الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال : ) وإذا جاء المغصوب منه يدعي جاريته في يد الغاصب ، وهو منكر فأقام شاهدا أنها جاريته غصبها هذا إياه ، وأقام شاهدا آخر على إقرار الغاصب بذلك لم يجز ; لأنهما اختلفا حين شهد أحدهما بالقول ، والآخر بالفعل ، إذ الفعل غير القول ، وبشهادة الواحد لا يثبت واحد من الأمرين . وكذلك لو شهد أحدهما بالملك له ، وشهد الآخر على إقرار الغاصب له بالملك ; لأن المشهود به مختلف ، وليس على واحد من الأمرين شهادة شاهدين ، وإن شهدا له بالملك وزاد أحدهما ذكر الغصب فالشهادة جائزة ; لأنهما اتفقا في الشهادة على الملك للمدعي ، وتفرد إحداهما بالشهادة بالغصب على المدعى عليه ، فيقضي القاضي بما اتفقا عليه ، وإن شهد أحدهما أنها جاريته ، وشهد الآخر أنها كانت جاريته قضيت بها له ; لأنهما اتفقا في المشهود به ، وهو المالك للمدعي ; لأن ما كان له فهو باق على ملكه أبدا حتى يخرجه من ملكه بحق ، ولم يظهر سبب ذلك ، فعرفنا أن كل واحد منهما شهد له بالملك في الحال وإن شهد أحدهما أنها جاريته اشتراها من فلان ، وشهد الآخر أنها جاريته ورثها عن أبيه لم يجز ; لأن أحدهما شهد له بملك هو أصل فيه مستفاد بسبب أحدثه وهو الشراء ، والآخر شهد له بملك هو خلف عن مورثه فيه ، وأحد الملكين متباين عن الآخر .

ألا ترى أن الوارث يرد بالعيب على بائع مورثه ، ويصير مغرورا بشراء مورثه ، والمشتري لا يرد على بائع بائعه ، ولا يصير مغرورا بسبب شراء بائعه .

( وإذا ) اختلف المشهود به حكما لم يتمكن القاضي من القضاء بشيء .

وإن شهد أحدهما بالشراء من رجل ، والآخر بالشراء من رجل آخر أو بهبة أو صدقة لم تجز الشهادة لاختلافهما في المشهود به وهو السبب ، إما لأن الصدقة والهبة غير الشراء ، أو لأن الشراء من زيد غير الشراء من عمرو ، وإن شهدا أنها جاريته غصبها إياه هذا وقد باعها الغاصب من رجل فسلم رب الجارية البيع بعد ذلك قال : يجوز ; لأن البيع انعقد من الغاصب موقوفا على إجازة المالك ، فإن من أصلنا أن ماله مجيز [ ص: 62 ] حال وقوعه يتوقف على الإجازة ، وأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء ، ولكن الشرط لتمام العقد بالإجازة بقاء المتعاقدين والمعقود عليه والمجيز ، وذلك كله باق هنا .

( وقد ) ذكر في النوادر أن المدعي إذا طلب من القاضي أن يقضي له بالملك ففعل لم يكن له أن يجيز البيع بعد ذلك ; لأنه طلب من القاضي أن يقرر ملكه ، وذلك يتضمن دفع السبب المزيل فيجعل ناسخا للبيع بهذا . وجه ظاهر الرواية أن الملك الذي ظهر له بقضاء القاضي لا يكون أقوى من ملك ظاهر له ، وذلك لا يمنع انعقاد البيع موقوفا ، فلا يمنع بقاء البيع إذا ظهر بالقضاء بطريق الأولى ، فإن كان الغاصب قد قبض الثمن فهلك عنده هلك من مال رب الجارية ; لأن بنفوذ البيع صار الغاصب كالوكيل من جهته بالبيع بطريق أن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء ، وحق قبض الثمن إلى الوكيل ، وهو أمين فيما يقبض ، ألا ترى أنه لو هلك عنده بعد الإجازة لم يضمن فكذلك إذا هلك قبل الإجازة ، ولا يشترط لنفوذ العقد بالإجازة بقاء الثمن ; لأن الثمن معقود به ، ولا يشترط وجوده في ملك المشتري لصحة البيع بعد ابتداء فكذلك لا يشترط بقاؤه لنفوذ البيع بالإجازة ، وكل ما حدث للجارية عند المشتري من ولد أو كسب أو أرش جناية ، وما شابهها فهو للمشتري ; لأن عند إجازته ينفذ البيع ، ويثبت الملك للمشتري من وقت البيع ، فإن سبب ملكه هو العقد ، وكان تاما في نفسه ، ولكن امتنع ثبوت الملك به لمانع ، وهو حق المغصوب منه ، فإذا ارتفع ذلك بالإجازة ثبت الملك له من وقت السبب ; لأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء فتبين أن الزوائد حدثت على ملكه ، وإن لم يسلم المبيع ، وأخذها أخذ جميع ذلك معها ; لأنه بقي ملكه مقررا فيها ، وإنما يملك الكسب والأرش والولد بملك الأصل ، فإن أعتقها المشتري لم ينفذ عتقه قبل أن يجيز المالك البيع عندنا .

( وقال ) ابن أبي ليلى عتقه نافذ ، والغاصب ضامن قيمتها للمغصوب منه ; لأن الإعتاق قبض بطريق الإتلاف ، فإنه ينعدم به محلية البيع كما بالإتلاف حقيقة ، فهناك الغاصب يضمن قيمتها ، وينفذ البيع بينه وبين المشتري إذا ضمن قيمتها ، فهنا كذلك اعتبارا للحكمي بالحقيقي ، ولكنا نقول : حصول القبض والإتلاف بنفوذ العتق لا بالتكلم به ، وشرط نفوذ العتق ملك المحل قال صلى الله عليه وسلم : { لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم } والبيع الموقوف ضعيف في نفسه ، فلا يثبت الملك به قبل الإجازة كالهبة قبل القبض ، فإن الموهوب له لو أعتق الموهوب قبل أن يقبض لم يعتق ، ولا يصير قابضا به ، فهذا مثله ، بخلاف الإتلاف فإنه حسي يتحقق في الملك [ ص: 63 ] وغير الملك ، ولا نقول : المشتري بالإتلاف يصير مالكا متى كان للمغصوب منه أن يضمن المشتري إن شاء ، فإنأجاز المغصوب منه البيع بعد ما أعتق المشتري الجارية جاز البيع ، ولم ينفذ عتق المشتري في القياس ، وهو قول محمد وزفر رحمهما الله ، وفي الاستحسان ينفذ عتقه وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ، هكذا يرويه محمد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة ، ( قال ) أبو سليمان : وكنا سمعنا من أبي يوسف روايته عن أبي حنيفة أنه لا ينفذ عتقه وجه القياس أن هذا عتق ترتب على عقد توقف نفوذه لحق المالك ، فلا ينفذ بنفوذ العقد كالمشتري بشرط الخيار أقوى من البيع الموقوف ، فإنه متفق على جوازه ، ويتم بموت البائع وبسكوته حتى تمضي المدة .

والبيع الموقوف مختلف في جوازه ، وهو يبطل بموت العاقد وبموت المالك ، ولا يتم بدون الإجازة ; لأن هذا العتق توقف على إجازة مالك ظاهر الملك ، فإن المالك لو أجاز العتق عن نفسه عتق من جهته ، فلا ينفذ من جهة من يحدث له بالملك كالمشتري من المكره إذا أعتق قبل القبض ، ثم رضي المكره بالبيع لم ينفذ عتق المشتري . يوضحه أن البيع والعتق توقفا على إجازة المالك ، ثم لو أجاز العتق بطل البيع فكذلك لو أجاز البيع يبطل العتق لما بينهما من المنافاة في حقه ، والدليل عليه أن الغاصب لو أعتق ثم ضمن القيمة لم ينفذ عتقه ، والملك الثابت له بالضمان أقوى من الملك الثابت للمشتري هنا حتى ينفذ بيعه لو كان باعه هناك ، ولا ينفذ بيع المشتري هنا لو كان باعه ، ثم هناك لم ينفذ عتقه فهنا يتقوم . وكذلك لو كان المشتري من الغاصب أعتق ، ثم إن المالك ضمن الغاصب حتى نفذ بيعه لم ينفذ عتق المشتري فكذلك إذا نفذ البيع بإجازة المالك .

وجه الاستحسان أن هذا عتق ترتب على سبب ملك تام فينفذ بدون السبب بالإجازة ، كالوارث إذا أعتق عبدا من التركة ، وهي مستغرقة بالدين ، ثم يسقط الدين أو المشتري من الوارث إذا فعل ذلك . وتقرير هذا الكلام أن العقد الموقوف سبب تام في نفسه ، وانعقاده بكلام المتعاقدين ، ولهما ولاية على أنفسهما ، فإذا أطلقا العقد انعقد بصفة التمام ; لأن الممتنع ما يتضرر به المالك ، وكما لا ضرر على المالك بانعقاد السبب لا ضرر عليه في تمام السبب ; لأنه ليس من ضرورة إتمام السبب اتصال الحكم به فقد يتراخى عنه ; لأن الأسباب الشرعية لا تنعقد خالية عن الحكم ، ولكن يجوز أن يتأخر الحكم عن السبب ، والضرر على المالك في إثبات الملك للمشتري ; لأن من ضرورته زوال ملكه فيتأخر ذلك إلى وقت الإجازة ، ويبقى السبب تاما ، والدليل عليه أن الإشهاد على [ ص: 64 ] النكاح يعتبر وقت العقد لا عند الإجازة ، والنكاح ينعقد مع التوقف ، وما يمنع تمام السبب فالنكاح لا يحتمله كخيار الشرط . والدليل عليه أن الغاصبين إذا تصارفا وتقابضا وافترقا ثم أجاز المالكان فمحمد يوافقنا أنه يجوز ، وما يمنع تمام السبب لا يكون عفوا في الصرف بعد الافتراق كخيار الشرط ، والدليل على تمام السبب أنه يملك المبيع عند الإجازة بزوائده المنفصلة والمتصلة .

( وإذا ) ثبت أن السبب تام فنقول : العتق قبض حتى أن المشتري إذا أعتق المبيع قبل القبض يصير قابضا ، والقبض بعد تمام السبب يتوقف بتوقف السبب ، وينفذ بنفوذه كالقبض الحقيقي في المبيع أو الثمن ، والدليل عليه أن رجلا لو قال للغاصب : أعتق هذا العبد عني بألف درهم فأعتقه ثم أجاز المالك نفذ بالإجازة العتق والبيع جميعا ، فهذا مثله بل أولى ; لأن سبب الملك هناك مضمر ، وهنا مفصح به ، ولا وجه لمنع هذا ، فإنه لو التمس هذا من المالك فأجابه إليه كان نافذا فكذلك إذا التمس من غير المالك فأجابه إليه وأجازه المالك ، وهذا بخلاف البيع بشرط الخيار ; لأن السبب هناك غير تام ، فإن قوله على أني بالخيار مقرون بالعقد نصا ، وتعليق العقد بالشرط يمنع كونه سببا قبل وجود الشرط ; ولهذا لم يجز البيع قياسا ; لأنه أدخل الشرط على السبب ، وفي الاستحسان يجعل الشرط داخلا على حكم السبب فينعقد أصل العقد ، ويكون في حق الحكم كالمتعلق بالشرط ، والمتعلق بالشرط معدوم قبله ، ألا ترى أنه لو قال : إذا جاء عبدي فلله علي أن أتصدق بدرهم فتصدق به اليوم لا يجوز بخلاف ما لو قال : لله علي أن أتصدق بدرهم غدا فتصدق به اليوم يجوز ، فعرفنا أن التوقف لا يمنع تمام السبب ، والتعليق بالشرط يمنع منه ، يوضح الفرق أن في العقد الموقوف يثبت ملكا يليق بالسبب ، وهو الملك الموقوف ; لأن هذا القدر لا يزيل ملك المالك ، ولا يتضرر به ، فإنما ترتب على ملك موقوف فيتوقف بتوقفه ، وينفذ بنفوذه ، فأما الشرط في مسألة الخيار كما يمنع الملك التام يمنع الملك الموقوف فلم يترتب عتق المشتري على ملك في المحل أصلا ، ومسألة المكره قد منعها بعض أصحابنا رحمهم الله

والأصح أن نقول : بيع المكره فاسد ; ولهذا لو أعتقه المشتري بعد القبض ينفذ عتقه ، والبيع الفاسد قبل القبض ضعيف غير تام في حكم الملك كالهبة قبل القبض ، فلا يثبت به ملك تام ولا موقوف في المحل ; فلهذا لا ينفذ عتقه ، وعتق المشتري مخالف لبيعه ; لأن البيع ليس بقبض ، ألا ترى أنه لو باع المبيع قبل القبض لا يصير به قابضا ، وإنما يتوقف بعد تمام السبب ما هو من حقوقه ، والعتق من حقوقه [ ص: 65 ] من حيث إنه قبض ، ومن حيث إن الشراء موجب ، وهو شراء القريب ، فإنه إعتاق بخلاف البيع . يوضحه أن البيع قاطع للملك ، والعتق منه له ، ألا ترى أن المشتري لو باع المبيع ، ثم اطلع على عيب به لا يرجع على بائعه بحصة العيب من الثمن ، بخلاف ما لو أعتقه فلكون العتق منهيا للملك يتوقف بتوقف الملك حتى إذا تم انتهى به ، والبيع لكونه قاطعا للملك لا يجوز أن يتوقف بتوقف الملك ، وهذا بخلاف ما لو أجاز المالك العتق ; لأنه بإجازة العتق عن نفسه يبطل محل البيع ، فلا يمكن تنفيذ البيع به ، وبإجازة البيع يمتد محل العتق للمشتري ، وهو المالك فينفذ العتق من جهته ، وهذا بخلاف الغاصب إذا أعتق ، ثم ضمن القيمة ; لأن المستند له حكم الملك لا حقيقة الملك ; ولهذا لا يستحق الزوائد المنفصلة ، وحكم الملك يكفي لنفوذ البيع دون العتق ، كحكم ملك المكاتب في كسبه ، وهذا الثابت للمشتري من وقت العقد حقيقة الملك ; ولهذا استحق الزوائد المنفصلة والمتصلة .

فأما إذا أعتقه المشتري ثم نفذ البيع بتضمين الغاصب فالأصح أنه ينفذ العتق أيضا ، هكذا ذكر هلال رحمه الله في كتاب الوقف فقال : ينفذ وقفه على طريقة الاستحسان فالعتق يتقوم ، وبعد التسليم يقول : هناك المشتري يملكه من جهة الغاصب ، وقد بينا أنه لا يستند للغاصب حقيقة الملك فكيف يستند لمن يملك من جهته فلهذا لا ينفذ عتقه ، وهنا إنما يستند الملك له إلى وقت العقد من جهة المجيز ، والمجيز كان مالكا له حقيقة فيمكن إثبات حقيقة الملك للمشتري من وقت العقد بالطريق الذي قلنا : فلهذا نفذ عتقه .

التالي السابق


الخدمات العلمية