الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الاستيعاب الحضاري للقيم الإنسانية

        الأستاذ / عبد العال بوخلخال

        أولا: القيم السياسية:

        وهي ذات طبيعة نظرية، معيارية، تشكل في الحقيقة أهم المرتكزات الأخلاقية التي جاء بها الإسلام، من أجل تنظيم حياة الإنسان، ولكننا هنا سنتناولها انطلاقا من الزاوية السياسية، وفي ضوء دورانها كما قلنا حول جوهر النظرية السياسية في الإسلام (الإنسان وكرامته).

        1- الحرية:

        "الشارع متشوف للحرية" [1] ، هذه قاعدة من قواعد الفقه الإسلامي، وهي تعبر بحق عما نريد قوله في هذا المقام، وهو أن الإسلام وانسجاما مع الكرامة التي أقرها للإنسان، جعل تلك الكرامة مقترنة بالحرية، الحرية بكل أنواعها، حرية المعتقد والفكر والتعبير والتدبير، وهذا ما تناوله العلماء والمفكرون المسلمون، على اختلاف عصورهم وتنوع السياقات التي تحدثوا [ ص: 138 ] فيها، فإذا تجاوزنا النقاشات الفلسفية والكلامية بين الفرق قديمـا، فإننا نـجد في المعاصرين من تناولها من الزاوية الأصولية أو الفقهية أو المقاصدية [2] ، ومنهم من تناولها من الزاوية السياسية وحقوق الإنسان [3] ، وكلهم خلصوا في النهاية إلى أن الحرية من مقتضيات الكرامة الإنسانية، أقرها بل أوجبها الإسلام، وحرم كل صنوف الاعتداء عليها.

        ونكتفي هنا بنقل بعض ما ذكره الشيخ (علال الفاسي)، وهو يناقش (الحق في الحرية) من جميع جوانبه، ففي كلامه ما ينم على رؤية أصولية مقصدية، وإدراك لارتـباط الحـرية في المجـال السـيـاسي بكرامة الإنسان، كما نحاول أن نبينه في هذا العنصر.

        يقول وهو يحدد المقدمات الفلسفية العامة: "الحرية الإسلامية جعل قانوني، يتفق مع إنسانية الإنسان وفطرته، وليست حقا طبيعيا يستمد من غريزة الرجل المتناقضة، فالإنسان ما كان ليصل لإدراك حريته على الوجه الذي أراده الإسلام لولا نزول الوحي، ولولا الرشـد الديني الذي جـاء به القـرآن... إن الحرية لا تعني أن يفعل الإنسان ما يشاء ويترك ما يريد، فذلك ما يتفق مع طبيعة شهوته ولا يتفق مع طبائع الوجود كما ركب عليه، ولكنها تعني أن يفعل الإنسان ما يعتقد أنه مكلف به وما فيه الخير لصالح البشر أجمعين.. وإيمان [ ص: 139 ] الإنسـان بأنه مكلف هـو أول خـطـوة في حـريته؛ لأنـهـا تـحـمـل المسـؤوليـة، التي ستناط به" [4] .

        أما عن خـصوص الحـرية السياسية فيـقول: "الحرية السياسية الإسلامية، لا يحدها شيء خارج عنها، وإنما تحدها الحرية نفسها؛ لأنها جزء من خلق الإسلام". [5]

        وثمة نقطة نشير إليها قبل الانتقال إلى القيمة الموالية، وهي أن الحرية المنفصلة عن الكرامة الإنسانية الحقة تتحول مع مرور الزمن إلى شر أنواع العبودية.

        وهذا ما عرفته التجربة الغربية، حينما حررت الإنسان من كل شيء، من سلطان الكنيسة ورجال الدين، ثم من سلطان الله... هكذا زعمت، فإذا بها توقعه في عبوديات لا حصر لها!!

        أما النظرية الإسلامية، فهي تجعل من العبودية لله الحق بابا للحرية، المدعمـة لـكرامة الإنـسان، أولا، قـبل أن تـكون جزءا أو حقا من حقوق الحياة السياسية.

        ولنختم حديثنا عن الحرية بلفتة لطيفة للشيخ علال الفاسي، ينبه فيها إلى تلازم العبودية مع الحرية فيقول: "قال الله تعالى: ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة * رسول من الله يتلو صحفا مطهرة * فيها كتب قيمة ) [ ص: 140 ] (البينة:1-3)... والعجيب أن المفسرين قاطبة لم يدركوا قيمة هذه الآية؛ لأنهم لم يهتدوا للمراد بالانفكاك فيها، مع أن أقـرب دلالته اللغوية هي التحرير، فلم يكن الكفار منفكين، أي متحررين من ما عبدهم لغير الله إلا بعد أن جاءتهم الحجة القاطعة، التي ليست غير رسول الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة تخاطب العقل وتدعو إلى التفكير وتنادي بالحرية" [6] .

        2- العدل:

        وهذه هي القيمة الثانية، التي تسعى النظرية السياسية في الإسلام لتحقيقها؛ لأنها مما يعزز كرامة الإنسان، فلا شيء أمر على الإنسان وأفسد لكرامته من غياب العدل وسيادة الظلم.

        فالله -تعالى- (عدل)، وحث عباده على العدل، قال سبحانه: ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ) (النساء:58).

        والمقام لا يسمح بأن نسوق الشواهد من القرآن والسنة على قيمة العدل [7] ، وكيف أنها ارتبطت في الممارسة الإسلامية، في عصر النبوة أو الخلافة الراشدة، في شقها السياسي، بمفهوم كرامة الإنسان. [ ص: 141 ]

        3- المـساواة:

        وهذه القيمة أيضا، مما نوه بها الإسلام، وجعلها في محددات نظريته السياسية.

        و قد حسمت المسألة قبل ذلك عقديا، بنفي كل أشكال التمايز العنصري أو الطبقي بين بني الإنسان: ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ) (النساء:1).

        وقال صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: ( يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى ) [8] .

        وقد بين الإسلام كل مجالات المساواة، وحرص حرصا شديدا على إزالة موانعها، دون أن يمنع الناس من التفاوت المشروع، الناتج عن الكسب الإنساني المقبول، فإن نفي هذا التنوع، وإقحامه في دائرة المساواة، من الأخطاء التي تعطل الحياة، وتجعل من المساواة ذاتها وهما لا حقيقة، بل طريقا للظلم والتعدي على الحقوق.

        يقول الشيخ الطاهر بن عاشور، بعد أن أفاض في بيان مفهوم المساواة: " إن الإسلام دين قوامه الفطرة، فكل ما شهدت الفطرة بالتساوي فيه بين الناس، فالإسـلام يـرمي فيه إلى المسـاواة، وكل ما شهـدت الفطـرة فيه [ ص: 142 ] بتفـاوت المـواهب البشـرية فيه، فـالإسـلام يعطي ذلك التفاوت حقه بمقدار ما يستحقه" [9] .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية