الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
فإذا انشق الكيس في صندوقه ; فاختلط بدراهمه : فلا ضمان عليه ; لانعدام الصنع الموجب للضمان عليه ، ولو يمكن تقصير ، فذلك من المودع بأن جعل دراهم الوديعة في كيس بال ، ولكن المختلط مشترك بينهما بقدر ملكهما ، فإن هلك بعضها هلك من مالها جميعا ويقسم الباقي بينهما على قدر ما كان لكل واحد منهما ; لأنه ليس أحدهما بأن يجعل الهالك من نصيبه بأولى من الآخر ، والأصل في المال المشترك إذا هلك شيء منه : أن ما هلك هلك على الشركة ، وما بقي على الشركة باعتبار أن الهالك يجعل كأن لم يكن .

( وإن ) فعل ذلك إنسان ممن هو في عيال المودع - من صغير ، أو كبير ، أو مملوك أو أجنبي - فلا ضمان فيه على المستودع ; لانعدام الخلط منه حقيقة وحكما ، فإن فعل من في عياله كفعله فيما هو مأمور به من جهته صريحا ، أو دلالة ، وذلك لا يوجد في الخلط ، ولكن الضمان على الذي خلطها بمباشرة الفعل الموجب للضمان . والصغير والكبير في ذلك سواء ; لأن الصغير مؤاخذ بضمان الفعل ، فإن تحقق الفعل بوجوده : لا ينعدم بالحجر بسبب الصغر . ثم الخلط أنواع ثلاثة : ( خلط ) يتعذر التمييز بعده - كخلط الشيء بجنسه - فهذا موجب للضمان ; لأنه يتعذر به على المالك الوصول إلى عين ملكه . وخلط يتيسر معه التمييز - كخلط السود بالبيض ، والدراهم بالدنانير - فهذا لا يكون موجبا للضمان ; لتمكن المالك من الوصول إلى عين ملكه ، فهذه مجاورة - ليس بخلط - . وخلط يتعسر معه التمييز - كخلط الحنطة بالشعير - فهو موجب للضمان ; لأنه يتعذر على المالك الوصول إلى عين ملكه ، إلا بحرج ، والمتعسر كالمتعذر - كما بيناه في الغصب - .

( فإن قيل ) : تمييز الحنطة من الشعير ممكن : بأن يصب من ماء فترسب الحنطة ، ويطفو الشعير ، ( قلنا ) : في هذا إفساد للمخلوط في الحال ، ثم الحنطة لا تخلو عن حبات الشعير ، كما لا يخلو الشعير عن حبات الحنطة ، فما كان من حبات الحنطة لصاحب الشعير يرسب ، وما كان من حبات الشعير لصاحب [ ص: 111 ] الحنطة يطفو ، فعرفنا أن التمييز متعذر بهذا الطريق أيضا . وكذلك خلط الجياد بالزيوف ، إن كان بحيث يتعذر التمييز ، أو يتعسر ، فهو موجب للضمان على الخالط ، وإن كان بحيث يتيسر التمييز ، لا يكون موجبا للضمان عليه ، يقول : فإن لم يظهر بالخلط ، فقال أحدهما : أنا آخذ المخلوط ، وأغرم لصاحبي مثل ما كان له ، فرضي به صاحبه : جاز ; لأن الحق لهما ، فإذا تراضيا على شيء صح ذلك في حقهما ، وإن أبى ذلك أحدهما ، فإنه يباع المخلوط ويقسم الثمن بينهما على قيمة الحنطة والشعير ، على التفسير الذي بيناه في الغصب قبل هذا الجواب . إنما يستقيم على قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله ورواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله في أن ملك المالك لا ينقطع عن المخلوط ، بل له الخيار بين الشركة في المخلوط وبين تضمين الخالط ، فأما على ما هو الظاهر من مذهب أبي حنيفة : المخلوط ملك للخالط ، وحقهما في ذمته ، فلا يباع ماله في دينهما ; لما فيه من الحجر عليه وأبو حنيفة لا يرى ذلك . والأصح : أنه قولهم جميعا ; لأن ملكهما - وإن انقطع عن المخلوط - فالحق فيه باق ، ما لم يصل إلى كل واحد منهما بدل ملكه ، ولهذا لا يباح للخالط أن ينتفع بالمخلوط قبل أداء الضمان ، فلبقاء حقهما يكون لهما أن يستوفيا حقهما من المخلوط ، إما صلحا بالتراضي ، أو بيعا وقسمة الثمن ، إذا لم يتراضيا على شيء .

التالي السابق


الخدمات العلمية