الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الاستيعاب الحضاري للقيم الإنسانية

        الأستاذ / عبد العال بوخلخال

        2- مقتضيات الخاتمية:

        إذا ربطنا مفهوم خاتمية الرسالة، بما نحن فيه من بيان خاصية الاستيعاب الحضاري، التي نرى أن الإسلام يتميز بها، فإن هذا المفهوم يقتضي ثلاثة أمور، كي تـحـقـق هذه الخـاتـمية دورها في استمرار الحق مساوقا لحركة الإنسان في هذه الدنيا.

        وهذه المقتضيات، هي ما ينبغي أن تكون عليه الرسالة الخاتمة، وهي:

        أ- الاستمرارية.

        ب- الاستيعاب في ظل الدوام.

        ج- الشمولية.

        وسنشرح في هذا المقام العنصرين الأولين، ونرجئ العنصر الثالث كي نفصل فيه القول في مبحث مستقل.

        أ- الاستمرارية:

        لا يمكن لرسالة أن تتصف بالخاتمية، إلا إذا كانت متصفة بالدوام، أي عـدم الانقـطاع أو التحديد زمانيا، بل يجب أن تكون منسابة مع الزمن، ما بقي هذا الزمن وعاء لحركة الإنسان في هذه الدنيا.

        وهذا ما نجده في الشريعة الإسلامية، وقد تجلى ذلك في مظهرين بارزين:

        الأول: الانعتاق من قيد الزمن: ونعني به عدم خضوع وانحصار الرسالة الخاتمة في إطار الزمن التاريخي، الذي نزلت فيه. [ ص: 42 ]

        فالقرآن تنزل - كما هو معلوم - في زمان ومكان محددين، وتساوق التنزيل فيه مع أحداث مرتبطة بزمن التنزيل.. بيد أنه عاد في النهاية لينعتق من اللحظـة التـاريـخية التي نزل فيها؛ لأنـها في الحقيقة لم تكن مقصودة لذاتها، وإنما كانت (مسرحا) لتظهر من خلاله الرسالة الخاتمة.

        وهذه الفكرة، يدركها كل من فهم المغزى من ترتيب النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن قبل موته... فنحن نعلم أن ترتيب التلاوة غير ترتيب النزول، وأن ترتيب التلاوة كان توقيفا من النبي صلى الله عليه وسلم [1] .

        فترتيب النزول يبدأ من ( اقرأ ) ، وينتهي بقوله تعالى: ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) (البقرة:281) [2] .

        وترتيب التلاوة يبدأ من (الفاتحة) وينتهي بسورة (الناس).

        فقد كان الترتيب الأول دلالة على ارتباط القرآن بلحظة النزول، بأحداثها وشخوصها وظروفها. [ ص: 43 ]

        وكان الترتيب الثاني، خروجا للقرآن من أسر اللحظة التاريخية، وانعتاقا من قيد الزمن الخاص، ليعود القرآن مرة أخرى خطابا للإنسان بالمطلق، في كل زمان ومكان، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب [3] .

        خروج القرآن إذن عن الظرف التاريخي، المصاحب لعصر التنزيل، يأتي انسجاما مع الخاتمية، التي تتطلب الدوام، إذ لن يأتي بعد الوحي الخاتم وحي آخر، فكان لابد أن يكون صالحا لكل زمان، ولن يتأتى له ذلك إلا بالتحرر من لحظة التنزيل.

        الثاني: انبناء الوحي الخاتم في خطابه للإنسان، على صفة ثابتة تضمن له الدوام: بحيث تكون هذه الصفة مرتكز الخطاب الإلهي الأخير للإنسان، مطلق الإنسان.

        وهذا ما كان بالفعل، حين انبنى الوحي الخاتم على مفهوم (الفطرة)، فجاء التنبيه في القرآن إلى أن هذا الدين هو دين الفطرة، قال تعالى: ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (الروم:30).

        فالدين الوارد في الآية هو الإسلام، الدين الخاتم بجميع أحكامه، عقيدة وشريعة وخلقا... [ ص: 44 ]

        والفطرة هي: "الخلقة والهيئة، التي في نفس الإنسان، التي هي معدة ومهيئة لأن يميز بها مصنوعات الله، ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه"... أو هي بتعبير أدق:

        "النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق، والفطرة التي تخص نوع الإنسان هي ما خلقه الله عليه جسدا وعقلا، فمشي الإنسان برجليه فطرة جسدية، ومحاولته أن يتناول الأشياء برجليه خلاف الفطرة الجسدية، واستنتاج المسببات من أسبابها والنتائج من مقدماتها فطرة عقلية، ومحاولة استنتاج أمر من غير سببه خلاف الفطرة العقلية وهو المسمى في علم الاستدلال بفساد الوضع، وجزمنا بأن ما نبصره من الأشياء هو حقائق ثابتة في الوجود ونفس الأمر فطرة عقلية، وإنكار السوفسطائية ثبوت المحسوسات في نفس الأمر خلاف الفطرة العقلية" [4] .

        فنحن أمام (دين) و (فطرة)،... والصياغة في الآية تجعل من أحدهما بديلا للآخر، فيكون المراد بالفطرة الدين وهو "الإسلام"، كما قال ابن عباس وجماعة من المفسرين [5] .

        ومعنى "فطر الناس على الدين الحنيف أن الله خلق الناس قابلين لأحكام هذا الدين، وجعل تعاليمه مناسبة لخلقتهم، غير مجافية لها" [6] . [ ص: 45 ]

        "وكون الإسلام هو الفطرة، وملازمة أحكامه لمقتضيات الفطرة صفة اختص بها الإسلام من بين سائر الأديان، في تفاريعه، أما أصوله فاشتركت فيها الأديان الإلهية، وهذا ما أفاده قوله: ( ذلك الدين القيم ) . فالإسلام عام خالد مناسب لجميع العصور وصالح لجميع الأمم، ولا يستتب ذلك إلا إذا بنيت أحكامه على أصول الفطرة الإنسانية ليكون صالحا للناس كافة وللعصور عامة، وقد اقتضى وصف الفطرة أن يكون الإسلام سمحا يسرا؛ لأن السماحة واليسر مبتغى الفطرة" [7] .

        هكذا إذن اقتضت حكمة الله ـ تعالى ـ أن تبنى الشريعة الخاتمة على الفطرة، لا على وصف آخر من أوصاف الإنسان، كي يتأتى لها أن تستمر مسايرة للإنسان في جميع أطوار مسيرته الحضارية، لأنها تخاطب فيه دوما شيئا مشتركا، ثابتا، لا يختلف باختلاف الزمان والمكان أو الثقافات والعادات...

        قد ينحرف الإنسان عن فطرته، بسبب عوامل التنشئة الأولى، وقد يعلو هذه الفطرة ما يعلوها من غبار الانحرافات والضلالات، ولكنها أبدا لا تزول، وإنما يخرج تعامل صاحبها مع الحق عن الحالة السهلة الميسرة، فيحتاج مع حالته الجديدة إلى مزيد جهد من أصحاب الحق، لإزالة ما اعترض الفطرة من [ ص: 46 ] عوائق، وما حال بينها وبين الحق من حواجز، بإقامة الأدلة ونظم الحجج.... أو قد تزول هذه الحواجز في لحظات الشدة، التي يقع فيها الإنسان، حين ينظر حوله، فتتهاوى الأوهام التي تحيط به، فيرتد إلى فطرته طالبا العون من ربه، مذعنا للحق الذي يدعو إليه [8] .

        ب- الاستيعاب في ظل الدوام:

        نعني بهذا العنصر، أن الشريعة الخاتمة، وقد حققت المقتضى الأول لخاتميتها، وهي كونها ضمنت الاستمرار من خلال (الانعتاق من الزمن وانبنائها على الفطرة)، تقتضي أمرا آخر لا يقل أهمية عن الأول، وهي أن تكون بأحكامها وتعاليمها (عقيدة وشريعة وخلقا) مستوعبة للسيرورة الحضارية للإنسان ... وهذا ما سنفصل فيه القول في هذا العنصر.

        فلا شك أن الحضارة هي أرقى أشكال الحياة الإنسانية، إذ من خلالها تتجلى قدرة الإنسان على تفجير المواهب، التي منحها الله تعالى له، من أجل الوفاء باحتياجاته المادية والروحية... من أجل هذا كانت الحضارة تعبيرا عن إنسانية الإنسان، بل بها تتحدد تلك الإنسانية، فترتفع أو تنخفض، بمقدار ارتفاعه أو انخفاضه في سلم الحضارة. [ ص: 47 ]

        فالحضارة، خاصية إنسانية بامتياز، لا يمكن أن يخلو منها مجتمع، إلا إذا جوزنا أن يخلو هذا المجتمع أو إنسانه من رؤية كونية ناظمة لعلاقاته مع العوالم التي يعتقد بوجودها، عالم المادة، وعالم ما وراء المادة.

        وقد تجاوزت الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية، تلك النظرة القاصرة، التي تتصور (الحضارة) امتيازا يتمتع به إنسان دون آخر، أو جنس دون جنس... تلك كانت نظرة المستعمرين المنطلقين من عقدة المركزية الأوروبية، والذين قسموا العالم إلى مركز (أوروبا) متحضر، وهامش (الآخر) متخلف، وبرروا حملاتهم الاستعمارية بسعيهم لتحضير الشعوب الهمجية المتخلفة!!!

        بيد أن الدراسات التالية على تلك النزعات الأولى، قدمت - ولا تزال تقدم- الأدلة القاطعة على أن الحضارة توجد حيث يوجد الإنسان [9] ، وأن الحكم بالتخلف على مجتمع ما، بمعنى خلوه من الحضارة، حكم بعيد عن الدقة العلمية، لأنه لا يعدو أن يكون حكما نسبيا، نقارن فيه بين مستوى حضاري وآخر، أو حكم قيمة، نتعسف من خلاله في تطبيق معاييرنا وقيمنا على (الآخر).

        فالحضارة توجد ما وجد الإنسان، والاختلافات بين الحضارات، لا تؤدي إلى نفي هذه الظاهرة من حياة البشر، وإنما أقصى ما يمكن فعله، أن نرتبها في [ ص: 48 ] سلم تصاعدي أو تنازلي، وهذا ـ كما قلنا ـ حكم قيمة، ولا ضرر أن يختلف الناس في تقييم الظواهر، ما داموا يسلمون بوجودها.

        ثم الحضارة - في جوهرها - وإن اختلف العلماء في تحديد مفهومها، فكرة مركزية، عنها يصدر الإنسان وإليها يعود، في تبني رؤية ما للحياة بكل تفاصيلها، وعلاقاتها.

        و"الفكرة" في حضارة ما - كما سنؤكد لاحقا - هي ما يعطيها تـمـيزها أو درجتها في سلم التحضر، وليست أبدا التجليات المادية والتي تؤول - مهما تعددت وتفنن صانعوها في إبداعها - إلى مفهوم "الشيء" [10] .

        والإسلام، منظورا إليه من الزاوية الحضارية، يعد - بحق - الفكرة الأساس في نشأة الحضارة الإسلامية، إذ شكل نقطة البدء في إخراج الإنسان العربي من طور البداوة إلى طور الحضارة، أو بتعبير القرآن، من الظلمات إلى النور... وإنها لنقلة بعيدة، تدفع إلى التأمل والبحث في أسرار هذا الدين، الذي صنع من البدوي الساذج، إنسانا آخر، ومن تلك الحياة الدائرة مع التفاهات، حياة مليئة بالحياة، مانحة للحضارة، منتجة للقيم.

        الإسلام هنا "فكرة"، قدمت للإنسان - وليس للعربي فحسب - مقومات التحقق بإنسانيته، ليكون كائنا متحضرا، جديرا بالخلافة وعمارة الأرض، ولذا وجدنا الخطاب القرآني - كما بينا سابقا - يتوجه إلى الإنسان، ينظم علاقاته مع عالمه المنظور، وعالمه غير المنظور، يقدم له التصور السليم عن [ ص: 49 ] (الله) وعن (ذاته) وعن (الكون)... وهي المفردات التي لا تخلو منها حضارة، وبها أو عليها تتآلف أو تختلف الحضارات.

        فليس غريبا - وقد جعل الله الإسلام رسالته الخاتمة - أن يزوده في صورته النهائية، بما يمكن أن يـجعلـه مسـتـوعبا لأقـصى درجات التحضر التي يمكن أن يبلغها الإنسان، مطلق الإنسان، بعيدا عن الشروط التاريخية التي أحاطت بلحظة نزول القرآن، في تلك البيئة البدوية، وفي حـدود السقف الحضاري الذي بلغته حضارات تلك الفترة.

        جاء الإسلام متعاليا عن لحظة نزوله التاريخية، كي يبقى منفتحا لاستيعاب التجربة الإنسانية في آفاقها البعيدة... البعيدة في المكان والزمان والتوقعات.

        ونحن إذا تأملنا، سنجد تعاليم الإسلام (عقيدة وشريعة وخلقا)، جاءت كلها مراعية لتلك الآفاق المتوقعة في سيرورة الإنسان الحضارية... فكما كانت الحضارة تعبيرا عن تكامل إنسانية الإنسان، كان الإسلام كذلك، بل زاد عليها، بأن كان مستوعبا لكل تطور حضاري قد يحققه الإنسان.

        وقد كان من مقتضيات ختم النبوة، أن تجئ تعاليم الرسالة الخاتمة ضامنة للهداية الدائمة، والترشيد المستمر، فما عاد الإنسان -وقد بلغ منتهى نضجه- في حاجة إلى نبي جديد ومعجزات تخرق قوانين المادة، وإنـما هو في حاجـة إلى (قيم)، ترشد مسيرته وتقيه من ضلالات الفلسفات المادية، وطغيان الاستعمال الخاطئ لثمرات العلم وكشوفاته في عالمي الآفاق والأنفس... لم يعد إنسان [ ص: 50 ] اليوم يطالب بمعجزة مادية، فما ترك العلم مجالا للمعجزات، فكل فتوحات العلم معجزات أو كالمعجزات!!... وإنما يطلب سياجا قيميا، يمنع مسيرته من التيه في صحراء المادة والخواء!!!

        وهذا ما تكفل به الإسلام وشريعته الخاتمة، إذ جاءت - كما قلنا - تعاليمها منسجمة مع ختم النبوة، وبلوغ العقل مداه من النضج.

        فكانت عقيدته، ذات بعد تجريدي، بعيدة عن كل تجسيم أو تجسيد، معقولة في مضامينها، مفسحة للعقل مجالا كي يفهم ويعرض ويستـدل، فهي - بشكل أو بآخر - لم تخرج عن الآفاق العقلية التي وصل إليها عقل الإنسان المعاصر، ولا عن تلك الآفاق الممكنة مستقبلا.

        فمضامين العقيدة الإسلامية وحقائقها، صيغت بكيفية، لا مجافاة بينها وبين حقائـق العـلم، ولا تنافـي بينها وبين مناهجـه، بل هي تفتح للإنسان - خصوصا في مجال الاستكشاف والاستدلال - مجالين واسعين، هما أساسا الساحة التي يتحرك فيها العلم المعاصر، أعني مجال (الكون) ومجال (النفس)، أو بتعبير القرآن مجالي (الآفاق ) و (الأنفس)، قال تعالى: ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) (فصلت:53)...

        فالإنسان، كان ولا يزال وسيظل، سابحا في فضاءات الآفاق والأنفس، باحثا عن الحق، مستكشفا للآيات... والعقيدة الإسلامية، بما هي جزء من الرسالة الخاتمة، توجه عقله ليربط الآيات بالحق، والآية المذكورة أعلاه، تؤكد أن (الإراءة = سنريهم) تستوعب المستقبل، وكل جهد إنساني سيأتي به البحث في [ ص: 51 ] تلك الآفاق والأنفس. وها نحن أولاء، نرى مصداق هذه الآية، فمنذ انطلق العقل الغربي في ثورته المعرفية، وهو يطرح على العقائد المتوارثة ما يزلزل ثوابتها وينقض مسلماتها... وحدها العقيدة الإسلامية وقفت ثابتة، تتحدى كشوفات العلم، فتتطابق مع صحيحها، وتلقي بظلال الشك على شبهاتها.

        ما زالت قضايا من مثل (خلق الكون) و (خلق الإنسان)، وفقا للتصور القرآني، صامدة في وجه تلك النظريات أو الفرضيات، التي يطرحها العلماء الماديون في ذات المجال [11] .

        فالتصور الإسلامي لهاتين القضيتين الأساسيتين في حياة الإنسان، يأتي واضحا، قابلا للتعقل، بل مستوعبا للنتائج الصحيحة التي توصل إليها العلم، مبقيا الباب مفتوحا لمزيد من الكشوفات، التي قد يأتي بها المستقبل.

        في حين لم تصمد الرؤية (الإنجيلية)، و (التوراتية) أمام طوفان الحقائق العلمية، ولعل هذا ما يفسر الغرور الذي أصاب العلماء الماديين، حين ظنوا تجاوز (العلم) (للدين)، وأن التفسير الديني لم يعد متوافقا مع التفكير العلمي الحديث، وتلك من أخطائهم القاتلة، التي جلبت للبشرية مآسي عديدة، فهم إذ حصروا نظرتهم في موروثهم الديني (اليهودي المسيحي)، حملوا الدين الحق جريرة ما وجدوه من تناقضات واختلالات فيما يزعم المسيحيون واليهود أنها (كلمة الله)... وكل من أفلت من هذه السقطة المريعة، ووسع دائرة نظره، [ ص: 52 ] فـنـظر في الـقـرآن، وتبين التـصـور الإسـلامي لقضايا الخلق والوجود، أدرك أن الإسلام يحمل بحق (كلمة الله) التي لا يمكن أن تتناقض مع ما يقرره صحيح العلم [12] .

        بل حتى الجانب الغيبي في العقيدة الإسلامية، جاء قريبا من عقل الإنسان المعاصر... إذ الغيب في القرآن غيب يمكن تعقله، وإن لم يستطع الإنسان تصوره، أي يمكن للعقل أن يحكم بوجوده وإن لم يستطع أن يرسم له صورة... وفي أكثر من مسألة، نجد القرآن الكريم، يطلب من الإنسان، الذي يستبعد بعض الحقائق الغيبية، أن يتأمل فيما يحيط به من عالم الحس، كي يكتشف أن الغيب الذي يستبعده يرى مثله أو ما يشبهه، ولو ظاهريا، يتكرر أمام ناظريه، مثل استدلال القرآن على إمكان الحشر (وهو أمر غيبي)، بظاهرة انبعاث الحياة مع نزول المطر (وهو أمر محسوس متكرر)، يقول الله تعالى: ( ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير ) (فصلت:39). [ ص: 53 ]

        وعندما نستمع إلى العلماء - أقصد علماء الكونيات - يحدثوننا عن تصوراتهم النظرية، ندرك جيدا هذا المنهج الذي ينبه إليه القرآن الكريم... فعالم الإمـكان النظري، غير ما هـو واقـع بالفعل، فالعقـل العلـمي لم يعد منحصرا - كما كان في الأجيال السابقة وفي عصور الأنبياء السابقين - في نطاق ما هو موجود، بل من الممكن أن يضعوا تصورا نظريا صحيحا، ولكن لا تسعفهم إمكانات الواقع لتجسيده، وقد يمكنهم المستقبل من ذلك... فالمعنى هنا، أن العقل العلمي قلل من ظاهرة (الاستبعاد)، التي كانت متحكمة في عقول الأجيال القديمة، حين كانوا يشترطون قبول كل فكرة، بضرورة تحققها عيانا [13] ... والقرآن إذ يحدثنا عن الغيب الذي سيحدث مستقبلا، يأتي منسجما مع العقل العلمي، الذي يمارس هذا المنهج في مجالات معرفية متعددة.

        وكانت شريعته [14] ، وهي الشق الثاني في بنية الإسلام، متوافقة أيضا مع التطور الحضاري، الواقع أو المتوقع، من الإنسان.

        فالشريعة باعتبارها معنية بالشق العملي من الحياة، تكون أكثر عرضة من العقائد للتأثر بمستجدات الواقع... بيد أن الشريعة الإسلامية جاءت حاملة لمقتضيات ختم الرسالة، شأنها في ذلك شأن العقيدة - كما بيناه في الفقرات [ ص: 54 ] السابقة - بل نجدها أكثر استجابة للتطور والتبدل، على اعتبار ما يميز الجانب التشريعي العملي (الفقهي) على الجانب النظري (العقدي).

        فكما هو معلوم، فإن من طبيعة المجال العقدي الثبات في المضامين والتطور في طرق العرض ومناهج الاستدلال، فلا يمكن أن نضيف إلى العقيدة (مفردة) جديدة، خارج الأركان الستة التي حددتها النصوص الشرعية، ولكن بالإمـكان - وهذا هو المطـلوب - التنويع في أسـاليب العرض وبناء الأدلة، بما يتوافق مع تحديات الواقع وأسئلته.

        أما مجال (الشريعة)، فالإضافة فيه تمس أيضا جانب المضامين، فالواقع يأتي للناس، في أحوالهم العملية، كل يوم بجديد، ويحدث لهم من الأقضية بقدر ما أحدثوا من الفساد أو الصلاح في شأن المعاش، ويقع بالناس نوازل لم تكن في حسبان أحد، فلا غرابة أن نجد نطاق الشريعة يتسع ليقدم الأجوبة المناسبة عن أسئلة الواقع المتحرك [15] .

        هذه من الحقائق التي يصادفها الدارس للشريعة، وما يهمنا هنا، هو بيان مدى قدرة الشريعة (بما هي ضوابط للواقع العملي)، على الوفاء بحاجات الإنسان، مهما كان تطوره الحضاري ومهما كانت الأقضية الجديدة التي تطرأ عليه.

        إن انقسام الشريعة إلى أصول ثابتة وفروع متغيرة، هو من هذا القبيل، وإن رجوع الجزئيات التشريعية إلى قواعد كلية في شتى مجالات التشريع، هو من [ ص: 55 ] هذا القبيل أيضا، ثـم إن انبناء الأحـكام الـشـرعية على مـقـاصـد كلية، مرعية في الشريعة ككل، وفي كل باب من أبوابها، هو من هذا القبيل.

        فالدارس المنصـف، لن يـجـد الشريعة كتلة صماء من الأحكام الثابتة، وإنما سيدهشه أن يجد ثباتا ومرونة، يحيطان بالواقع في ثباته وتغيره، ويستوعبان شؤون الحياة كلها، ويؤكدان أن هذه الشريعة الخاتمة لم تأت لبيئة دون أخرى، ولا لإنسان دون آخر، بل هي لكل البيئات الحضارية، ولكل بني البشر، مهما تنوعت ظروف الحياة لديهم، إذ الجوهر في النهاية واحد، هو جوهر الإنسانية، وهو ذاته ما جاءت الشريعة لتخاطبه.

        وهـذا الشمـول المستوعب هو ما سنعـود لتفصيل الـقـول فيه لاحـقا، وإنما نكتفي هنا بالإشارة، إذ نحن في سياق بيان حضارية الإسلام، من حيث إحاطته بشروط التحضر الإنساني، وقدرته على استيعاب التجربة الإنسانية، منذ لحظة نزول الوحي إلى نهاية الدنيا.

        فالشريعة إذن، قادرة على استيعاب المتغيرات الحادثة في حياة الإنسان، بما فيها من تكامل بين الثبات والتغير، وبما فيها من رؤية مقصدية حاكمة للتشريعات في كلياتها وجزئياتها، ونضيف أمرا آخر بما فيها من تنوع لمصادر التشريع، بين مصادر أصلية، تكاد تعنى بالكليات، وبين مصادر فرعية تكاد تعنى بالمتغيرات الواقعية... فتلك المصادر في تنوعها وتعددها تؤشر، بحق، على إمكانية الشريعة في أن تصاحب الإنسان، وتقدم له العلاجات المناسبة لكل [ ص: 56 ] حالاته الإنسانية... وهذا ما يمكن أن نعنيه إذا تحدثنا عن صلاحية التشريع لكل زمان ومكان، وتعاليها عن الشروط التاريخية للحظة التنزيل.

        والجانب الأخلاقي، أيضا لم يبعد عن هذا المنطق، إذ جاءت الأخلاق الإسـلامية منسجمـة مع الخـاصيـة الاستيعابية لسـيرورة الإنسان.. فهي تمثل - كما العقيدة والشريعة - أخلاقا حضارية.

        نلمس ذلك في الصفة (الإنسانية) التي طبعت الأخلاق الإسلامية... الإنسانية السامية، التي تلامس جوهر الإنسان؛ لأنها منطلقة أساسا من الدين الحق، الذي يمثل فطرته.

        فكانت أخلاقا مطلقة، متجاوزة للسقف الحضاري الذي نزل فيه القرآن، أعني أنها انتقلت من أخلاق (عربية) إلى أخلاق (إنسانية)، وهذا ما يجعل الإنسان، مهما بلغ من أخلاق، تمليها عليه حضارته، يستقر به المقام في نهايتها عند حدود ما رسمته أخلاق الإسلام... ثم تضع أمام الإنسان سقفا أبعد من الحدود المادية، التي حبسته فيها الأخلاق المعاصرة.

        فالخلق، بـهـذا المـنـظار الإسلامي، بإنسانيته ومطلقيته وموضوعيته، قادر - كما العقيـدة والشـريعـة - على الوفاء بحاجة الإنسان، مطلق الإنسان، مهما كانت ظروفـه الحـضـارية، بل يقـدم له أرقى ما يمكن أن يصل إليه من سمو أخلاقي. [ ص: 57 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية