص في مراعاة مصالح الإنسان، في العاجل والآجل... وإنما تكون مصالحه مرعية بتشريع ما يحفظ هذه المصالح الإنسانية، بمستوياتها الثلاثة (ضرورية وحاجية وتحسينية) [6] ... وعلى هذه المصالح الثلاثة تقوم الحضارة.

        إذ بالضروريات، يتحقق للإنسان المستوى الأساس من متطلبات الحياة اللائقة به كإنسان.

        ثم تأتي الحاجيات، لتضيف إليه ما يجعل الحياة - وقد تحققت أساسياتها- بعيدة عن الحرج والضيق، اللذين وإن لم يعودا على الحياة بالإزالة، فإنهما يعطلان حركتها ويعيقان تقدمها.

        ثم تأتي التحسينيات في المقام الثالث، لتضفي على الحياة -بعد أن استكملت أساسياتها، ونأينا بها عن الضيق والحرج- بعدها الجمالي.

        ونحن نرى تفاوت الأمم في درجات التحضر، بحسب تفاوت سقفها، ارتفاعا وانخفاضا، وفق هذه المصالح الثلاث.

        فرب أمة، لا يزال الإنسان فيها يلهث من أجل الظفر ببعض الضروريات، وقد أخرج الحاجيات والتحسينيات من دائرة أحلامه، فضلا عن دائرة تفكيره!! [ ص: 33 ]

        ورب أمة أخرى، يرى الإنسان فيها كل حديث عن ضروري أو حاجي أمرا يثير التعجب؛ لأنه تجاوز هذه الأمور منذ أمد بعيد، وهـو الآن يسبـح في دائرة الجماليات!!

        ومن هنا، عندما جعل الإسلام هذه المصالح الثلاث، مقصدا أساسيا للشريـعـة، إنـما كانت غايـتـه أن ينـقـل الإنسـان إلى سقـف الحـضـارة، الذي يستوعب أساسيات الحياة، وميسراتـها، وجمالياتـها... وهـو ما تـحقق في مرحلـة ما من تاريخ المسلمين.

        - الرسول صلى الله عليه وسلم وتجسيد الخطاب الحضاري:

        ولن نجد ـ إن نحن بحثنا في تاريخ المسلمين ـ مرحلة تجسد فيها الخطابي القرآني للإنسان، بما هو خطاب حضاري، أو على الأقل يعد الإنسان ليكون بانيا للحضارة، من المرحلة النبوية... ذلك أن هذه المرحلة هي مرحلة التأسيس الفعلي للإنسان الجديد، وفقا للرؤية الجديدة، التي جاء بها الوحي الخاتم.

        فقـد نزل القـرآن في بيئـة بـدوية، بعيدة عن كل مظاهـر التحضر، التي عرفتها بلاد الروم أو بلاد الفرس، أو حتى الحضارات القديمة البائدة... فكان العربي، لا يزال يعيش حياة قريبة في بساطتها إلى الطبيعة الساذجة، في الأفكار والسلوك، وما يتبعهما من علاقات أسرية واجتماعية واقتصادية [7] . [ ص: 34 ]

        لم يكن تفـكير الإنسان العربي - إن هو فكر- يتجاوز سقف القبيلة وما تفرضه عـليه من قيـم، تجعـله في أغـلب الأحيان - إن لم نقل كلها- تابعا لا يملك فكاكا من الدوران في فلكها، سلما وحربا، حقا وباطلا، حتى قال قائلهم:


        ومـا أنـا إلا مـن غـزيـة، إن غـوت غـويـت، وإن تـرشـد غـزيـة أرشـد



        لم يكن للإنسان العربي، قبل الإسلام، كتاب يهديه في حياته، أو يكون له مرجع يشكل ثقافته - كما هو الحال عند اليهود والنصارى في جزيرة العرب- بل كان سابحا مع تهويمات الشعراء.. حكمته في ذلك فلتات تأتي عفو الخاطر، لا عن روية وتفكير وتفلسف.

        لم يكن له طموح في بناء كيان سياسي، يجمع شتات القبائل المتناثرة، تناثر حبات الرمل في صحرائه القاحلة!!

        وكانت حياته كلها مصاغة وفق بداوته... إن في مظاهرها المادية أو بناها الاجتمـاعية والثـقافـية... وقد كانت (الخميرة) التي استخـدمت بعد لتعطينا حضـارة ناضجـة، ظـلت لقرون تقود العالم، وتؤسس لما يأتي بعدها من تقدم إنساني.

        وقـد استـطاع النبي صلى الله عليه وسلم برسـالـتـه، أن يـحـول تلك الإمكانات في ظرف قصـير، إلى عطـاء جديد، وينقل الإنسان العربي من بداوته إلى آفـاق [ ص: 35 ] حـضـارية مـدهـشـة، حـتى عـد ذلك - بـحـق - من أبرز مظـاهر صدق نبوته صلى الله عليه وسلم [8] .

        وما يشدنا في الفعل النبوي هنا، هو تهيئته صلى الله عليه وسلم للإنسان العربي في ذلك الزمن، ليكون إنسانا آخر، يبني حضارة، ولا يكتفي بذلك فقط، بل سيحمل الحضارة إلى غيره، ويخرج من آفاق القبيلة، معرفيا وجغرافيا.

        فكان الإعداد بارزا في توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم حتى في المسائل البسيطة، التي عادة ما يتعامل معها الناس على أنها توجيهات أخلاقية، أو آداب، تستهدف تعديل السلوك الفردي، كتلك التي تناولت آداب الأكل واللباس والنظافة والحديث والطريق... . [9]

        وكان ذلك الإعداد ذا بعدين، أحدهما (معرفي)، والثاني (سلوكي).

        ففي البعد المعرفي تبرز المسائل التالية:

        - التنويه بالعقل والاعتداد بالعلم.

        - التنويه بالتعلم واكتساب أدواته. [ ص: 36 ]

        - الاحتكام إلى العقلية العلمية والبعد عن العقلية الخرافية.

        - التمييز معرفيا بين مجالات الوحي ومجالات العقل.

        وفي المجال السلوكي تبرز مسائل الآداب، التي أشرنا إليها.. ففضلا عن الواجبات في العبادات وغيرها وما تحمله للإنسان من سلوكيات حضارية، تبرز آداب (الأكل، الشرب، النظافة، اللباس، الحديث، اتخاذ الزينة، التعامل مع البيئة، نباتا وحيوانا...).

        ويمكن أن نورد على كل واحدة من هذه المسائل عشرات الأحاديث، والمواقف من سيرة المصطفى، صلى الله عليه وسلم ، خصوصا إذا وسعنا دائرة النظر، وحررنا تلك النصوص من القراءة الفقهية الضيقة، التي تعنى فقط بالبحث عن الحكم الفقهي بالمفهوم الخاص، لنقرأها قراءة تستخرج البعد الحضاري أو الإعداد له فيها [10] .

        فـكل هـذه المسـائل (معرفية أو سلوكية)، جـاءت في السنـة، تأكيدا أو شرحا لما ورد في القرآن الكريم.. وهي إن تأملناها من زاوية الإعداد الحضاري، نجدها كلها تجسيدا للخطاب القرآني، الذي يريد من خلاله الله تعالى بناء إنسان جديد، بإمكانه أن يبني حضارة، وأن يحمل حضارة للآخر، مهما كان هذا الآخر مختلفا عنه، عقيدة وعرقا ولغة وجغرافية.

        ولو شئنا أن نختم كلامنا عن هذا العنصر بفكرة جامعة، فإننا نقول: إن حديث الإسلام عن الإنسان يبرزه كمخلوق مكرم، مؤهل لصناعة الحضارة. [ ص: 37 ]

        وحديث الإسلام إلى الإنسان، يدعوه إلى أن يلتفت إلى مؤهلاته ووظيفته، كي يبني الحضارة.

        فجاءت أحكام الإسلام منسجمة مع المكانة المعطاة للإنسان من جهة، ومع الوظيفة التي كلف بها من جهة أخرى، وساهمت - إن في مقاصدها الكبرى أو حتى عند مقاصدها الجزئية - في إحداث التفاعل، الذي صنع إنسان الحضارة الإسلامية [11] .

        وسنبين هذه المسألة أكثر، عندما نتحدث في المبحثين التاليين عن مفهوم خاتمية الرسالة، ومفهوم الشمولية، وعلاقة المفهومين بالاستيعاب الحضاري، الذي عقدنا هذا الفصل لبيانه. [ ص: 38 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية