إذا لم يجد بدا من الانتقال من بلد إلى بلد ، فلا ضمان عليه [ ص: 122 ] إذا هلكت ، وهذا بناء على أصلنا ; فإن عند إطلاق العقد ، " وعند للمودع أن يسافر الوديعة " : ليس له ذلك ; لأن فيه تعريض المال للهلاك . قال - صلى الله عليه وسلم - { الشافعي : المسافر ومتاعه وماله على قلت إلا ما وقى الله - تعالى - } . وليس للمودع تعريض الوديعة للمتلف ، وهذا بخلاف الأب والوصي والمضارب ; فإنهم يسافرون للتجارة وطلب الربح .
ألا ترى أن لهم أن يسافروا بالمال من طريق البحر . وليس للمودع حق التصرف والاسترباح في الوديعة ; ولهذا : لا يسافر من طريق البحر ، يوضحه : أن مقصود المودع أن يكون ماله في المصر محفوظا ، يتمكن منه متى شاء ، ويفوت عليه هذا المقصود إذا سافر المودع به . وحجتنا في ذلك : أن الأمر مطلق ، فلا يتقيد بمكان دون مكان ، كما لا يتقيد بزمان ; وهذا لأن من يراعى أمره في شيء يراعى إطلاق أمره ، كأوامر الشرع ، والأمكنة كلها في صفة الأمر سواء ، إنما الخوف من الناس - دون المكان - فإذا كان الطريق أمنا ، كان الحفظ فيه كالحفظ في جوف المصر . ومراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بيان الحالة في ذلك الوقت . فإن المسلمين كانوا لا يأمنون خارج المدينة ; لغلبة الكفار .
ألا ترى أنه فيما أخبر من الأمر بعده قال : يوشك أن تخرج الظعينة من القادسية إلى مكة لا تخاف إلا الله - تعالى - والذئب على غنمها . ولا يجوز أن يتقيد مطلق أمره بالعرف والمقصود ; لأن النص مقدم على ذلك ، والمقصود مشترك ، فقد يكون قصده : أن يحمل المال إليه ، خصوصا إذا سافر إلى البلد الذي فيه صاحب المال ، ولأن المودع لا يتعذر عليه الخروج للسفر في حاجته بسبب قبول الوديعة ، وإذا خرج : فإما أن يدفع الوديعة إلى غيره ; فيكون تاركا للنص ; لأنه أمره أن يحفظ بنفسه ، وإما أن يحمل مع نفسه ; فيكون مخالفا لمقصوده ، ولا شك أن مراعاة النص أولى من مراعاة المقصود ، ولهذا قال : ماله حمل ومؤنة ، وما لا حمل له ولا مؤنة في ذلك سواء - بعدت المسافة أو قربت - لمراعاة النص ، وهو القياس . واستحسن أبو حنيفة رحمه الله فقال : إذا كان له حمل ومؤنة ، فليس له أن يسافر به ; لأنه يلزم صاحبها مؤنة الرد ، ولا ولاية له عليه في إلزام المؤنة إياه . واستحسن أبو يوسف رحمه الله فقال : إذا قربت المسافة فله أن يسافر بها ، وإذا بعدت المسافة فليس له ذلك ; لأنه يعظم الضرر والمؤنة على صاحبها عند بعد المسافة ، إذا أراد ردها . محمد