الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الاستيعاب الحضاري للقيم الإنسانية

        الأستاذ / عبد العال بوخلخال

        المبحث الثاني

        الديمقراطية... المفهوم والأسس

        هل قدرنا -نحن العرب- أن نصل دائما متأخرين، نلاحق ما لا يمكن الإمساك به؟ يقفز أمامنا هذا السـؤال كلما حـاولنا أن نقـترب من المفـاهيم التي فرضتها علينا الحضارة الغربية، كالتنوير والحداثة والديمقراطية، أو حتى المناهج والفلسفات...

        فما نكاد نصل فيها إلى تعريف، أو شبه تعريف، حتى نجد الآخرين قد تركوها إلى غيرها، أو حكموا عليها بالنهاية والموت!!

        حدث هذا مع فلسفة التنوير، وحدث مع الحداثة، وحدث أيضا مع العديد من المناهج والفلسفات... وحدث أخيرا مع الديمقراطية!!

        فلما وصلتنا مقولات فلسفة التنوير، وبدأ الجدال حولها في عالمنا الإسلامي، كان القوم قد خرجوا منها إلى مقولات الحداثة!!

        وما أن ثار الجـدل عندنا عن الحداثة، حتى داهمتنا من القوم مقولات ما بعد الحداثة!!

        والجدل قائم عندنا الآن عن الديمقراطية -كما سنرى في المبحث الموالي- والقوم يتحدثون عن نهاية الديمقراطية!! [ ص: 148 ]

        فهل علينا أن نكف عن ملاحقة هذه المفاهيم؛ لأننا لن نمسك بها حقيقة؟... ربما علينا أن نفعل ذلك!!

        ولكن مقتضيات البحث من جهة، ووجود الجدل حول هذه المفاهيم من جهة أخرى، يحتمان علينا الوقوف مع تحديد هذه المفاهيم، وإن وصلنا إليها متأخرين، وهذا ما سنفعله في هذا المبحث مع مفهوم الديمقراطية، فنبين مفهومها وأسسها.

        1- المفهوم:

        هل يمكن هكذا ببساطة أن نفتح قاموسا من قواميس المصطلحات السياسية، أو موسوعة فلسفية، أم سياسية، وننقل منه تعريف (الديمقراطية)، فنعطيها ذلك المفهوم المختصر الدائر على ألسنة الناس اليوم بأنها (حكم الشعب لنفسه بنفسه)؟

        ليس الأمر بهذه البساطة مع المصطلحات، التي غدت (مفاهيم)، تحكم مجالا من مجالات النشاط الإنساني ولاسيما الجانب السياسي منه.. فالإمساك بها صعب.

        وصعوبته تكمن في أمرين:

        - الأول: أن كل واحد من هذه المصطلحات و (المفاهيم)، له مسار تاريخي، نشأ في نقطة زمنية ما، وفي بيئة جغرافية ما، ولكنه بعد ذلك يفارق نقطته الزمانية والمكانية، ليتقلب في مراحل تاريخية وينتقل في بيئات جغرافية وحتى حضارية متباينة. [ ص: 149 ]

        - والثاني: أن هذا المصطلح، خلال مسيرته تلك، تضاف إليه (حمولات)، فيكتسب دلالات جديدة، قد لا تكون لها صلة بدلالة لحظة النشأة، بل قد لا يبقى من المفهوم إلا رسمه.

        وعليه، لا يمكن للتحديدات (القاموسية) أن تعطينا المفهوم الصحيح للديمقراطية؛ لأن القاموس يتعامل مع (المفهوم) في لحظة تاريخية معينة، بمعنى أنه إن أعطانا يعطينا صيغة محنطة لذلك المفهوم بحمولة دلالية أملتها لحظة تاريخية معينة بزمانها ومكانها.

        فيكون من الأسلم أن نتعامل مع المفهوم في تفاعلاته الاجتماعية.. وهذه هي الملاحظة المنهجية، التي سجلها كل من (العقاد) [1] و (مالك بن نبي) [2] في حديثهما عن الديمقراطية وعلاقتها بالإسلام، وإن اختلفت طريقة كل واحد منهما عن الآخر في التحليل.

        يقول العقاد، معرفا الديمقراطية: "إنها كما هو معلوم كلمة مركبة من كلمتين باللغة اليونانية معناها حكم الشعب، فماذا نفهم من حكم الشعب، أو من الحكومة الشعبية؟ هل هي الحكومة التي يتولاها الشعب نفسه؟ هل هي الحكومة التي يرتضيها الشعب ويطمئن إليها؟" [3] [ ص: 150 ]

        ثم يقوم العقاد بتتبع مسار هذا المصطلح ومدى تطابق مفهومه مع التجارب التاريخية، التي عرفتها الشعوب التي نشأ فيها هذا المصطلح [4] ، ليخلص إلى نتيجتين مهمتين على صعيد التعامل مع مفهوم (الديمقراطية):

        الأولى: أن الديمقراطية في صيغتها اليونانية القديمة، لم تكن (فلسفة) و (قيمة)، وإنما كانت إجراءات أو آليات تسير الشأن السياسي.

        الثانية: أن الديمقراطية لم يكن لها البعد الإنساني، الذي يضيفه إليها المتحدثون عنها اليوم، فهي لصيقة بالإنسان اليوناني.

        يقول: "من هذه الخلاصة السريعة نرى أن الديمقراطية كانت في اليونان القديمة من قبيل الإجراءات أو التدبيرات السياسية، التي تتقى بها الفتنة، ويستفاد بها من جهود العامة في أوقات الحرب على الخصوص، ولم تكن هذه الديمقراطية مذهبا قائما على الحقوق الإنسانية، أو منظورا فيه إلى حالة غير حالة الحكومة الوطنية" [5] .

        ويؤكد هذه الفكرة في موضع آخر بقوله: "فمن الواضح إذن أن الديمقراطية، قديمها وحديثها، لم تقم على الحق الإنساني المعترف به لكل إنسان، وأنها كانت إلى الضرورة العملية أقرب منها إلى المبادئ الفكرية والأصول الخلقية، وأنها لم تكن في الأمم القديمة تعني حكم الشعب، بمعنى [ ص: 151 ] مباشرة الحكم أو إنابة أحد من الشعب نفسه لولاية الأمور العامة، ولكنها كانت سلبية، يفهم منها أن الشعب منفرد بالسلطان أو غالب عليه" [6] .

        إذن، فاختـصـار الديـمـقراطية إلى صيغـة (حكم الشعب لنفسه)، وأنـها مذهب إنساني لا تؤيده التجربة التاريخية لهذا المصطلح نفسه.

        ولا يمكن بهذا مقاربة التعريف، إلا إذا تعاملنا معه في ضوء الملاحظة السابقة، وهي أن ننظر له في سيرورته التاريخية، وأن لا نكتفي بالمفهوم القاموسي المحنط... وقبولنا للصيغة التبسيطية، ينبغي أن يكون عملا إجرائيا، لا أكثر، دون أن ينسينا أن لفظ (الديمقراطية) مشحون بالتاريخ، ومن ثم فهو يحتوي على مضمون ثري، قد لا تساعد اللفظة القاموسية، أو الصيغة الإجرائية البسيطة على الإمساك به. [7]

        إن إهمال هذه الملاحظة - قراءة المصطلح في سيرورته التاريخية- هو الذي يجعل المفاهيم ملتبسة، ويشوش المقارنات التي نعقدها بين قيمنا وقيم الغرب، فنجد المواقف الحدية المتطرفة، سواء تلك المنادية بتطابق الإسلام مع الديمقراطية تطابقا تاما، أو تلك التي تنادي بالتنافر بينهما تنافرا مطلقا.

        أما الدراسات الجادة، فهي تلك التي وضعت حقيقة مصطلح الديمقراطية في سياقـه التاريخي، وانتبهت إلى حمولاته الدلالية، فميزت بين ما هو خاص وما هو إنساني عام في هذا المفهوم. [ ص: 152 ]

        ليست الديمقراطية إذن صيغة منجزة منتهية، ولا هي فكرة ولدت مكتملة، وإنما هي بناء له سيرورة تاريخية، بدأت ساذجة مع اليونان، وانتهت إلى ما انتهت إليه اليوم مع الحضارة الغربية، كنظام يروج له أصحابه على أنه السقف الذي انتهى إليه تاريخ الإنسان!!

        "إن النـظـام الديـمـقراطي ليس بـنـاء مصـطـنـعا من طـرف منـظرين, قانونيـين أو مفكرين سياسيين، إنه نتيجة تطور تاريخي بعيد المدى، استمدت كثير من قوانينه من الأنظمة السياسية التي سادت في أوروبا في القرون الوسطى ومن التراث الحضاري الإنساني، وتحولت تدريجيا حتى أصبحت أساسا لنظام جديد، مستفيدة من عناصر قديمة بما يتفق مع منطقها، وكان للتطور العلمي تأثيره في نمو الإنتاج وفي تقدم وسـائل النقل، وكذلك كان لاتصال الأوربيين -خلال حجهم وحروبـهم الصليبية- بالمسلمين أثر في انقلاب البنيان والقيم الاجتماعية، كان النظام الديمقراطي الحر ثمرتها، لقد كان لاتصال أوروبا بالعالم الإسلامي وقع الصدمة النفسية التي ساهمت في إيقاظها من غفوة الإقطاع وغيبوبة الدين الكنيسي، ودكتاتورية الملوك الارستقراطي" [8] .

        بعد وضع الديمقراطية في سياقها التاريخي، والانتباه إلى ما حدث لها من تطورات وإضافات، يمكننا النفاذ إلى جوهرها، وسنستعين هنا، بالتحليل العميق الذي قدمه مالك بن نبي، رحمه الله، للديمقراطية [9] . [ ص: 153 ]

        فهو يرى أن الديمقراطية ليست نصا قانونيا، يكتب في الدستور، يعطي حقوقا للشعب، أبرزها أن تكون السلطة بيده، فتلك آليات الديمقراطية وليس جوهرها.. أما جوهرها فهو شعور داخل الإنسان.

        وجوهر الديمقراطية يتحدد، عند بن نبي، من خلال ثلاثة وجوه:

        1- الديمقراطية كشعور نحو (الأنا) ينفي القابلية للعبودية.

        2- الديمقراطية كشعور نحو (الآخرين) ينفي الرغبة في الاستعباد.

        3- الديمقراطية كمجموعة من الشروط الاجتماعية والسياسية اللازمة لتكوين وتنمية هذا الشعور في الفرد.

        يقول: "فهذه الوجوه الثلاثة تتضمن بالفعل مقتضيات الديمقراطية (الذاتية) و (الموضوعية)، أي كل الاستعدادات النفسية التي يقوم عليها الشعور الديمقراطي، والعدة التي يستند عليها النظام الديمقراطي في المجتمع، فلا يمكن أن تتحقق الديمقراطية كواقع سياسي إن لم تكن شروطها متوفرة في بناء الشخصية وفي العادات والتقاليد القائمة في البلد" [10] .

        وهذا الشعور ليس بالأمر الهين، وإنما يتطلب بناء إنسان جديد، على أسس مفهومية جديدة، وبعد جهد تربوي شاق.. هذا هو المسار نحو البناء الديمقراطي الحقيقي إن نحن نظرنا إلى الديمقراطية في جوهرها، أما إن اكتفينا منها بالمظاهر، فما أسهل، نستورد النماذج الديمقراطية، وآلياتها (الدستور، [ ص: 154 ] المؤسسات، الانتخابات...) ثم نظل نراوح في أماكننا، يأكلنا الاستبداد، وتراودنا أحلام النهضة والرقي!!

        ونختم حديثنا عن مفهوم الديمقراطية، بتأكيد بن نبي أن الديمقراطية لن تأتي أكلها إلا إذا نظرنا إليها - وكذلك كان في مسيرتها الغربية - على أنها "مشروع تثقيف في نطاق أمة بكاملها، وعلى أنها منهج شامل، يشمل الجانب النفسي والأخلاقي والاجتماعي والسياسي" [11] .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية